تسير الأوضاع في السودان -على كافة المسارات- من سيّئ إلى أسوأ، فبينما كان يؤمل المشاركون في حراك ديسمبر/ كانون الأول 2018 أنفسهم بحياة كريمة، إذ بهم يجدون أنفسهم في حلقة مفرغة، من أزمة إلى أخرى، دون حلول ناجعة لوقف النزيف المستمر في هذا البلد الضارب في جذور التاريخ.
وآخر الأزمات التي تواجه السودانيين في عراكهم المستمر مع التحديات التي تعرقل حلمهم في الانتقال الديمقراطي، في أعقاب الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/ نيسان 2019، نفاد مخزون البلاد من الأدوية الضرورية والوقود، الأمر الذي ربما يضع الملايين من أبناء النيل على قائمة الموت البطيء إن لم يتمَّ تدارُك الأمر.
وبعيدًا عن علاج تلك الأزمة، دخلت الحكومة في سجال مع المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة في شرق البلاد، حول أسباب تفاقم الوضع وهوية المسؤول عن ذلك، حيث أرجعَ مجلس الوزراء في بيان له نقص الدواء إلى الاحتجاجات المشتعلة في الولايات الشرقية وما نجم عنها من إغلاق لميناء بورتسودان، الميناء الرئيسي في البلاد.
وفي المقابل نفت قبائل البجا بيان الحكومة، مؤكّدة أنها لم تمنع أي أدوية من دخول مناطق الدولة المختلفة، مرجعة هذا الشحّ إلى وجود الأدوية داخل الميناء بسبب “عدم تكملة الإجراءات القانونية من قبل الحكومة”، وأنه “لا علاقة لها بالتصعيد الثوري السلمي بشرق البلاد”.
طالبَ مجلس القبائل في بيان له الحكومة بأن تتحمّل مسؤوليتها “بدلًا من بيانات الإدانة والشجب التي لا تحل المشكلة”، مضيفًا: “نحن ننتظر قرارات لحل المشكلة، ولن تُرفع التروس في الإقليم الشرقي ما لم يتمَّ إلغاء مسار شرق السودان”، وهو الطلب الأقوى ضمن قائمة مطالب رفعها المحتجّون كشرط لإنهاء احتجاجاتهم المستمرة منذ أكثر من أسبوعَين.
في 18 أبريل/ نيسان الماضي، أعلنت وزارة الصحة السودانية أن نسبة توافُر الأدوية الأساسية في البلاد تبلغ 40%، الأمر الذي يعكس فجوة كبيرة قدرها 60%.
أزمة متفاقمة
يعاني السودان من تفاقم أزمة الدواء منذ أكثر من 5 سنوات، وإن تفاقمت بشكل أكبر خلال العامَين الماضيَين تحديدًا، متأثِّرة بالتداعيات الاقتصادية الكارثية لجائحة كورونا وارتفاع سعر الدولار بصورة غير مسبوقة، علمًا أن قطاع الدواء في البلاد يعتمد بشكل شبه كامل على الاستيراد في ظل غياب الاستراتيجية الوطنية لتصنيع الدواء محليًّا.
من جانب آخر، أحدثَ الحريق الهائل الذي تعرّض له معمل أميفارما للأدوية المحدودة في العاصمة الخرطوم، سبتمبر/ أيلول 2020، شرخًا كبيرًا في منظومة العلاج بصفة عامة، كونه المعمل الوحيد الذي يعمل في السودان ويمدّ الصيدليات بنسبة كبيرة من الأدوية إلى جانب ما يستورد.
وتشير التقديرات إلى أن البلد الإفريقي يحتاج سنويًّا إلى ما لا يقلّ عن 400 مليون دولار لتوفير الحد الأدنى من الأدوية المستوردة، وفي ظل حالة الانكماش الاقتصادي الذي يعاني منها وما نجم عنها من تضخُّم كبير وزيادة في معدلات العجز، فشلت الحكومة في توفير هذا المبلغ، ما انعكسَ بطبيعة الحال على المعروض من الأدوية مقارنةً بالطلب المتزايد.
ونتيجة لتلك الأسباب، باتت الرفوف في الصيدليات شبه فارغة، والأزمات تحاصر الصيادلة من كل صوب، فيما اضطرت عشرات الصيدليات إلى تعليق لافتات مكتوب عليها “عدم توفُّر الأدوية”، لا سيما تلك التي تعالج الأمراض المزمنة كالضغط والسكّري والقلب، وهو ما يشير إلى وضعية كارثية في هذا المجال.
الأزمة الراهنة قادت بالفعل إلى قفزة جنونية في سعر الأدوية الموجودة حاليًّا، والتي لا تتناسب والمستوى المعيشي للسواد الأعظم من الشعب، ما دفع شريحة ليست بالقليلة إلى السوق السوداء، حيث بيع المنتجات الدوائية منتهية الصلاحية أو المصنَّعة “تحت بير السلم” بعيدًا عن المصانع الرسمية، بصرف النظر عمّا يمكن أن يترتّب عن ذلك من مخاطر صحية قد تودي بحياة المستهلكين لها.
يُذكر أنه في 18 أبريل/ نيسان الماضي، أعلنت وزارة الصحة السودانية أن نسبة توافُر الأدوية الأساسية في البلاد تبلغ 40%، الأمر الذي يعكس فجوة كبيرة قدرها 60%، فيما اتخذت جملة من التدابير لحلِّ الأزمة قدر الإمكان في إطار تحركات عاجلة، لكنها لم تنجح في تحقيق هذا الهدف، حيث تفاقم الوضع يومًا تلو الآخر.
