ما إن بدأت نتائج الانتخابات التونسية في الظهور، وحتى قبل أن تتاح فرصة تحليلها كما يجب، أخذت دوائر إعلامية وسياسية عربية في الاحتفال بهزيمة النهضة، وكأن النهضة حزب سوبرماني لا يقهر، أو أنه وافد من كوكب فضائي بعيد، لا تنطبق عليه قوانين السياسة الأرضية. وفي استمرار لمناخ الكراهية المستبطنة والخوف الدفين، لم تتردد دوائر غربية في الثناء على النهضة وعلى حكمتها وديمقراطيتها، على اعتبار أن الحزب الإسلامي الجيد هو الحزب «المهزوم» في الانتخابات، أو الحزب خارج السلطة والحكم.
ما حدث في تونس، في الحقيقة، هو عملية انتخابية، تعددية، بحتة، ليس فيها من الغرابة شيء، ولابد أن تفهم في ضوء تطورات سياسية تونسية، وميزان قوى عربي أوسع. وإن كان في نتائج الانتخابات التونسية من رسالة، فلابد أن تكون الخشية والحذر من أن يقود الفائزون في نداء تونس البلاد من جديد إلى عهد من التفرد والديكتاتورية.
مبدئياً، يعتبر التبادل السلمي للحكم أحد الأصول الرئيسية للنظام الديمقراطي الفعال؛ وليس ثمة غرابة في أن تأتي حركة النهضة في المرتبة الثانية، بعد ثلاث سنوات من فوزها بالمرتبة الأولى في أول عملية انتخابية تونسية تعددية وشفافية على الإطلاق. وإن تذكرنا سيرة الانتخابات الكويتية والمغربية في السنوات العشر الماضية، وكنت أشرت لكليهما من قبل في هذا الموقع، فإن أحزاب التيار الإسلامي السياسي يمكن أن تفوز في الانتخابات وأن تخسرها. تصور الفوز الدائم لأحزاب التيار الإسلامي السياسي في أية انتخابات تجرى في أي بلد عربي، هو تصور أسطوري، لا ينم إلا عن خوف القائلين به من النظام الديمقراطي وخشية الخضوع للإرادة الشعبية.
في ظل نظام الدولة الحديثة، تحتاج القوى الإسلامية السياسية زمناً وتراكماً للتجارب وحنكة دؤوبة، للتواؤم مع بنية دولة تعود في مرجعيتها إلى قيم تختلف بهذه الدرجة أو تلك عن المرجعية القيمية للإسلاميين، وتتبنى آليات عمل تبدو للوهلة الأولى غريبة عن التصور الإسلامي للسلطة السياسية وعلاقة الدولة بشعبها. وعندما تعيش هذه الدولة مرحلة انتقالية، أو تواجه تحديات مصيرية، كما أغلب الدول العربية، تصبح مهمة التواؤم أكثر صعوبة وتعقيداً. ولذا، فلابد أن يكون فوز الإسلاميين المتكرر في الانتخابات، وليس خسارتهم، هو ما يستدعي الدهشة والاستغراب.
إلى جانب ذلك، هناك متغيرات سياسية ملموسة، ساهمت في أن تأتي نتائج الانتخابات بما جاءت عليه. بين هذه المتغيرات، أولاً، شرط التسجيل المسبق للناخبين، الذي تضمنه قانون الانتخابات هذه المرة، بخلاف انتخابات 2011. ما أدى إليه شرط التسجيل، كان تراجع حجم المقترعين بما يقارب الثلث عن 2011؛ وبالرغم من صعوبة التقدير في هذه الحالة، فلابد أن هذا التراجع قد أفقد النهضة عدة مئات من آلاف الأصوات. كما هو الأمر حتى في دول مثل الولايات المتحدة، ينحدر أغلب من يمتنعون عن التسجيل المسبق من شرائح فقيرة، أو من فقدوا الثقة في مؤسسة الدولة والحكم والطبقات الحاكمة، أو أولئك الأكثر بعداً عن المركز السياسي للبلاد. والواضح في البنية السياسية – الديمغرافية التونسية، أن قطاعاً كبيراً من هذه الفئات ينزع للتصويت للنهضة، أو أحزاب المعارضة الراديكالية.
أما السبب الثاني، فيعود بالتأكيد لحالة الاستقطاب المتصاعدة في البلاد، وانهيار أحزاب الوسط القومي، الليبرالي، العلماني، التي يبدو أن الكثير من أصوات أنصارها ذهبت لنداء تونس. ويتعلق السبب الثالث، بلا شك، برغبة قطاع ولو صغير من الناخبين بمعاقبة النهضة وحلفائها، نظراً لوجود شعور عام بأن حكومة العشرين شهراً الثلاثية لم تستطع إحداث تغيير ملموس في الأحوال المعيشية والوضع الاقتصادي.
أما السبب الداخلي الرابع، فيتعلق بحجم المال السياسي الذي استخدم على نطاق واسع، وحتى يوم الاقتراع، لشراء الأصوات. والمدهش، بالرغم من أن بعض المراقبين التونسيين سجل عدداً من حوادث توظيف المال، أن المراقبين الغربيين أشادوا بمجمل العملية، بدون التطرق إلى هذا الجانب المشين لها.
