بدأت إيران في منتصف عام 2021 مرحلة جديدة لتعزيز نفوذها في مختلف القطاعات الحيوية في حلب شمال سوريا، وبدأت ملامح المرحلة المفترضة بالظهور مع افتتاح القنصلية الإيرانية والمكتب الاقتصادي الملحق بها، وتنفيذ عدة مشاريع حيوية في محيط المقامات الدينية، تمهد لبقاء طويل داخل المدينة وفي ريفها.
كما أن النجاح الإيراني في تصفير المشاكل بين المليشيات العشائرية التي يدعمها الحرس الثوري ساهم إلى حد كبير في عمليات التوسع عبر خطوات جدية وأكثر تنظيمًا من السابق.
الاستثمار في المقامات الدينية
رغم الإعلان عن افتتاح القنصلية الإيرانية في حلب في شهر مايو/أيار الماضي، فإن ما تسرب من صور للقنصلية وموقعها وسط المدينة يكاد لا يذكر، واقتصر الأمر على نشر بعض الصور من داخل المبنى في أثناء مراسم الافتتاح التي حضرها مسؤولون من النظام والقنصل الإيراني المكلف ومسؤولون في السفارة الإيرانية بدمشق ومفتي حلب وفعاليات دينية وعشائرية مقربة من الحرس الثوري في حلب.
في 23 من سبتمبر/أيلول نشر موقع نورث برس المقرب من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي pyd، فيديو مسجل تظهر فيه عدد من نقاط التمركز الإيراني في حلب، ومن بينها القنصلية التي تتوسط منطقة إستراتيجية على أطراف حي الزبدية وبالقرب من جامع المشهد في حي الإذاعة، وتعتبر هذه المشاهد الأولى التي يتم تداولها لموقع القنصلية، وتوضح جزءًا من حجم الانتشار الإيراني بحلب والتوسع الملحوظ للمليشيات العشائرية التي تدعمها داخل المدينة، وأبرزها لواء الباقر وفيلق المدافعين عن حلب.
بداية شهر سبتمبر/أيلول بدأت القنصلية الإيرانية في حلب عمليات توسعة في محيط جامع المشهد (مشهد الحسين) على كورنيش حي الإذاعة، ومن المفترض أن تضم التوسعة الجديدة للمقام مبانٍ سكنية للعاملين فيه ولمجموعات الحماية، بالإضافة لأبنية فندقية لاستقبال الزوار، ومن المفترض أن يضم المشروع أيضًا مرافق خدمية وترفيهية.
وترجع ملكية المنطقة المحيطة بجامع المشهد في قسم كبير منها للأوقاف، وحصلت القنصلية على امتياز الاستملاك بسهولة ودون أي تدخل من مجلس المدينة بحكم العلاقة الوثيقة التي تربط القنصل بمفتي حلب الشيخ محمود عكام ومدير الأوقاف بحلب محمد رامي العبيد.
مصادر متطابقة في حلب قالت لموقع “نون بوست”: “شكل التغلغل الإيراني في حلب اختلف في الفترة التي تلت افتتاح القنصلية، فأصبح التركيز أكبر على القطاع الثقافي والديني ودعم البنى الاجتماعية الموالية للمشروع الإيراني، كالتوسع في بناء الحوزات الدينية والحسينيات والاهتمام بشكل أكبر بالاحتفالات الدينية الخاصة، ورعاية أسر قتلى المليشيات العشائرية الموالية لإيران عبر دعم الجمعيات والمنظمات الناشئة حديثًا، بالإضافة إلى الأنشطة المتنوعة الترفيهية والثقافية والتعليمية التي تنظمها وتدعمها القنصلية في أحياء المدينة وقطاعات السيطرة التابعة لفيلق المدافعين عن حلب في المدينة وريفها الجنوبي وفي بلدتي نبل والزهراء شمالًا، وإقامة النوادي الطفلية بشكل منتظم وهي أشبه ما تكون بفرق الكشافة التي يشتهر بها حزب الله اللبناني”.
القنصلية تنظم العلاقة بين المليشيات
تحولت القنصلية الإيرانية في حلب إلى قبلة يقصدها التجار وشيوخ العشائر وزعماء المليشيات والصناعيون لضمان مصالحهم وذلك بحكم النفوذ الواسع للقنصل في مختلف المؤسسات الخدمية والأمنية والعسكرية بحلب، ونجحت القنصلية في حل الكثير من الخلافات العالقة بين المليشيات العشائرية وتوحيد جهودها، أهمها إنهاء حالة التوتر بين لواء الباقر وفيلق المدافعين عن حلب من جهة، ولواء علي زين العابدين من جهة ثانية.
ويمثل الباقر عشيرة البكارة، بينما تمثل مليشيا زين العابدين عشيرة الجيس (آل بري) التي يتزعمها عضو مجلس الشعب حسن شعبان بري.
قال الباحث في مركز الحوار السوري محمد سالم لموقع “نون بوست”: “لحلب أهمية كبيرة للإيرانيين في سوريا، كونها المدينة الثانية في عدد السكان وتلي دمشق بالأهمية، والايرانيون بالفعل يراهنون على الاستثمار طويل الأمد من خلال نشر التشيع السياسي الموالي لإيران، بالتالي التعويل على البنى العشائرية مهم جدًا، ويتم العمل على تشييع هذه العشائر تدريجيًا في حال بقي الوضع بهذا الشكل، والتوسع في النفوذ الإيراني في حلب ومختلف المناطق الأخرى في دمشق ودير الزور خطير بالفعل لأنه يعتمد على التغيير الديموغرافي الإحلالي، سواء من خلال طرد السكان المعارضين للنظام أم التضييق عليهم أم نشر التشيع بينهم ليغدو ولاؤهم لإيران”.
