فرضت “وثائق باندورا” – التي كشفت النقاب عن الثروات والمعاملات السرية لقادة عالميين وسياسيين، في واحدة من أكبر تسريبات الوثائق المالية التي تفضح الأبواب الخلفية لفساد النخب -، نفسها على مجهر الاهتمام العالمي بعد الزلزال الذي أحدثته عقب الإعلان عن الأسماء التي تضمنتها ومن بينها حكام حاليّون، بعضهم كان يصدر نفسه على أنه المناهض الأول للفساد في بلاده.
الجدل الذي أحدثته تلك التسريبات وردود الفعل الدولية حيالها، أعاد ملف “الملاذات الضريبية الآمنة” للأضواء مرة أخرى، ورغم أنها ليست المرة الأولى التي يثار فيها هذا الموضوع، لكن القائمة المعلنة والأرقام التي تم كشفها بشأن رؤوس الأموال والاستثمارات التي تحتضنها تلك الملاذات بعيدًا عن أعين الحكومات والدول جاءت صادمة لكثير من المراقبين.
وبعيدًا عن الخلاف والجدل بين المؤسسات الحكومية الرسمية بشأن مفهوم “الملاذات الآمنة” بصفتها الثقوب السرية أو الصناديق السوداء التي تتجه إليها الأموال من حول العالم، إلا أن الأضرار الناجمة عنها على الاقتصاد العالمي والمواطنين بصفة عامة جعلها في مرمى الاهتمام وسط دعوات تطالب بالتقنين والمحاربة.
في هذه الإطلالة نسعى لتسليط الضوء على مفهوم تلك الملاذات ولماذا تهرول إليها النخب السياسية والمالية ومشاهير الرياضة والفن، ومخاطرها على المنظومة الاقتصادية الدولية والجهود المبذولة لتقليل حجم الخسائر الناجمة عنها وفك طلاسم الغموض الذي يكتنف حجم هذا السوق الذي يتجاوز مئات المليارات الخارجة عن الرقابة والمحاسبة والتقييم، وتفتح الباب أمام موجة تخوفات أخرى أكبر من الشق الاقتصادي.
ماذا يعني بالملاذات الآمنة؟
بداية ليس هناك تعريف جامع مانع للملاذات الآمنة، كما أنه لا توجد معايير محددة لاعتبار منطقة ما ملاذ آمن أم لا، وفي النهاية يخضع الأمر لرؤية خاصة تختلف من شخص لآخر، ومن منظمة لأخرى، ومن حكومة لثانية، فما تراه سلطة ما ملاذًا آمنًا لا تعتبره حكومة أخرى كذلك.
ورغم هذا التباين فإن التعريف الأقرب لهذا المصطلح يشير إلى أن الملاذات الآمنة هي الدول أو الأقاليم التي لا تفرض أي نوع من الضرائب، أو تفرض ضرائب مخفضة مقارنة بغيرها من المناطق، على رؤوس الأموال القادمة من الخارج، هذا بخلاف السرية والخصوصية التي تمنح لأصحاب تلك الأموال بعيدًا عن حكوماتهم.
بعض المناطق المعتبرة كملاذات تشارك معلومات مالية محدودة عن الحسابات المصرفية أو الأنشطة التجارية لزبائنها، وأخرى تفرض السرية الكاملة، كما أن هناك ثالثة لا تتطلب أي شروط كالإقامة مثلًا فضلًا عن البيانات التفصيلية للشركات العاملة لديها، التي في الغالب تكون شركات وهمية تخفي خلفها ملاك حقيقيين غير معروفين.
الغموض المحيط بتعريف الملاذات انتقل بالتبعية إلى وضع قائمة محددة بجغرافيا الملاذات على مستوى العالم، فالقضية تخضع لاعتبارات خاصة، تختلف من مكان لآخر، فقد يعتبر البعض المدن التي لديها قوانين ضريبية خاصة داخل الدولة ملاذات آمنة، فيما تستثنى بقية المدن داخل نفس الدولة من هذا التعريف، ففي الولايات المتحدة، لا تتطلب ألاسكا وفلوريدا ونيفادا ونيو هامبشاير وداكوتا الجنوبية وتينيسي وتكساس وواشنطن وويومينغ أي ضريبة على دخل خاصة بالولاية، ومن ثم يعتبرها البعض ملاذات.
