السودان.. ماذا بعد “ميثاق قاعة الصداقة” ورسالة إبراهيم الشيخ للبرهان؟

IMG_٢٠٢١١٠٠٢_١٢٤٨٥٩-960x720

حدثان اثنان شهدهما يومُ السبت الماضي فاقما من الأزمة السياسية بين شريكَي الحكم في السودان، الأول تمثّل في توقيع عدد من الحركات المسلحة وبعض الأحزاب السياسية على ما أطلقوا عليه اسم “ميثاق التوافق الوطني لوحدة قوى الحرية والتغيير”، فيما كان الحدث الثاني رسالة شديدة اللهجة من وزير الصناعة السوداني إبراهيم الشيخ وجّهها إلى رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان.

سبق هذان الحدثان هجومٌ إعلاميٌّ متبادل بين المكوَّنَين العسكري والمدني، ابتدره رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان عقب المحاولة الانقلابية التي تمَّ الإعلان عنها أواخر الشهر الماضي، قبل أن يتصدّى له وزير شؤون مجلس الوزراء خالد يوسف عمر، ثم جدّد البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو الهجوم على الحكومة المدنية واتّهموها بالتسبُّب في كل الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، الأمر الذي دفع عضو مجلس السيادة محمد الفكي للردِّ عليهما، ما فاقم الحرب الكلامية بين الطرفَين.

تصاعد التوتر بين شريكَي الحكم في السودان دفع عددًا من الشركاء الدوليين إلى التدخُّل لخفض التصعيد، حيث أرسلت الولايات المتحدة مبعوثها للقرن الإفريقي جيفري فيلتمان إلى الخرطوم لتحذير البرهان من مغبّة تنفيذ انقلاب عسكري على الشريك المدني، إذ يُعتقد على نطاق واسع أنه ونائبه دقلو يسعيان إلى تنفيذ انقلاب يستبق نقل رئاسة مجلس السيادة إلى المكوَّن المدني كما نصّت الوثيقة الدستورية، وهدّدت الولايات المتحدة عبر مبعوثها -الذي اجتمع مع كافة الأطراف- بأنها ستقوم بإيقاف المساعدات التي تعهّدت بها إلى السودان، إذا حدث أي تقويض للاتفاق الدستوري.

ميثاق قاعة الصداقة يحظى بدعم العسكر

نهار السبت الماضي، أعلنت حركات مسلحة سودانية وأحزاب سياسية عمّا قالت إنه ميثاق جديد لتوسيع الحاضنة السياسية للثورة، متهمة المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير بالسعي للانفراد بالسلطة وإقصاء باقي التيارات المدنية.

خلال الاجتماع -الذي عُقد في قاعة الصداقة بالخرطوم- أعلنت نحو 16 حركة مسلحة وكيانًا سياسيًّا منشقًّا من قوى الحرية والتغيير، إطلاق ميثاق “التوافق الوطني”، ومن أبرز الموقّعين على هذا الإعلان حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم.

المشكلة تكمن في دعم العسكر للميثاق بلا تحفُّظ.

نصَّ الميثاق على السعي لإقامة دولة عادلة بنظام فيدرالي والتمسُّك بالحكم المدني، إلى جانب: توسيع قاعدة المشاركة السياسية، ضمان وحدة وأمن السودان، إكمال عملية السلام، دعوة باقي الحركات المسلحة للانخراط بالعملية السلمية، عودة النازحين ومعالجة أوضاعهم، إكمال مؤسسات الدولة والتأكيد على إزالة التمكين وفق القانون.

الخطوط العريضة أعلاه للميثاق لا بأس بها من حيث المبدأ نظريًّا، إلا أن المشكلة تكمنُ في دعم العسكر للميثاق بلا تحفُّظ، إذ حُظي الإعلان عن ميثاق التوافق الوطني بدعم سريع من العسكريين قبل أن يجفَّ الحبر الذي كُتب به الإعلان، حيث قال عنه العميد الطاهر أبوهاجة، مستشار رئيس مجلس السيادة، إن العودة إلى منصة تأسيس “قوى الحرية والتغيير” هي عودة إلى الحق والتوافق الوطني الشامل.

