ترجمة وتحرير: نون بوست
وصلت قوات الأمن الأردنية بشكل مفاجئ إلى منزل المحامي مؤيد المجالي في أحد أيام شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019، واحتجزته وصادرت حاسوبه المحمول وهواتفه واتهمته بارتكاب إحدى أخطر الجرائم في المملكة. كانت جريمته هي الافتراء على حاكم البلاد، الملك عبد الله الثاني، لأنه طرح سؤالا واحدا: ما هي مساحة الأرض التي يمتلكها الملك؟
في بلد يحصل على مليارات الدولارات من المساعدات المالية الدولية، وتضاعفت فيه البطالة خلال السنوات السبع الماضية، يعتبر هذا الموضوع حساسا للغاية بالنسبة للشعب الأردني.
ولكن يمكن لصحيفة الغارديان أن تكشف اليوم عن جزء من الإجابة، وذلك بفضل وثائق باندورا، وهي أكبر مجموعة من البيانات الخارجية المسربة على الإطلاق.
تكشف الملفات أن الملك الحالي، وهو الأطول بقاء في السلطة من بين الحكام الحاليين في العالم العربي، أمضى العقود الماضية في تكوين إمبراطورية دولية للعقارات الفاخرة تزيد قيمتها عن 100 مليون دولار (74 مليون جنيه إسترليني)، وتمتد من منحدرات ماليبو في كاليفورنيا، مرورا بواشنطن العاصمة، وصولا إلى العاصمة البريطانية لندن.
شيّد الملك عبد الله هذه الإمبراطورية الملكية بنفس الحماس الذي يُظهره عندما يُسأل عن موارده المالية في الأردن. يُنكر العاهل الأردني ملكيته لسلسلة من الشركات في جزر فيرجن البريطانية، وفقا للوثائق التي حصل عليها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، إضافة إلى الغارديان و”بي بي سي” ووسائل إعلام أخرى حول العالم.
استحوذ الملك على العقارات التي تقدر بملايين الدولارات في ظل تضاعف حجم المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية للأردن أربع مرات، وهو ما أجبر الأردنيين على تحمل تبعات التقشف كجزء من خطة الإنقاذ التي فرضها صندوق النقد الدولي على الحكومة الأردنية.
لا يعد استخدام الشركات الخارجية للحصول على الممتلكات أمرا مخالفا للقانون، حيث يتم القيام بذلك في بعض الأحيان لحماية الخصوصية أو الحفاظ على الأمن. لكن السرية التي تُمنح للأثرياء لإبقاء ممتلكاتهم بعيدة عن الأنظار قد تفتح الباب أيضا لغسيل الأموال.
ربما تكون أكثر عقارات الملك عبد الله فخامة والأغلى ثمنا، والتي تكشف عنها وثائق باندورا، قصر كبير على قمة منحدر على ساحل ماليبو بكاليفورنيا. يوصف العقار بأنه “قصر ضخم يشبه الفندق”، يحتوي على 26 غرفة مطلة على الساحل الذي اشتهر بأنه موقع المشهد الدرامي الأخير من فيلم “كوكب القردة” الأصلي سنة 1986.
وتشير السجلات العامة إلى أن المنزل انتقل من منتجي هوليوود إلى أصحاب المليارات عبر الإنترنت، قبل أن تكشف وثائق باندورا أن الملك عبد الله اشتراه في آب/ أغسطس 2014 مقابل 33.5 مليون دولار، ويُقدر بأنه سعر قياسي للعقارات في المنطقة، وقد استحوذ الملك لاحقا على عقارين مجاورين. وفي العامين الماضيين، استحوذ العاهل الأردني على ثلاث عقارات سكنية في واشنطن العاصمة بمبلغ إجمالي قدره 13.8 مليون دولار.