هذا على مستوى تونس نفسها، ولكن ثمة ما هو أهم. تونس، باعتبارها، أولاً، دولة عربية ذات تأثير ملموس في محيطها المغاربي، وباعتبارها، ثانياً، إحدى دول الثورة العربية، هي جزء من توازن قوى أوسع بكثير من حدودها السياسية، توازن يغطي كل المجال العربي وجواره الإسلامي. وعندما يختل توازن القوى في الإقليم، فلابد أن ينعكس هذا الخلل على وضع كل دولة من دول الإقليم. الثورة الفرنسية في طورها النابليوني لم تهزم بفعل توازن القوى داخل فرنسا، بل بتحالف أروربي واسع؛ والنظام الأوروبي الذي وضع في عقب الحروب النابليونية في مؤتمر فينا، كان نظاماً ولد من توافق القوى الأوروبية الرئيسية المختلفة، وأريد به ليس حسم علاقات الدول وحسب، بل وتحديد شرعية الدولة أيضاً.
وليس ثمة شك أن مجمل التطورات التي عاشتها تونس منذ صيف 2013، من تخلي التحالف الثلاثي عن الحكم إلى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ولد من الخلل الفادح في توازن القوى العربي الذي أوقعه الانقلاب على المسار الديمقراطي في مصر. وليس تطورات الشأن التونسي وحسب، بل والتعثر الملموس في اليمن وليبيا وسوريا والعراق كذلك.
فكيف إذن تبدو خارطة تونس السياسية في المرحلة بعد الانتخابات البرلمانية؟ كشفت الانتخابات عن انهيار ثلاثة أحزاب، تقودها شخصيات سياسية بارزة: المؤتمر من أجل الجمهورية، الذي أسسه الرئيس الحالي، المنصف المرزوقي، والتكتل الديمقراطي، الذي يقوده رئيس الجمعية التأسيسية، مصطفى بن جعفر، والحزب الجمهوري الذي يقوده المخضرم نجيب الشابي. صنفت هذه الأحزاب على معسكر الوسط السياسي، بالرغم من صعوبة التصنيف في ساحة سياسية تعددية وليدة.
وبدلاً من هذه الاحزاب، فقد صعد حزب جديد، باسم الاتحاد الوطني الحر، بستة عشر مقعداً، يقوده رجل أعمال وثري كبير، إلى المرتبة الثالثة، بدون أن تكون له هوية سياسية محددة أو بنية تنظيمية تقليدية. في الحالتين، ثمة انطباع بأن الساحة السياسية التونسية لم تزل في حالة سيولة، وأن أغلب الكيانات السياسية لم يستقر بعد، سواء في هويته وتوجهه السياسي، أو في قاعدته الشعبية الصلبة. من احتل الموقعين الأول والثاني كان حزب نداء تونس، بخمسة وثمانين مقعداً، وحركة النهضة، بتسعة وستين مقعداً. ولكن، وبغض النظر عن التباين بين الإمكانيات المادية للحزبين، وما يمثله نداء تونس من مصالح ودوائر سياسية، فثمة فرق هام بين الحزبين. لم يزل من المبكر القول بأن نداء تونس يمثل تعبيراً عن بنية حزبية متماسكة؛ وهو أقرب إلى ثلاث كتل سياسية مختلفة بالفعل، منه إلى الحزب الواحد، وربما لن يكون من السهل الحفاظ على تماسكه في مواجهة تجربة الحكم، التي كان لها دور رئيسي في انقسامات التكتل الديمقراطي والمؤتمر من أجل الجمهورية. حركة النهضة، من جهة أخرى، هي الحزب الأعمق جذوراً في كل الساحة السياسية التونسية، والأكبر تراثاً، والأكثر تماسكاً.
يجري في الخطاب الاستشراقي، العربي والغربي، على السواء، وبصورة فادحة، تجاهل تاريخ حركة النهضة الطويل، تضحياتها من أجل حرية تونس وإصلاحها، والدور الهائل الذي تلعبه في أعطاء صوت للملايين من التونسيين، الذي لم يكن لهم من صوت، أو اعتادت نخبة دولة ما بعد الاستقلال تجاهلهم. ما يعاد تكراره في النظر إلى النهضة أنها حزب التيار الإسلامي الأكثر حكمة، الذي تنازل طوعاً عن الحكم، بالرغم من الأغلبية الكبيرة التي تمتعت بها حكومته الإئتلافية، وأنها الحزب الذي يحتفل اليوم بالرغم من هزيمته في الانتخابات. السؤال الآن، حتى إن قبلنا الخطاب الاستشراقي، أن النهضة قامت فعلاً بكل ما تستطيع من أجل إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي في تونس، فهل سيحافظ الطرف الآخر على مكتسبات الشعب في الحرية والديمقراطية، أو أنه سيخضع أخيراً لسكرة الفوز وضغوط الخارج، ويدفع البلاد نحو حقبة سوداء جديدة كتلك التي عاشتها بين 1989 و2010؟