وتتغير قائمة الملاذات بين الحين والآخر، نظرًا لما يمكن أن يستحدث من وضع شروط أو معايير جديدة خاصة بالرقابة على رؤوس الأموال والنشاطات التجارية الممارسة داخل كل دولة على حدة، فمثلًا كانت كوريا الجنوبية والإمارات وتونس وغرناطة وجزر مارشال ومنغوليا وماكو ضمن قائمة الملاذات قبل أن ترفع منها في 2018.
يذكر أنه في يناير/كانون الثاني 2018، خفضت أوروبا عدد الدول المدرجة في القائمة السوداء للملاذات الضريبية في أوروبا إلى 9 من أصل 17 دولة، وفي 13 من مارس/آذار من نفس العام، أضاف وزراء مالية الاتحاد الأوروبي ثلاث دول جديدة للقائمة السوداء وهي (سانت كيتس ونيفيس، وجزر البهاما وجزر فيرجن الأمريكية) وفي نفس الوقت سحبت ثلاث دول أخرى: البحرين والجزر مارشال وسانت لوسيا.
ما يقرب من 40% من أرباح الشركات متعددة الجنسيات يتم تحويلها إلى ملاذات ضريبية كل عام، وهو ما يسبب خسائر بنحو 10% من عائدات ضرائب الشركات العالمية
وتتباين الدوافع والأهداف وراء اللجوء لتلك الملاذات، ففي الغرب مثلًا يلجأ أصحاب الثروات للملاذات الضريبية بهدف التهرب من الضرائب، عبر إخفاء بيانات تلك الثروات أو أي معلومات تكشف عنها تكون مستندًا يوقعهم تحت طائلة دفع الضرائب التي في الغالب تكون بنسب كبيرة في معظم بلدان الغرب، أما في بلاد العرب والدول النامية فتلك الأداة تعد فرصة جيدة لإخفاء الثروات التي تم جنيها في أنظمة فاسدة استعانوا فيها بنفوذهم وتجاوزوا القوانين.
ويرتبط بمفهوم الملاذات الآمنة مصطلح “الأوف شور” ويقصد به تلك المؤسسسة المالية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعواصم المالية والسياسية الكبرى، لكنها في الوقت ذاته خارجة عن الرقابة، وأحيانًا ربما تكون وهمية، ما يسهل لها ممارسة أنشطة غير معروفة لصالح شخوص بعينها، وهو ما أميط اللثام عنه خلال الإعلان عن “وثائق باندورا” التي كشفت النقاب عن هوية الشركات التي استعان بها العاهل الأردني لشراء إمبراطوريته العقارية في بريطانيا وأمريكا.
خسائر اقتصادية بالجملة
تتكبد اقتصادات الدول خسائر بمئات المليارات جراء نقل تلك الأموال للخارج دون الحصول على الضرائب المستحقة، وهو ما أغرى العديد من الأقاليم لفتح الأبواب أمام تلك الرسمايل حتى إن كان المقابل انتقادات أو عقوبات دولية مؤقتة، لا تُقارن بحجم ما تحصل عليه من مكاسب.
وفي تقدير مبدئي لحجم تلك الخسائر تشير شبكة العدالة الضريبية إلى أن حجم الثروات المالية الخاصة التى لا تخضع لأي ضرائب حول العالم بنحو 32 تريليون دولار، وذلك حسب بيانات موقع “ميسينغ بروفيت. ززرلد” وهو مشروع مشترك بين جامعات كاليفورنيا وبركلي وكوبنهاغن لتحليل الأوضاع الجبائية في 21 بلدًا أمريكيًا.
الباحثون المشاركون في المشروع أشاروا إلى أن ما يقرب من 40% من أرباح الشركات متعددة الجنسيات يتم تحويلها إلى ملاذات ضريبية كل عام، وهو ما يسبب خسائر بنحو 10% من عائدات ضرائب الشركات العالمية، رغم الجهود المبذولة لإصلاح المنظومة الضريبية لتلك الشركات التي تعاني من شروخات كبيرة.
