عندما تُقدِمُ دولة عربية على تنظيم حدث عالمي فريد، فإن ذلك يكون محلَّ إجماع عربي وتقدير مشهود على المستويَين الرسمي والشعبي، بل المستوى الخارجي، طالما أننا لا نتحدث عن حدث ذي طابع ندّي خارج عن الأعراف الدولية.
بالفعل، بدأت دولة الإمارات العربية المتحدة، منذ أيام، يوم الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي بالضبط، تنظيم معرض “إكسبو” الدولي، المقام على صحراء متاخمة لعمران إمارة دبي المعروفة باستثماراتها في مجال العلاقات العامة وسياحة الاستضافات والمؤتمرات.
ولكن على عكس ما قد يُعتبر بديهيًّا، فقد تعرّض ذلك الحدث، قبل وخلال وبعد تدشينه الرسمي، إلى موجة انتقادات عنيفة من أطراف مختلفة، عربيًّا ودوليًّا، لا يحمل معظمها أي خصومة سياسية مع دولة الإمارات والسلطات الحاكمة فيها.. فما هي تلك الأسباب وراء هذه الانتقادات؟
ما هو “إكسبو”؟
في البداية، لنوضّحَ للقارئ ما هي طبيعة ذلك الحدث المشار إليه؛ فـ”إكسبو” هو مهرجان دولي مفتوح، الأكبر من نوعه عالميًّا، يُقام في نسخته الـ 34 على أرض عربية، وهي دولة الإمارات في الخليج، بمشاركة أكثر من 190 دولة حول العالم.
الاختصاص الرئيسي للمعرض هو: العمران، ويلي هذا الاختصاص العناية بالثقافة والحضارة، إذ تقوم كل دولة بإنشاء جناح لها في المعرض، تقوم خلاله الشركات الوطنية، العامة والخاصة، بعرض أحدث ما توصّلت إليه في مجالات اختصاص الحدث، لا سيما تلك المعبِّرة عن هُوية الدولة صاحبة الجناح.
كما حدث في الحدث الرياضي الأكبر عالميًّا على الإطلاق، أولمبياد طوكيو الأخيرة، والتي نُظِّمت هذا العام رغم كونها تعود إلى عام 2020؛ فإن النسخة الحالية المقامة من “إكسبو” تعود إلى العام الماضي، وذلك بسبب التعارض بين مقتضيات انتشار جائحة كورونا وتدشين معرض دولي بهذا الحجم، وسط مخاوف السلطات الإماراتية من إلغائه.
ولكن لأسباب كثيرة، من بينها مراعاة حجم الإنفاق الذي أنفقته السلطات الإماراتية من أجل ملاءمة معايير التنظيم، ووجود توجُّه دولي للمضي قدمًا إلى الأمام رغم مخاطر انتشار الفيروس، والتوصُّل إلى لقاحات فعّالة؛ فقد تقرّرَ عقد الحدث في هذا التوقيت اللاحق.
بدأت الترتيبات العبرية للمشاركة في الحدث بشكل ملحوظ منذ يوليو/ تموز الماضي.
وتأمل السلطات الإماراتية التي أنفقت 7 مليارات دولار في أقل تقدير من أجل استضافة الحدث، أن تجني من تنظيمه عدة مكاسب تخصُّ اقتصاد إمارة دبي، وقطاع العقارات، وتحسين الصورة الذهنية عن الدولة، وإنعاش الموارد العامة من النقد الأجنبي من خلال استضافة نحو 25 مليون زائر خلال الـ 6 أشهر القادمة.
التطبيع
يوم 2 سبتمبر/ أيلول الماضي، قالت جهات فلسطينية إنها تدعو إلى مقاطعة هذا الحدث الدولي الكبير المقام في الإمارات، سواء كانت تلك المقاطعة من الأفراد المشهورين، أم من المؤسسات العربية المشاركة في الحدث تنظيميًّا أو كرعاة.
