لا يجتمع أهل اليسار على احترام البنك الدولي ومؤسساته منذ نشأته، بل من الثابت تاريخيًّا أن اليسار عملَ على إلصاق كل نقيصة في المؤسسات الرأسمالية، وخاصة البنك الدولي.
وطالما شكّكَ المنتمون إلى هذا التيار على جميع المستويات في أهداف البنك، التي تؤكّد دائمًا أنها تعمل لصالح جميع الدول المتفوِّقة اقتصاديًّا منها والنامية على حد سواء، واعتبروه أحد مظاهر الاستعمار الحديث الذي يعطي الأولوية في برامجه للأرباح على حساب البشر والكرامة، والمجتمعات الضعيفة.
لكن اللافت للنظر أن الانتقادات للبنك لم تعد حكرًا على اليسار، بل انتقلت إلى المنتمين للأفكار اليمينية التي يمثّلها البنك بالأساس، والذين دأبوا خلال السنوات الأخيرة على توجيه انتقادات شرسة تطعن في سمعة البنك الدولي ونزاهته.
ولأن الطلقة التي تأتي من داخل البيت هي الأصعب دائمًا، تسبّبت الانتقادات اليمينية في عمل هزّات كبرى للبنك، وأجبرته على وقف العديد من أنشطته، وإعلان وجود فساد بداخله، وأصابت سمعته في مقتل.
انتقادات تاريخية
البنك الدولي هو إحدى الوكالات المتخصِّصة في الأمم المتحدة المعنية بالتنمية، نشأ في أتون صراعات الحرب العالمية الثانية للمساهمة في إعمار أوروبا التي لحقت بها كوارث طبيعية وإنسانية، وكانت هناك حاجة إلى إعادة تأهيلها مرة أخرى بعد انتهاء الحرب.
حضر مؤتمر التدشين عام 1944 بالولايات المتحدة الأميركية 44 دولة، وجرى الاتفاق على الميثاق الحاكم للبنك ثم بدأ أعماله رسميًّا في يونيو/ حزيران 1946، وتطوّرَ حجمه ونطاقات عمله بمرور الوقت حتى أصبح يعمل فيه نحو 8 آلاف موظف يزيد عليهم حوالي ألفَين في العمل الميداني، نصفهم على الأقل من الولايات المتحدة والبقية من جميع أنحاء العالم.
اشترك في عضوية البنك 189 دولة حول العالم، لأهداف ودوافع مختلفة، يبدو لافتًا منها البلدان النامية التي تحصل على عضوية الصندوق على أمل الحصول على مساعدات البنك وتخفيف حدّة الفقر، عبر تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية التي تمّت الموافقة عليها من جانب أعضاء الأمم المتحدة عام 2000.
لكن المساعدات تتحول إلى نقمة مع اشتراط البنك على البلدان التي تطلب مساعدته التحول إلى أجندة رأسمالية بامتياز يشرف على تنفيذها، بغضّ النظر عن مستوى الفقر، الأمر الذي يزيد من معاناة الشعوب، ومع الفساد وسوء الإدارة في البلدان النامية والديكتاتورية، تزيد أعباء البلاد بفاتورة باهظة من الديون دون تغيير حقيقي على الأرض، بعد الحصول على قروض ومساعدات بفوائد ضخمة.
ينتقد اليسار البنك الدولي بشكل كلّي، بداية من الطريقة التي يُدار بها والتي تؤدّي بنظره إلى اختلالات في السلطة، لا سيما أنه يهمِّش البنك البلدان النامية والفقيرة، ويجعلها أبعد ما تكون عن المشاركة في عملية صناعة القرار، في الوقت الذي تتمتع الولايات المتحدة بحقّ النقض (الفيتو)، ما يمنحها فرصة فوقية للهيمنة على القرارات الاقتصادية، المدفوعة غالبًا بأبعاد سياسية، الأمر الذي يخرج البنك عمليًّا عن الهدف الذي أُنشئ من أجله.
اعتبر اليسار العالمي أن اختلال توازن إدارة البنك، سيؤدّى إلى اتّباع سياسات اقتصادية مرتبطة دائمًا بالسياسة وفق مصالح الغرب والأجندة الرأسمالية فقط، فالقروض والمشاريع والمساعدة الفنية والمراقبة المالية تقوِّض سيادة الدول المقترضة، وتحدُّ من قدرتها على اتخاذ القرارات السياسية المناسبة لها، لا سيما أن البنك يُعتبَر الملاذ الأخير للحكومات التي تعاني من مشاكل في ميزان المدفوعات على وجه التحديد.
كل هذه الانتقادات الشرسة لم تثنِ الولايات المتحدة وحلفاءها عن الطريقة التي يُدار بها البنك، ورفضوا إقامة نظام للإدارة مبني على الجدارة المهنية، وتجسّدَ ذلك في تولّي الرئيس الحالي للبنك الدولي الأمريكي ديفيد مالباس منصبه في أبريل/ نيسان 2019 باتفاقات ومؤامرات غير معلنة، دون أن يكون له أي منافس آخر، رغم اتّساع عمل البنك وتشابُك مصالحه مع كل بلدان العالم، وحدث ذلك وسط اعتراضات شرسة من المجتمع المدني والاقتصاديين المحسوبين على اليسار والأفكار الجماعية.