وكان صندوق النقد الدولي قد أشار في دراسة له إلى أن وزراء المالية من مجموعة الدول الصناعية السبعة الكبرى أعلنوا في يونيو/حزيران الماضي التزامهم بوضع حد أدنى عالمي لمعدل ضريبة الشركات على الشركات متعددة الجنسيات بنسبة 15% على الأقل، في محاولة لعلاج التوتر المتصاعد في عالم ضرائب تلك الشركات التي تتفنن في التهرب من الالتزامات الضريبية المفروضة عليها، بما يكبد الدول العديد من الخسائر فضلًا عن تحميل الشركات الوطنية الصغيرة المسؤولية الكبرى، الأمر الذي ينعكس سلبًا على الاقتصادات المحلية للدول.
وتتصدر دولة بورتوريكو قائمة الدول الأكثر استفادة في أمريكا الجنوبية من احتضان الأموال القادمة من الخارج، إذ تحقق تلك الجزيرة الواقعة في عرض الكاريبي، أرباحًا تجاوزت 38 مليار دولار خلال عام 2017، تلتها جزر كايمان” التي حققت أرباحًا قدرت بـ32 مليار دولار من الأموال المهربة، ثم جاءت “بنما” في المرتبة الثالثة بـ17.1 مليار دولار قيمة أرباحها من هذا الاقتصاد غير الشرعي.
الخسائر ليست اقتصادية فقط
في تقرير نشرته مجلة “موي نغوثيوس وإيكونوميا” (Muy Negocios & Economía) الإسبانية، أوضح أن الأزمة في مخاطر تلك الملاذات لا تتعلق بتهرب المستثمر من دفع ضرائب لسلطات بلاده فقط، لكن المشكلة الرئيسية تكمن في عدم سؤال الملاذات عن شرعية مصدر الأموال ومدة إيداعها في البنوك والأنشطة التي تستخدم فيها، وهو ما يمكن أن تكون بابًا خلفيًا لتمويل أنشطة إرهابية أو إجرامية على مستوى العالم.
المجلة ضربت مثالًا بما يحدث في البنوك الإسبانية مقارنة بالملاذات الآمنة، فحين يدخل شخص حاملًا حقيبة بها 6 آلاف يورو فإن البنك يسأله عن مصدرها وكل المعلومات المتعلقة بحساباته، لتحقيق مبدأ الشفافية والنزاهة، حتى حين تطلب الأجهزة الرقابية والقضائية منه الإفصاح عن بيانات العملاء، يقدمها بشكل فوري، وهو ما يحقق عنصر الرقابة والأمان معًا، وهذا غير موجود بالطبع في الملاذات.
عامًا تلو الآخر تخرج الوثائق والتسريبات التي تفضح قائمة بعد أخرى من المتهمين بالتورم الثرواتي جراء تهريب أموالهم لتلك الملاذات، وتضمنت تلك الوثائق مفاجآت بالجملة تعكس حالة الازدواجية التي تعاني منها النخب الحاكمة تحديدًا
وتتيح تلك الملاذات سهولة تأسيس الشركات بأسماء وهمية، وفتح حسابات بنكية سرية، ولا تخضع هذه الاستثمارات لأي ضرائب، وهو ما جعلها قبلة للمشاهير والنخبة، كذلك للفسدة وأصحاب الأجندات العدوانية، ممن يعانون من قيود وتضييقات على رؤوس الأموال الملوثة المخصصة للأعمال غير النظيفة.
ويقدر صندوق النقد الدولي حجم الأموال التي يتم غسلها سنويًا ما بين 2-5% من الناتج الإجمالي العالمي، و8% من إجمالي حجم التجارة العالمية، وهو ما يشكل 300-400 بليون دولار، وتتم خارج إطار الإحصاءات التي تندرج تحت جناح الاقتصاد المعلن للدول، وبالتالي تتركز هذه العمليات في ملاذات سرية، وفق تقرير نشره موقع “إيكونومي ووتش” المتخصص.