تأسس لواء علي زين العابدين في أواخر العام 2012، وكان عبارة عن كتيبة صغيرة تضم العشرات من آل بري الغاضبين من المعارضة التي قتلت شيخهم علي زين العابدين بري (زينو بري)، أحد أبرز وجوه العائلة والأكثر ولاءً للنظام وقائد مجموعات من الشبيحة التي قمعت ولاحقت المتظاهرين في حلب بداية الثورة، وكان له دور كبير في تأخير سيطرة الجيش الحر على حي باب النيرب في حلب منتصف العام 2012.
في العام 2013 بدأ اللواء يتوسع بعد حصوله على الدعم الإيراني والتدريب، وانضم إلى صفوفه المزيد من أبناء آل بري وعشيرة جيس في حلب، وساهم حزب الله اللبناني في تخريج أعداد كبيرة من مقاتلي المليشيا في معسكرات مطار حلب الدولي ومنطقة معامل الدفاع وجبل عزان في ريف حلب الجنوبي.
ولاحقًا شارك اللواء إلى جانب المليشيات الإيرانية في معظم معاركها ضد المعارضة في أرياف حلب الجنوبية والشمالية، ومعركة الأحياء الشرقية، ومعارك إدلب وحماة، ويتزعم اللواء في الوقت الحاليّ كل من الحاج حميد بري والحاج جاسم بري وهما أبناء عمومة الشيخ حسن شعبان بري.
نشأة لواء علي زين العابدين تشبه الى حد كبير نشأة لواء الباقر، فكل تشكيل يمتلك سردية خاصة لمظلوميته في المواجهة مع المعارضة في أثناء دخولها إلى حلب منتصف العام 2012، وكلاهما يمثل طيفًا عشائريًا واسعًا مواليًا للنظام، وله الدور البارز في تأخير التحاق حلب بباقي المحافظات الثائرة عام 2011، وكلاهما تعرض لضربة موجعة بالفعل عندما دخلت طلائع الجيش الحر إلى حلب في العام التالي.
لكن الخلافات والتنافس بين العشيرتين بدأ بالظهور بعد خروج المعارضة من حلب نهاية عام 2016، وجرت صدامات متكررة بين تشكيلاتهما المسلحة في الأحياء الشرقية، وحاول آل بري الاستعانة بالنفوذ الروسي عبر زعيم مليشيا النمر سهيل الحسن، لكنها فشلت أمام نفوذ البكارة ولواء الباقر ذات الأعداد الأكبر والثقل العشائري والعسكري الكبير في المدينة.
بداية شهر سبتمبر/أيلول اجتمع القنصل الإيراني بزعماء العشيرتين، وتم الاتفاق على تصفير الخلافات بينهما، وبعد أيام من اللقاء نظم لواء الباقر في معقله الرئيسي في حي البللورة بحلب مجلس عزاء للحاج عباس اليتامي أحد أبرز قادة حزب الله اللبناني الذي كان له دور في تدريب ودعم المليشيات العشائرية في حلب، الذي توفي في ظروف غامضة في شهر أغسطس/آب الماضي، وتطلق عليه المليشيات الإيرانية لقب “قائد تحرير حلب”.
وحضر المجلس مسؤولون من مختلف المليشيات الإيرانية بحلب، بينهم قادة في لواء علي زين العابدين، ونظم الأخير مجلس عزاء آخر للحاج عباس في حي باب النيرب ودعا إليه أيضًا مسؤولين من الباقر والقنصلية الإيرانية ومن فيلق المدافعين عن حلب ومن مليشيا نبل والزهراء.
يرى الباحث في الشأن السوري محمد السكري أن “إيران تصب تركيزها بشكل أساسي على محافظة حلب كونها تملك أكبر عدد قواعد عسكرية في المدينة، وذلك بسبب توافر البيئة المواتية من حيث الحواضن الاجتماعية التي قدم بعضها الولاء كلواء الباقر وبكون روسيا وتركيا والولايات المتحدة يركزون على المناطق الجغرافية الأخرى، فإيران تريد أن تجعل من حلب قاعدة عمليات متقدمة تساعدها على ضبط وترسيخ وجودها في سوريا بما يضمن لها حصاد تدخلها الطويل واستدامته”.
أضاف السكري خلال حديثه لموقع “نون بوست” “على الرغم من التركيز على دعم المليشيات العشائرية لا يمكن لإيران التعويل عليها بصورة قطعية لتؤسس لنفوذ طويل الأمد، جزء كبير من التحالفات مصلحي، ومن المعروف أن العشائر لديها مواقف متغيرة، وهي أكثر براغماتية، فالصراع السوري ما زال يحتمل الكثير من التغييرات في المشهد السياسي والعسكري الذي يعتبر الولاء جزءًا منه لا سيما كلما استطاعت روسيا وتركيا التوصل لتفاهمات نهائية أو مستدامة بخصوص المناطق الأخرى ما يعني عودة التركيز على حلب وهذا يعني أن احتمال تبدل الولاءات غير مستبعد”.
قال السكري: “لا يمكن التقليل من السياسة الإيرانية في سوريا، فهي الأخطر من بين قوى الصراع المتنافسة، فإيران لا تخفي مشروعها الثقافي العقائدي على عكس كل من روسيا والولايات المتحدة اللتين تمتلكان مشاريع سياسية واقتصادية إستراتيجية، وهذا ما يجعل الإجراءات التي تتخذها إيران تدعو للقلق، فالمشاريع الثقافية تفرض تغييرًا شاملًا في بنية المجتمع السوري”.