أصبحت سياسة “حافة الهاوية” في واشنطن بشأن رفع سقف الديون أو المخاطرة بالتخلُّف عن السداد، عنصرًا أساسيًّا في اقتصاد القرن الحادي والعشرين، ولكن منذ الأزمة المالية العالمية الأخيرة قبل عقد من الزمن، حدث تغيير كبير في الطريقة التي يفكّر بها المستثمرون والاقتصاديون والمسؤولون بشأن الاقتراض العام.
باتوا أقل اهتمامًا بحجم الدين وأكثر تركيزًا على تكاليفه التي صارت في الوقت الحاضر أقل كلفة، بل يمكننا القول إنها شبه مجّانية في الولايات المتحدة الأمريكية، ويساعد الاحتياطي الفيدرالي في التأكيد من بقائها على هذا النحو، ما يُبقي فعليًّا سوق سندات الخزانة الأمريكية البالغ 22 تريليون دولار تحت السيطرة.
وفقًا لمكتب الميزانية في الكونغرس، ستكون مدفوعات الفائدة للحكومة الأمريكية على مدى السنوات الثلاث المقبلة منخفضة مثل أي وقت منذ الستينيات قياسًا بحجم الاقتصاد في ذاك الوقت، وذلك لأن الانخفاض طويل الأمد في تكاليف الاقتراض تفوّقَ على حجم الدين الإضافي، الذي تتحمّله الحكومة لدعم الاقتصاد منذ الأزمة المالية لعام 2008 وخلال فترة الوباء.
الفيدرالي الأمريكي.. الخصم والحَكَم
قد يتطلب إحداث تغيير حقيقي في كلفة الدين الأمريكي ارتفاعًا في عوائد سندات الخزانة، التي يبلغ متوسطها حوالي 2.5% عبر جميع فترات الاستحقاق، وفقًا لـ Bloomberg Intelligence، حيث كان المتوسط أقل من 1.6% في أغسطس/ آب 2021، وهو الأدنى منذ أكثر من عقدَين.
حتى بعد الارتفاع في الشهر الماضي، يتمُّ تداول سندات الخزانة لأجل 10 سنوات بعوائد تبلغ حوالي 1.5%، وهي أدنى مستوياتها وفقًا للمعايير التاريخية، وعلاوة على ذلك يقول العديد من المستثمرين إن بنك الاحتياطي الفيدرالي، والذي يتحكّم على الورق فقط في أسعار الفائدة قصيرة الأجل، هو المحرِّك الرئيسي لأسعار الفائدة على الديون الحكومية طويلة المدى أيضًا، ما يحدُّ من مخاطر ارتفاع كلفة الدين الأمريكي بشكل كبير.
ثمة حقيقة مفادها أن بنك الاحتياطي الفيدرالي نفسه يشتري سندات الخزانة ويمتلك حوالي 5.4 تريليون دولار منها، ومن المتوقّع أن يستمرَّ في الشراء حتى تبدأ ملامح تعافي الاقتصاد تظهر بجدّية ووضوح أكبر، وبحسب المتوقَّع يمكن أن يكون ذلك في منتصف عام 2022، حيث سيتظهر هذه المحفظة الضخمة من السندات بشكل كبير في الأسواق.
لا وجود للسوق الحر عندما نتحدث عن ديون أمريكا
في جميع أنحاء العالم المتقدِّم، يتم توجيه معدّلات الديون الحكومية بشكل متزايد من قبل صانعي السياسات، بدلًا من تحديدها من قبل السوق الحر، وتتم الأمور بالشكل التالي:
تدفع البنوك المركزية، مثل الاحتياطي الفيدرالي، فائدة على الأموال التي تصدرها عند شراء الديون السيادية، وينتهي الأمر بربط تكاليف الاقتراض الحكومي بشكل وثيق بمعدلات السياسة، وببساطة يحصل بنك الاحتياطي الفيدرالي على فائدة من الخزانة على السندات التي يحتفظ بها، ويسدِّد الفوائد المستحقة على الأموال التي أصدرها (الاحتياطيات)، ويرسل ما تبقّى من الأرباح إلى الخزانة مرة أخرى، والنتيجة هي أن الجزء الأكبر من الدين العام المحتفَظ به في البنك المركزي، أصبح فعليًّا دينًا يتم خدمته بالسعر المستهدَف لبنك الاحتياطي الفيدرالي.