وأشار المستشار الإعلامي إلى أن من يرفضون العودة إلى المنصة ستتجاوزهم الأحداث، ولن يستطيعوا الوقوف في وجه ما وصفه بـ”التيار الجماهيري الجارف الذي يعبِّر عن إرادة الشعب”. وأضاف أن الشارع بحراكه ولجان مقاومته، لن يضيّع وقتًا أكثر من الذي مضى، فالجميع متمسِّكون بضرورة تكملة هياكل السلطة السياسية والتنفيذية والدستورية، حسب تعبير مستشار البرهان.

هذا الدعم العسكري الذي جاء في غضون ساعات قليلة، أثار مخاوف عديدة لدى الثوار من احتمالية وجود صفقة بين موقّعي الميثاق والعسكر، فعلى النقيض تمامًا من حديث أبو هاجة كانت ردّة فعل السواد الأعظم من الشارع السوداني، إذ اتّهمَ معظم النشطاء وقيادات لجان مقاومة الأحياء البرهان وحميدتي بالسعي لتشكيل حاضنة سياسية جديدة عبر اجتماع قاعة الصداقة، لتكون واجهة مدنية أمام المجتمع الدولي الذي يرفض سيطرة العسكر على السلطة، كما أوضح الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس، والمبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي جيفري فيلتمان، وغيرهما من المبعوثين الذين توافدوا على الخرطوم الأسبوع الماضي.

رفض شعبي للميثاق 

عبّر أكثرية السودانيين عن رفضهم للحاضنة السياسية الجديدة للبرهان عن طريق التغريد على هاشتاغَي #انقلاب_قاعة_الصداقة و#الحاضنة_السياسية_للانقلاب، اللذين تمَّ إطلاقهما على موقع تويتر بالتزامن مع حفل التوقيع على الميثاق، فكتبت إحدى المغردات: “لا تنتظروا من المؤسسة العسكرية ان تنتج لكم عسكري صالح يحمي البلاد ولا يدس انفه فيما لا يعنيه، فالافعى لا تلد حمائم السلام. يذهب طاغية انقلابي وياتي اخر، هذا ما منحنا إياه الجيش السوداني، ولا شيء سواه، منذ قيام الدولة. لن يكون البرهان آخرهم”.

 

 

بينما دوّن حساب “سودان بوست”: “بعد حشد أطفال الخلاوي في قاعة الصداقة وتجويعهم لحدي ما اضطر بعضهم على تسلق أشجار النخيل في حديقة القاعة ليحصدو بعض البلح الأخضر لرفاقهم لسد رمق الجوع، والمؤسف أكثر من ذلك الأطفال شربو الموية من النافورة”.

 

 

ومن جهته، قال المغرّد وليد آدم الذي يهتم بالتحركات العسكرية: “طائرة شحن من طراز Il-76 روسية تعمل مع الجيش الليبي كانت في السابق مملوكة في للشركة (قرين فلاق) السودانية. يشتبه بتنفيذها عمليات نقل سلاح بشكل غير قانوني الى ليبيا. سقوط العسكر سيفتح ملفات كارثية على دول المحاور”.

 

 

وغير ذلك من آلاف التغريدات التي أشارت إلى أن المشاركين في لقاء قاعة الصداقة كان معظمهم من أتباع النظام البائد، إضافة إلى طلاب الخلاوي الذين تمَّ حشدهم للقاعة، إلى جانب عدد من قيادات الإدارة الأهلية قامَ باستقطابهم المكوَّن العسكري بالاتفاق مع الحركات المسلحة والقوى السياسية التي تحالفت معه.

والغريب في الأمر أن 3 من قادة ميثاق قاعة الصداقة يشغلون مناصب رفيعة في الحكومة الانتقالية التي يريدون الانقلاب عليها، فجبريل إبراهيم يشغل منصب وزير المالية الاتحادي، ومناوي حاكم عام إقليم دارفور بولايته الخمس، بينما يشغل مبارك أردول وظيفة مدير شركة الموارد المعدنية، والأخير تلاحقه اتهامات بالتورُّط في ملفات فساد.