الأزمة أكبر من الاحتجاجات
إلقاء الكرة في ملعب الاحتجاجات الشرقية، كونها السبب الرئيسي في تفاقم أزمة الدواء، تحرُّك غير مقنع للشارع السوداني، كما أنه يتنافى والواقع الذي يحياه المواطن ليل نهار طيلة السنوات الأخيرة، ومن ثم إن الوقوف عند تراشُق الاتهامات بشأن مسؤولية تفاقم الوضع دون البحث عن حلول عاجلة، ربما يطيل أمد الأزمة ولا يحلها.
وعليه فمشكلة الدواء في البلاد أكبر من مسألة الاحتجاجات التي لم تبلغ الأسابيع الثلاثة بعد، الأمر الذي دفع بعض المتخصصين للبحث عن الأسباب الحقيقية وراء تلك الوضعية الدوائية الحرجة، ومحاولة دراسة الحلول العملية التي تناسب المرحلة الحالية التي يمرُّ بها السودان.
وتشير رانيا مأمون مديرة المؤسسات الصيدلانية الخاصة بإدارة الصيدلة في وزارة الصحة بولاية الخرطوم، إلى أن نحو 75% من الأدوية المتداولة تشهد نقصا في الصيدليات، معتبرة أن توفير الحكومة مبلغا من الدولارات شهريًا أمر بالغ الصعوبة في الوقت الراهن.
وطالبت خلال حديثها لـ “الجزيرة” بضرورة “تخصيص الدولة اعتمادات بالدولار بالسعر الرسمي (في حدود 55 جنيها للدولار) حتى لا يضطر مستوردو الدواء ومصنّعوه لتوفير الدولار من السوق الموازي بواقع 140 جنيها للدولار، وهو ما يفاقم الأزمة”
أما يوسف شكاك من شعبة مستوردي الأدوية، فيرجع الأزمة الراهنة إلى أن البلاد ظلت لنحو نصف عام من دون سياسة دوائية واضحة، في ظل غياب الحساسية اللازمة للتعامل مع سلعة إستراتيجية مثل الدواء، مقترحًا على السلطة الانتقالية إنشاء محفظة تعمل على الإيفاء بمتطلبات قطاع الدواء السنوية من العملة الصعبة المقدرة بحوالي 650 مليون دولار.
وطالب في تصريحات له بتوفير مبلغ شهري قدره 55 مليون دولار، يوزع كالتالي: 20 مليون دولار لصندوق الإمدادات الطبية، و25 مليون دولار لاستيراد الدواء، و10 ملايين دولار للتصنيع الدوائي؛ على أن توفر 40 مليون دولار بشكل فوري لمعالجة الأزمة الراهنة.
الصيدلي السوداني، غسان الرشيد، يقدِّم في مقال له روشتة تفصيلية، مشخّصًا من خلالها أعراض هذا الداء، واضعًا العلاج الناجع له، إداريًّا وعلميًّا ومجتمعيًّا، في محاولة للوقوف على الأزمة، ميدانيًّا، بكافة تفاصيلها، بعيدًا عن التنظير الممارَس من فوق المكاتب المكيَّفة.
وتتمحور أزمة الدواء في السودان، بحسب كاتب المقال، حول السوق السوداء التي التَهَمَت الجزء الأكبر من المضامين الداخلة في القطاع برمّته، فالفارق الكبير بين الأرباح المحقَّقة بشكل رسمي مقارنة بنظيرتها في السوق السوداء أغرى الكثير من أصحاب الصيدليات، وتزامن ذلك مع شحّ المعروض بسبب قلة الاستيراد الناجم عن عدم توفر العملة الصعبة، وهو ما أوصل الحال إلى ما هو عليه الآن.
ضرورة ممارسة أقصى درجات الضغط، الإعلامي والمجتمعي، على الدولة لتحمُّل كامل مسؤولياتها تجاه المواطن، وأبرزها توفير منظومة علاجية دوائية آمنة.
وخلص الصيدلي السوداني إلى عدد من الخطوات الواجب الالتزام بها للخروج من تلك الشرنقة، أولها: تبنّي رؤية شاملة تراعي جميع مكوّنات قطاع الصيدلة، يصاحبها التفاف جميع الصيادلة حول تلك الرؤية بعد الاتفاق عليها مع الحكومة والأجهزة المعنية.
هذا بخلاف ضرورة إعادة النظر في مفهوم “دعم الدواء” بشكله المعمول به حاليًّا، والاستعاضة عنه بنظام تأمين صحّي قوي يشمل كافة أبناء السودان، مع تحرير سعر صرف دولار الدواء تفاديًّا لأي انهيارات محتملة مستقبلية في قطاع الصيدلة، خاصة بعد التوجُّه العام للسلطة الحالية برفع الدعم تدريجيًّا على كافة المجالات.
واختتمَ الرشيد روشتة العلاج المقدَّمة بضرورة ممارسة أقصى درجات الضغط، الإعلامي والمجتمعي، على الدولة لتحمُّل كامل مسؤولياتها تجاه المواطن، وأبرزها توفير منظومة علاجية دوائية آمنة، بجانب تدشين لجان من الخبراء والمتخصصين تكون وظيفتها البحث عن حلول عملية وسريعة لتلك الأزمة، تجنُّبًا للوصول إلى طريق مسدود ربما يضع الملايين من أصحاب الأمراض المزمنة على قوائم انتظار الموت.