اليمين على الخط
لكن الغريب؛ تطوُّر الصراع الدائر بين البنك الدولي واليسار، ودخول أهل اليمين وعتاة الرأسمالية على الخط في نقد البنك الدولي والهجوم الشرس عليه، خاصة في قضايا حوكمة المؤسسة والنزاهة المهنية، والإشراف على الأبحاث من المتخصصين التابعين له.
أخذت الانتقادات منحى آخر من الشراسة عام 2018، بعد تعرُّض تقارير ممارسة الأعمال لقصف ناري من الخبراء الرأسماليين الذين طالبوا البنك بالتبرُّؤ منه، وأفردت العديد من المؤسسات المعنية مثل مؤسسة WilmerHale، وهي شركة محاماة دولية، العديد من التقارير المضادة التي كشفت فساد تقارير البنك الدولي، وأكّدت بالأدلة أن كبار المسؤولين التنفيذيين تلاعبوا بالبيانات الواردة في التقرير عام 2018.
أعاد الرأسماليون تدوير حجج اليسار نفسها ولكن بطريقة أخرى، وأكّدوا أن نظام إدارة البنك ليس عادلًا، ويفتقر إلى الشفافية في إظهار البيانات الأساسية والاستبيانات المستخدَمة لحساب التصنيفات، وبدلًا من هدمه حسب مطالبات اليسار، دعوا إلى إنشاء “سيستم” يحمي التقارير من التلاعب بها، وتدشين مجلس مراجعة خارجي يكون لديه القدرة على مواجهة التدخُّلات السياسية في عمل البنك، والتي تمنح البلدان المتحالفة مع الولايات المتحدة درجات تقييم غير عادلة عبر التلاعب في مضامينها، ما يضرُّ بالمساهمين الآخرين ومصالحهم.
تضامنَ مع صيحات الاحتجاج بول رومر، كبير الاقتصاديين في البنك الدولي آنذاك -حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد-، واشتكى من كيفية معاملة ممارسة أنشطة الأعمال، وكشف عن فضيحة كبرى بتزوير تقارير لصالح تشيلي، وبعد الإفصاح عن التلاعب المنهجي تراجعت الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية في التصنيف العالمي، وعلى ضوء الفضيحة صعدت الاشتراكية ميشيل باشليت إلى كرسي الحكم في البلاد.
فضائح بالجملة
الانتقادات الشرسة المستمرة للبنك الدولي، فتحت الباب أيضًا لتسليط الضوء على فضائح أخرى في تقرير عام 2020، حيث زوّرَ موظفو البنك بيانات وتقارير تجعل الصين تبدو أفضل، وكذلك كوريا الشمالية والهند، كما جرى إثبات علاقة بين تحسين درجات بعض الدول على خلاف الحقيقة، وبيع البنك خدمات استشارية لهذه الحكومات تهدف بالأساس إلى تحسين درجة الدولة وصورتها الذهنية عالميًّا.
ويعني ذلك أن هناك تضارُبًا واضحًا في المصالح، يفقد البنك الأهلية والنزاهة للتحدث مع كل بلدان العالم باعتباره المنارة الأكبر للمعرفة والخبرة في قضايا التنمية والاقتصاد الكلي، بعد أن أصبح على مدار السنوات الماضية هدفًا للنقد الأكاديمي ولعنات منظمات المجتمع المدني.
ساهمت الضربات المتلاحقة في إضعاف قدرة البنك على التحمُّل، وأصبح يواجه صعوبة كبرى في الإجابة عن أي أسئلة متعلِّقة بالشفافية وعلاقة تقاريره بتدفُّقات الاستثمار إلى الاقتصادات وفق الترتيب العالمي، ولم تستطع أهم مؤسسة نقدية وبحثية في العالم نفي تلاعب خبرائها في التقارير التي تعتمدها حكومات العالم أجمع، وتعتبرها شهادة على حسن أو سوء إدارة اقتصاداتها.
في النهاية، أجبرت ضغوط اليمين البنك الدولي على التوقف نهاية الشهر الماضي عن إصدار تقرير ممارسة أنشطة الأعمال، بعد الاستمرار في إصدارها على مدار عقود من الزمن، والاعتراف بأن المراجعة داخليًّا والتحقيق أسفرا عن وجود تلاعب في بيانات تصنيفات الدول، ما يثير “أزمة أخلاقية” تتعلق بسلوك مسؤولي مجلس الإدارة السابقين والحاليين. كما تتعلق أيضًا بسلوك موظفي البنك الحاليين والسابقين بحسب بيان رسمي للبنك، الأمر الذي يفرض استحداث آليات للمساءلة الداخلية المناسبة لما حدث، دون أن يفصح البنك الدولي عن ماهية المساءلة، وحقّ المساهمين فى معرفة إجراءاتها، وهو غموض يزيد من محنة البنك ومصداقيته خلال المستقبل القريب.