كما تكشف الوثائق أيضا أن الملك الأردني استحوذ سرا على محفظة من سبعة عقارات فاخرة في المملكة المتحدة، بما في ذلك ثلاثة عقارات في منطقة بلغرافيا بالعاصمة لندن. اشترى الملك عبد الله هذه العقارات في المملكة المتحدة بين سنتي 2003 و2011، وتُقدر قيمتها السوقية الحالية بحوالي 28 مليون جنيه إسترليني، في الوقت الذي كانت المملكة المتحدة ترسل فيه ما يصل إلى 100 مليون جنيه إسترليني سنويا كمساعدات للأردن.
يقول الملك إنه يمتلك عقاراته بصفته الشخصية وأنه لم يرتكب أي مخالفات، لكن يبقى صافي ثروة الملك ومصدر دخله طي الكتمان.
ويقول محامو الملك: “لم يسئ جلالة الملك في أي وقت من الأوقات استخدام الأموال العامة أو استخدم أي نوع من عائدات المساعدات المخصصة للمصلحة العامة، فهو مع مصلحة بلاده ومواطنيها في جميع الأوقات”. أغلق الأردن موقع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين يوم الأحد، قبل ساعات من الكشف عن وثائق باندورا.
يحكم عبد الله الأردن منذ وفاة والده حسين سنة 1999، والذي جعل من المملكة حليفا رئيسيا للغرب، وعُرف بحب استعراضه للثروة، وخاصة عشرات السيارات الرياضية التي يمتلكها والتي يعرض معظمها حاليا في متحف بالعاصمة عمان.
حافظ ابنه على العلاقة الوثيقة بالغرب، لكنه كان أكثر حرصا على عدم إظهار الثراء نظرا للظروف الاقتصادية في البلاد، والتي يصفها باحثو الكونغرس الأمريكي بأنها “صعبة للغاية”، وقد أدت إلى العديد من التحديات في العقد الماضي.
ووفقًا لإحصائيات سنة 2020، يعاني واحد من كل أربعة أردنيين من البطالة، وهو ما جعل الملك عبد الله يلجأ إلى سياسات التقشف على مدى العقود الثلاثة الماضية للحصول على قروض من صندوق النقد الدولي.
أدت هذه الخيارات الاقتصادية إلى زيادات متتالية في حجم الضرائب وخفض دعم الخبز والكهرباء والوقود، وقد أطلقت الحكومة خطة للقضاء على التهرب الضريبي من أجل كبح جماح الدين العام، لكن السياسات الضريبية لا تشمل مساءلة الملك عما يملكه من عقارات، ويبرر محاموه ذلك بالقول: “بموجب القوانين الأردنية، فإن جلالة الملك غير ملزم بدفع الضرائب”.
أدت الاحتجاجات ضد سياسات التقشف ورفع رواتب القطاع العام إلى إقالة العديد من رؤساء الوزراء على مدار العقد الماضي، ويُنظر إلى تلك الإقالات على أنها وسيلة لامتصاص السخط الشعبي والنأي بالملك عن الملك عن تحمل تبعات التدهور الاقتصادي. ويضيف محامو الملك أنه يقدم “نسبة كبيرة” من ثروته الشخصية للأعمال الخيرية بما يتماشى مع رؤيته نحو تحقيق مجتمع عادل.
تم شراء معظم العقارات حسب وثائق باندورا خلال العقد الماضي الذي عاش فيه الملك تحديين كبيرين لاستقرار حكمه. كان التحدي الأول خلال “الربيع العربي” الذي اجتاح الشرق الأوسط سنة 2011، حيث عمت الاحتجاجات أنحاء الأردن، واتُهم الملك وزوجته الملكة رانيا بـ”سرقة” البلاد، وقد قمعت قوات الأمن المحتجين في ظل وعود حكومية بمزيد من الديمقراطية والحريات. ويثير توقيت شراء العقارات – وفقا لما كشفت عنه وثائق باندورا – تساؤلات عما إذا الملك قد فكر في الحاجة إلى ملاذ آمن في الخارج إذا أطاحت به الاحتجاجات.