وفقًا لما أشارت إليه اللجنة الوطنية الفلسطينية للمقاطعة، والمنبثقة عن التنظيم الأكبر لمقاطعة الاحتلال (BDS)، فإن الأمر لا يتعلق فقط بالموقف الجديد من السلطات الإماراتية، منذ توقيع اتفاقية التطبيع الشامل مع الاحتلال قبل نحو عام برعاية أمريكية، وإنما تتعلق تلك الدعوة الجديدة لمقاطعة هذا الحدث على وجه التحديد بما استجدَّ فيه من حضور إسرائيلي رسمي، حيث لأول مرة تشارك دولة الاحتلال في معرض من هذا النوع مقام على دولة عربية، وذلك بموافقة السلطات الإماراتية ودعمها.
بدأت الترتيبات العبرية للمشاركة في الحدث بشكل ملحوظ منذ يوليو/ تموز الماضي، عندما زار وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد حينها والمحسوب على اليسار، يائير لبيد، دولة الإمارات، زيارة التقى خلالها مسؤولين إماراتيين، على رأسهم الوزيرة المختصة بالتعاون الدولي، ضمن أجندة تشمل متابعة إجراءات تجهيز الجناح الإسرائيلي في المعرض.
وقد عبّرت الأوساط الإسرائيلية الرسمية عن حفاوتها بتلك المشاركة، معتبرةً، على لسان أكثر من مسؤول رسمي، أنها تعدّ مدخلًا جديدًا لاختراق العالم العربي ثقافيًّا والمضي في مسار التطبيع، إذ تشارك كل الدول العربية تقريبًا في هذا الحدث.
كما أفادت تقارير إعلامية متنوِّعة أن السلطات الإماراتية الحاكمة لإمارة دبي، قد قررت الاستعانة بشركة Airobotics الإسرائيلية من أجل تزويدها بطائرات مسيّرة تقوم بمراقبة الأحداث الكبرى من هذا النوع، من أجل الاستفادة منها في تأمين المعرض.
دفع ذلك المنظمة المعنية بمقاومة التطبيع إلى الدعوة لمقاطعة ذلك الحدث، بسبب ما اعتبرته أن مشاركة الاحتلال فيه “لا تساهم فقط في تسويق التقنيات الإجرامية للاحتلال وتصدير العقيدة الاضطهادية، وإنما تساهم في التغطية على جرائمه المستمرة بحقنا، وتطبيع وجوده، وكسر عزلته”، وهو ما تُرجم من جانب السلطة الفلسطينية إلى قرار بعدم المشاركة في ذلك الحدث.
توسُّع التعاون الثنائي عسكريًّا
في التوقيت نفسه تقريبًا، وفي تفسير لقرار السلطات الإماراتية الاستعانة بشركات إسرائيلية من أجل تأمين الحدث، فقد أفادت تقارير مختلفة أن هناك توسُّعًا ملحوظًا في التعاون بين السلطات الإماراتية وسلطات الاحتلال، لا على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي فقط، وإنما على المستوى العسكري أيضًا.
كما استعانت السلطات الإماراتية بشركات إسرائيلية للحصول على مسيّرات أمنية مدنية، فقد استعانت أيضًا بشركة Percepto من أجل الحصول على منتجات مشابهة، ولكن لأغراض عسكرية.
فقد شهدت الشهور الماضية بعد توقيع اتفاقية التطبيع الثنائي بين الطرفَين نهمًا ملحوظًا وإقبالًا كبيرًا “لم يكن من المعقول تصوره قبل ذلك”، كما يقول مركز المعلومات الأوروبي الخليجي عن توقيع الاتفاقيات في المجالات الأمنية والعسكرية واللوجستية.
وكما أوضح تقرير لموقع “ساسة بوست”، شمل هذا التعاون مجالات حماية الموانئ بين موانئ دبي العالمية وشركات مقرَّبة من الجيش الإسرائيلي، وتحويل طائرات الركّاب إلى طائرات شحن بين صناعات الفضاء الإسرائيلية والاتحاد الهندسية الإماراتية، والاستعانة بالخبرات الإسرائيلية في مجال تفادي الهجمات السيبرانية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ كما استعانت السلطات الإماراتية بشركات إسرائيلية للحصول على مسيّرات أمنية مدنية، فقد استعانت أيضًا بشركة Percepto من أجل الحصول على منتجات مشابهة، ولكن لأغراض عسكرية هي حماية حقول النفط والمنشآت الاستراتيجية، كما وافقت إمارة دبي على تواجد شرطي إسرائيلي دائم لديها تحت ذرائع التعاون في مجال تفادي الجرائم المنظَّمة من عائلات إسرائيلية.