اتهامات لمصر بالتورُّط في تشكيل الحاضنة الجديدة 

المتحدثة الرسمية باسم مبادرة حمدوك لدعم الانتقال، رشا عوض، قالت بشكل صريح إن ما يجري الآن هو تكوين حاضنة سياسية جديدة لانقلاب البرهان المرتقب بدعم مصري، مبيّنةً في حديث لصحيفة “مداميك” أن الحاضنة تتكوّن من المنشقّين عن قوى الحرية والتغيير، وعلى رأسهم جبريل إبراهيم ومني أركو مناوي ومحمد وداعة وآخرون، وأضافت: “أكثر العناصر التي زرعها صلاح قوش في تحالف الحرية والتغيير ستكون في الحاضنة الجديدة، وسيظل بعض عملاء قوش في الحرية والتغيير لإحداث البلبلة والتخريب”.

وأشارت المتحدثة باسم مبادرة حمدوك إلى سعي مصر إلى أن تكون الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو جزءًا من هذه الحاضنة، وكشفت عن مقدمات، لذلك بدأت منذ عامَين بالقاهرة، تمَّ فيها الإعلان عن تحالف سياسي بين الحزب الاتحادي الأصل بقيادة الميرغني والحركة الشعبية.

هجوم وزير الصناعة على البرهان 

فاجأ وزير الصناعة إبراهيم الشيخ الجميع بالهجوم العنيف الذي شنّه على رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، ردًّا على اتهامات الأخير للقوى المدنية بالفشل، إذ قال له إن بحوزتك “10 مليارات دولار عبارة عن رأس مال مؤسسات منظومة الصناعات الدفاعية، تصنِّع السلاح وتدير المسالخ وتصنع اللحوم وتصدِّر ما تصدِّر من غير حسيب ولا رقيب، وتتمنّع من دفع دولار واحد لدعم الحكومة والموازنة من مال الشعب، ثم لا تستنكف عن الشكوى وضيق ذات اليد وتبكي حال القوات المسلحة كما بكراوي قائد الانقلاب”.

كما اتّهمَ الشيخ، وهو قيادي بارز في حزب المؤتمر السوداني، البرهان بالتورُّط في مجزرة فضّ الاعتصام بقوله: “تفضّون اعتصامًا سلميًّا وتكبّدون القوى المدنية والشباب آلاف الشهداء، وتعجز عن التصدي لتِرِك الذي يسدُّ الطرقات ويمنع القمح والدواء والوقود عن الناس ويسدر في غيه وأنت تقول إنها الحرية، وأن ما يفعله تِرِك عملًا سياسيًّا، التفاوض معه استمرَّ لـ 3 أسابيع الآن والرجل يتمنّع ويطلب المستحيل وأنت ونائبك تحشدا الحشود لليوم المشهود”.

وتابع وزير الصناعة في رسالته للبرهان: “هل تظن أن آلاف الشهداء الذين تساقطوا في الطريق للتغيير والدولة المدنية والحرية والديمقراطية ستطوى ذكراهم بحشود الإدارة الأهلية، التي اشتراها حميدتي ببضعة سيارات ودراهم ملوَّثة بالدم؟”.

معركة كسر العظم

توقّعنا في تقرير سابق لـ”نون بوست” أن يستمرَّ الصراع بين الطرفَين رغم الوساطات الدولية: الشق العسكري المدعوم بجزء من الحركات المسلحة وبعض الأحزاب الصغيرة المنشقة من قوى التغيير + عناصر النظام السابق، والشق الآخر الذي تمثله أغلبية القوى المدنية والذي ما زال يراهن على وعي الشارع ورفضه لمخططات العسكر، بدليل عدم نجاح سيناريو العسكر المتمثل في إغراق البلاد في حالة من التردي الاقتصادي والتدهور الأمني.

سيستمر الصراع بين المكوَّنَين، العسكري المدعوم من الحركات المسلحة، وبعض الأحزاب المنشقة من قوى التغيير إضافة إلى عناصر النظام السابق، والمكوَّن الآخر الذي يضمُّ الجزء الأكبر من قوى الحرية والتغيير إلى جانب تجمُّع المهنيين السودانيين.