كان التحدي الثاني عبارة عن “مؤامرة انقلابية” -كما تصفها السلطات الأردنية-، في نيسان/ أبريل من السنة الحالية، بقيادة الأمير حمزة الأخ غير الشقيق للملك، والذي حظي باهتمام ودعم كبيرين في بعض الأوساط الأردنية من خلال انتقاده العلني للفساد الحكومي ومحاولات إصلاح الاقتصاد على حساب المواطن الأردني. وُضع الأمير حمزة قيد الإقامة الجبرية وحُكم على شركائه المزعومين في “مؤامرة الفتنة” بالسجن لفترات طويلة.
حرصا منها على دعم أحد أبرز حلفاء الغرب في المنطقة، ضخت الولايات المتحدة على مدى العقود الماضية مساعدات مالية إلى الأردن يصل مجموعها إلى نحو 22 مليار دولار إلى غاية سنة 2018، ومليارات أخرى في السنوات التالية. ولكن وفقا لوثائق باندورا، فقد أنفق الملك عبد الله ملايين الدولارات من تلك المساعدات في توسيع إمبراطوريته العقارية.
حسب أحدث ميزانية حكومية أردنية، يتم إنفاق ما يقارب 35 مليون دولار من الأموال العامة على صيانة القصور الملكية في البلاد، لكن لا توجد أي إشارة إلى راتب الملك أو أفراد عائلته. ويقول محامو العاهل الأردني أن “مصدر ثروة جلالة الملك الشخصية ليس من الأموال العامة، وإنما من مصادر شخصية”.
لكن الجهود التي يبذلها الملك عبد الله لإخفاء تفاصيل مشترياته من العقارات خارج البلاد تشير إلى أنه يدرك أنها ستكون مسألة محرجة أمام شعبه.
تتضمن وثائق باندورا مذكرة داخلية صادرة في شباط/ فبراير 2017، بين مسؤولين تنفيذيين في مكتب المحاماة البنمي “ألكوغال” (Alcogal)، تنص على أن عميلا أردنيا يدعى عبد الله الحسين، من مواليد 30 كانون الثاني/ يناير 1962 (تاريخ ميلاد الملك عبد الله الثاني)، وعنوانه “قصر رغدان (يقع في مجمع الديوان الملكي في العاصمة الأردنية عمان)، هو المالك المستفيد من 16 شركة تمتلك أصولًا مختلفة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وجيرسي.
ومن بين تلك الشركات، شركة “نابيسكو هولدينغ”، و”ساتارا المحدودة”، و”تمارا المحدودة” التي استحوذت على عقارات ماليبو كليف توب الثلاثة، بالإضافة إلى سلسلة من الكيانات الأخرى التي تمتلك أصولا في واشنطن العاصمة والمملكة المتحدة.
ووفقا للوثائق المسربة، بذل موظفو “ألكوغال” جهودا كبيرة لحماية خصوصية الملك من خلال عدم تحديد هويته في الوثائق الداخلية، باعتباره شخصية سياسية، وناقشوا الطرق التي تسمح بعدم حفظ هويته على أنه مالك مستفيد.
وقد وصلت جهود إخفاء هوية الملك إلى مستويات هزلية، ففي رسالة بالبريد الإلكتروني أُرسلت في كانون الأول/ ديسمبر 2017 بين موظفي “ألكوغال”، تم الحديث عن “المستفيد النهائي” باعتباره مقيما في الأردن، ثم تمت الإشارة إلى الملك باسم “أنت تعرف من”.
وقالت “ألكوغال” إنها تعمل دائما على إخفاء هوية الشخصيات السياسية المعرضة للمشاكل، ” وأضافت أنه تم تسجيل تفاصيل هوية المالك المستفيد للعقارات في جزر فيرجن البريطانية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 بما يتوافق مع قوانين المنطقة.
يُذكر أنه تم الإفراج عن المحامي الأردني مؤيد المجالي، لكن حُكم عليه بدفع غرامة.
المصدر: الغارديان