البرلمان الأوروبي يقاطع!
قبل نحو أسبوعَين من الآن أيضًا، أصدر البرلمان الأوروبي، وهو هيئة منتخَبة مقرّها بروكسل، قرارًا بمقاطعة هذا الحدث، “إكسبو دبي 2020″، وعدم المشاركة فيه، ومطالبة الشركات الأوروبية الراعية بالانسحاب منه.
رغم أن معظم وسائل الإعلام قد سلّطت الضوء على هذا القرار من زاوية مباشرة، وهي احتجاج المؤسسة الأوروبية على استضافة دبي، والإمارات عمومًا، لهذا الحدث الدولي؛ إلا أن حيثيات القرار في الواقع قد شملت ما هو أكثر من ذلك بكثير.
فقد ندّدَ بيان البرلمان الأوروبي بتردّي أحوال الاحتجاز في دولة الإمارات، وهو عكس ما تروِّجه البلاد عن نفسها باعتبارها أيقونةً للتسامح والسلام العالمي، وذلك بالإشارة إلى أوضاع احتجاز نشطاء مدنيين، على رأسهم أحمد منصور وناصر بن غيث ومحمد الركن، في أوضاع صعبة تشمل السجن الانفرادي والتعذيب ومنع الزيارات والرعاية الصحية.
وعرّج البيان أيضًا إلى الممارسات الإقليمية محل التساؤل لدولة الإمارات، بما في ذلك التحقيقات التي تناولت أدوارها في حرب اليمن، وتسليم الناشطة النسوية لجين الهذلول إلى حليفتها السعودية، والتورُّط في استخدام برمجية “بيغاسوس” الخبيثة ضد نشطاء حقوقيين وطنيين.
بالإضافة إلى قرار مقاطعة هذا الحدث، فقد دعا البرلمان السلطات الإماراتية في بيانه إلى مراجعة البيئة التشريعية الحاضنة لتلك الانتهاكات، مثل قانون الجرائم الإلكترونية، وتحسين أحوال السجناء، قبل أن تجد السلطات الإماراتية نفسها في مرمى إجراءات عقابية أوروبية، مثل مراجعة اتفاقيات تسهيل السفر المتبادل بين الطرفَين.
انتهاكات للعمالة
بشكل عام، يعدّ موضوع “حقوق العمّال الأجانب” أيقونةً جدلية مستمرة في الخليج العربي بأكمله، وذلك بسبب غياب البيئة التشريعية الحامية لحقوق هؤلاء المغتربين في تلك البلاد، بالإضافة إلى السلوكيات العنصرية التي يعانون منها داخل تلك المجتمعات النفطية التي تستورد العمّال من أجل القيام بالمهن التي يترفّع المواطنون المحليون عن أدائها.
ولكن تلك الأيقونة الجدلية خليجيًّا برزت بشكل واضح في الساعات الأخيرة، فيما يخص الظروف التي عملَ خلالها العمّال المغتربون من دول عربية وآسيوية في إمارة دبي، من أجل تجهيزها لاستضافة ذلك الحدث المرموق.
أبرز تلك الأسباب التي دفعت إلى عودة الحديث عن هذا الموضوع، كانت تعرُّض عدد من السياح الأجانب الزائرين للمعرض إلى وعكات صحية نتيجة الارتفاع النسبي لدرجة الحرارة، مع الأخذ في الاعتبار أن هؤلاء العمّال كانوا يعملون في ظروف أسوأ، من ناحية الجهد البدني المبذول وارتفاع درجة الحرارة خلال شهور الصيف.
تجاهلت السلطات الإماراتية الردّ على اتهامات التطبيع الثقافي مع الاحتلال، الخارج عن مقتضيات الضرورة التي تذرّعت بها دول موجة التطبيع الأولى.