كما ظهرت في الآونة الأخيرة حالات عصيان قَبَليّ في أطراف السودان ضد الحكومة المدنية، تجلّت أكثر في شرق السودان، بإغلاق الموانئ البحرية وخط سكة الحديد والطريق البرّي، وأثار مواقف العسكر من هذه التطورات العديد علامات الاستفهام، حيث اعترف قائد الحراك، وهو ناظر قبيلة الهدندوة محمد الأمين تِرِك، بأنه يتمتّع بحماية البرهان، بينما أشاد عضو المجلس الفريق شمس الدين الكباشي بسلمية الحراك في شرق السودان.

أيضًا روّج العسكر لوجود مشكلة سياسية في الشرق تستوجب معالجتها من الحكومة المدنية، على الرغم من أن تلك المشكلة تفجّرت بسبب اتفاق سلام جوبا، الذي وقّعه محمد حمدان دقلو “حميدتي” مع أحزاب محسوبة على إقليم الشرق، ورفضه عدد من المكوَّنات السياسية والقَبَلية.

هل سيحتفظ المكوَّن المدني بدعم الشارع؟

ما حدث في قاعة الصداقة يمكن اعتباره جزءًا من مخططات المكوَّن العسكري للاحتفاظ بالسلطة وتشكيل حاضنة سياسية موالية ومطيعة له، خاصة أنه قبل انعقاد اللقاء بيوم واحد تمَّ تسريب خطاب منسوب إلى مجلس السيادة يدعو فيه البعثات الدبلوماسية لحضور توقيع ميثاق الحرية والتغيير، ثم ما لبث أن قام مجلس السيادة بإلغاء دعوة البعثات الدبلوماسية بعد أن تسرّب الخطاب على نطاق واسع، ما شكّل فضيحة كبيرة للمكوَّن العسكري الذي من الواضح أنه اختطف القرار داخل مجلس السيادة، ويتحكم في كل ما يجري باسم المجلس.

على الأرجح سيستمر الصراع بين المكوَّنين، العسكري المدعوم من الحركات المسلحة، وبعض الأحزاب المنشقة من قوى التغيير إضافة إلى عناصر النظام السابق، والمكوَّن الآخر الذي يضمُّ الجزء الأكبر من قوى الحرية والتغيير إلى جانب تجمُّع المهنيين السودانيين، وربما يدخل الصراع مرحلة يكون فيها اللعب على المكشوف بلا مواربة، بعد أن سارع العسكر إلى دعم ميثاق قاعة الصداقة.

ولذلك يبقى التحدي في كيفية احتفاظ المكوَّن المدني بدعم السواد الأعظم من الشارع، فالمواطن السوداني أُرهق بفعل الغلاء الطاحن وانعدام الأمن وتردّي الخدمات، فقد استفاد العسكر جدًّا من ضعف أداء وزراء الحكومة المدنية، وقلّة خبرتهم السياسية، وتصارُع أحزاب قوى التغيير على المناصب والكراسي، إلى جانب غياب المجلس التشريعي بسبب عدم تشكيله حتى اللحظة.

الدعم الدولي الكبير لحكومة حمدوك الحالية، لن يكون له قيمة كبيرة إذا لم ينجح المكوَّن المدني في تحقيق اصطفاف شعبي كبير، ربما يتحقق بإجراء إصلاحات في التركيبة السياسية تضمن توحُّد تجمُّع المهنيين السودانيين وإعادة الثقة إليه، فضلًا عن أهمية مخاطبة الجماهير وتبصيرها بمخططات العسكر الذين يتّخذون من الحركات المسلحة والأحزاب الصغيرة واجهة لهم، حتى يتمكّنوا من الانقضاض على ما تبقّى من الفترة الانتقالية، وشرعنة بقائهم في السلطة بتفويض شعبي على طريقة السيسي في مصر، أو بانتخابات صُورية تضمن وجودهم في الحكم وإفلاتهم من المحاسبة على مجزرة فضّ الاعتصام وغيرها من الجرائم التي اتُّهموا بارتكابها.