تحركات للمواجهة.. جهود غير كافية
جهود مضنية تبذلها الكيانات الدولية لوقف هذا النزيف المستمر لرؤوس الأموال الوطنية المهربة للخارج، ومساعي حثيثة لشرعنة عقوبات رسمية على الدول المحتضة لتلك الأموال، رغم ادعائها بقانونية أنشطتها وأن التسهيلات التي تقدمها للمستثمرين ليست إلا عوامل جذب ليس إلا.
عامًا تلو الآخر تخرج الوثائق والتسريبات التي تفضح قائمة بعد أخرى من المتهمين بالتورم الثرواتي جراء تهريب أموالهم لتلك الملاذات، وتضمنت تلك الوثائق مفاجآت بالجملة تعكس حالة الازدواجية التي تعاني منها النخب الحاكمة تحديدًا، لا سيما ذات الشعارات الشعبوية التي طالما تعزف على أوتار التعاطف الشعبي والجماهيري.
في فبراير/شباط 2020 وفي تقرير تحت عنوان “من يستفيد من المساعدات الدولية.. أدلة من حسابات بنوك الملاذات الضريبية“، كشف البنك الدولي العلاقة بين تدفق أموال المساعدات الأجنبية للدول النامية ونمو الحسابات البنكية في الملاذات الضريبية للنخب السياسية في هذه البلدان.
التقرير الذي استند إلى بيانات 22 دولة هي الأكثر اعتمادًا على مساعدات من البنك الدولي، و24 دولة أخرى أقل نسبيًا في مستوى الاعتماد على تلك المساعدات، توصل إلى أن الدول التي تتلقى منح ومساعدات أكثر من 1% من الناتج المحلي لها، يصاحب ذلك نمو ملحوظ في ودائع الملاذات الضريبية لها بما قيمته 3.4%، ما يعني أن عددًا ليس بالقليل من حكام تلك الدول يهروبون المساعدات لملاذاتهم الآمنة خارج بلدانهم.
علاوة على ذلك فقد كشف التقرير أن 37% من الشركات الوطنية التي تلقت مساعدات أو استثمارات من مؤسسة التمويل التابعة للبنك الدولي، لها علاقة – مباشرة أو غير مباشرة – بالنخبة الحاكمة، سواء ملكية تامة أم مساهمة أو عبر الأبواب الخلفية، في الوقت الذي يتحمل المواطنون العبء الأكبر من تلك الإصلاحات.
وفي دراسة حديثة لمجموعة “بوسطن” الاستشارية، كشفت ارتفاع عدد المليونيرات حول العالم ثلاثة أضعاف على مدار العشرين عامًا الماضية ليصل إلى 24 مليون شخص، يمتلكون أكثر من نصف الثروة المالية بالعالم، فيما باتت الملاذات الآمنة قبلة الكثير منهم، الباحثين عن الثراء السريع بشتى الطرق الشرعية وغير الشرعية، دون تحمل أي أعباء، مالية كانت أو قانونية.
وخلال السنوات الخمسة الأخيرة، كُشف النقاب عن بعض التسريبات التي فضحت مئات المشاهير في السياسة والفن والرياضة وعالم المال والأعمال، أكثرهم ضجة كانت “أوراق بنما” عام 2016، التي أحدثت زلزالًا مدويًا أدى في النهاية إلى مداهمات قامت بها الشرطة وإقرار قوانين جديدة في عشرات البلدان وسقوط رئيسي الوزراء في أيسلندا وباكستان.
تلتها “وثائق بارادايز” عام 2017 التي فضحت الممارسات المالية السرية لعشرات الشخصيات المعروفة التي كان من بينها أسماء عربية لامعة، ثم كانت الخاتمة بـ”وثائق باندورا” التي وإن كانت نظريًا تعد الحلقة الثالثة من سلسلة التسريبات لكنها في الوقت ذاته الحلقة الكبرى التي من المتوقع أن تهزّ عروشًا وتفضح ثروات و”تشطب” وجوه نجوم.