كما سلّطَ بيان البرلمان الأوروبي الضوء على الموضوع نفسه، وذلك في ضوء مشاركة عشرات الآلاف من العمّال الأجانب في هذا المشروع، وسط أرقام تصل إلى 200 ألف عامل، معظمهم، إن لم يكن كلهم، من خارج الإمارات.
وفي استجابة لضغوط إعلامية ملحّة، أفادت السيدة سكونيد ماغيتشين، التي عيّنتها السلطات الإماراتية متحدثة رسمية باسم المعرض، أن السلطات كانت تعلم بأن بعض الشركات كانت تمارس تضييقات على العمالة الوافدة، بما في ذلك حجز جوازات السفر، وتخفيض الأجور، وخرق قواعد السلامة المهنية.
كيف ردّت السلطات الإماراتية؟
اكتفت السلطات الإماراتية بنفي تلك الاتهامات الخاصة بتردي أوضاع حقوق الإنسان الصادرة عن البرلمان الأوروبي، والإشادة بالقرارات الأخيرة المتّخذة من أجل لبرلة المجتمع الإماراتي، بما في ذلك السماح بالعلاقات الرضائية بين الجنسَين خارج إطار الزواج.
وقبل حفل الافتتاح المبهر الذي استضافت فيه الجهات المنظِّمة عددًا من أشهر الفنانين في الغناء والاستعراض، من أوروبا وآسيا، أدلى الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي بتصريحات صحفية، ركّز خلالها على استرجاع السردية الإماراتية الخاصة برعاية السلام والتسامح العالمي.
وقد تجاهلت السلطات الإماراتية الرد على اتهامات التطبيع الثقافي مع الاحتلال، الخارج عن مقتضيات الضرورة التي تذرّعت بها دول موجة التطبيع الأولى، كمصر والأردن، وهو ما أعادت جهات مقرَّبة من السلطات الإماراتية تأويله بأنه نوع من دفع عملية السلام في المنطقة.
وبخصوص حقوق العمّال، فقد ردَّ المعرض ببيان رسمي، قال خلاله إن عدد الوفيات الحادثة في صفوف العمالة الوافدة اقتصرَ على 3 حالات فقط، وهو الرقم الذي يعدّ معقولًا بالمقارنة بدول كبرى تصل فيها حالات الوفيات إلى ما هو أكثر من ذلك قياسًا على عدد العمال وعدد ساعات العمل؛ إلا أن هذا البيان الاستدراكي جاء متعارضًا مع تصريحات المتحدثة باسم المؤتمر، التي قالت إن عدد الوفيات التي تعرفُها يبلغ 5 حالات.
رواية التسامح الزائفة
وفضلًا عن التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكات حقوق العمالة، أشارت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير لها إلى مسعى آخر لأبو ظبي من الحدث العالمي، وقالت المنظمة الدولية: إن سلطات الإمارات تستخدم معرض “إكسبو 2020 دبي” للترويج لصورة عامة من الانفتاح تتنافى مع جهودها لمنع التدقيق في انتهاكاتها الممنهجة لحقوق الإنسان.”
قال مايكل بَيْج، المسؤول البارز في هيومن رايتس ووتش: “اعتُقل العشرات من المنتقدين المحليين السلميين في الإمارات، وتعرضوا لمحاكمات جائرة بشكل صارخ، وحُكم عليهم بالسجن لسنوات عديدة لمجرد محاولتهم التعبير عن آرائهم بشأن الحكم وحقوق الإنسان. إكسبو 2020 هو فرصة أخرى للإمارات لتقدم نفسها إلى العالم على أنها منفتحة ومتسامحة وتحترم الحقوق، بينما تغلق مجال السياسة والخطاب العام والنشاط الحقوقي في الداخل”.
“هيومن رايتس ووتش” تلخص الصورة العامة لغايات أبو ظبي من خلال “إكسبو” وما شاكله من أنشطة، بالقول: “الهدف من هذه الفعالية، كما هو الحال مع غيرها من الفعاليات الترفيهية والثقافية والرياضية والتعليمية المكلفة جدًا، هو تعزيز صورة العلاقات العامة للإمارات كدولة منفتحة وتقدمية ومتسامحة، بينما تمنع سلطاتها المسيئة بقوة جميع الانتقادات والمعارضة السلمية”.