كلّما ارتفعت أعادوها إلى الصفر
كما هو الحال مع أي بنك مركزي، يمتلكُ الاحتياطي الفيدرالي تفويضًا بالحفاظ على استقرار الأسعار وزيادة معدلات التوظيف، ولا تقع الديون العامة في نطاق هذا التفويض، ومع ذلك هناك أكثر من سبب وراء اعتقاد المحلِّلين بأن الاحتياطي الفيدرالي يعمل الآن على المساعدة في إدارة تكاليف ديون الحكومة.
أولاً، قد تؤثر الزيادة الكبيرة في الاقتراض أثناء الوباء على محافظي البنوك المركزية، وهم يستعدّون لمواجهة التضخُّم الناتج عن تريليونات الدولارات التي تمَّ ضخّها لمواجهة أثر الجائحة، من خلال تقليل شراء السندات ورفع أسعار الفائدة في نهاية المطاف، حيث إن تحركوا بسرعة كبيرة يمكن أن يخنقوا الاقتصاد بجعل أعباء الديون أكثر تكلفة.
يقول شون سيمكو، الرئيس العالمي لإدارة محفظة الدخل الثابت في شركة SEI للاستثمارات، إنه أمر “سيحتاج رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول إلى التروي فيه، لتحقيق التوازن ومحاولة إبقاء العائدات تحت السيطرة لاحتواء تكاليف خدمة الديون”.
الديون والإنفاق والتضخُّم
يمكن للحكومات أيضًا أن تأخذ تكاليف الاقتراض المنخفضة كحافز للإنفاق على نطاق يؤدي باستمرار إلى ارتفاع التضخم، لكن يبدو هذا الخطر بعيد الحدوث في أوروبا واليابان اللتين عَلِقَتا في مصائد الانكماش لأكثر من عقد من الزمن، وقد يكون لذلك أثر أكثر حدّة في الولايات المتحدة، حيث كان التحفيز الاقتصادي لمجابهة آثار جائحة كورونا أكبر، وما زال الكونغرس يدرس حزمة تحفيز أخرى بقيمة 3.5 تريليون دولار.
التضخُّم هو القضية التي يجب أن يفكِّر فيها صانعو السياسة المالية في الولايات المتحدة على المدى القريب، وليس حجم الدين أو حتى تكلفة خدمته، وفقًا لمؤشر أسعار المستهلك في أمريكا لجميع البنود التي ارتفعت بنسبة 0.3% في أغسطس/ آب الماضي، حيث البنزين والغذاء والمأوى بين المؤشِّرات الآخذة في الارتفاع بشكل كبير.
فقد ارتفع مؤشر أسعار المستهلك لجميع المستهلكين الحضريين بنسبة 0.3% على أساس معدل موسمي، كما ارتفع بنسبة 5.3% على مدار الـ 12 شهرًا الماضية.
الدين العام في اليابان ضعف أمريكا
من الصحيح أن حكومة اليابان تُدين بأكثر من ضعف ما تُدين به أمريكا (بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي)، وتدفع فوائد أقلّ من ذلك لخدمتها، لكن لم يكن التحدي الذي يواجه صانعي السياسة اليابانيين هو وضع سقف للديون، ولكن وضع حد أدنى للنمو الاقتصادي في مواجهة التداعيات طويلة الأجل من التركيبة السكّانية التي تشتمل على الزيادة في أعداد المسنين على حساب الشباب.
لا يعني أي من هذا أن النظام الاقتصادي الجديد والمتطوِّر قد حلَّ بشكل دائم مشاكل الديون العامة، وأن للحكومات في الدول المتقدمة الاقتراض كما يحلو لها، أو أنه لا يحمل مخاطر خاصة به.
يمكن للسياسة أن تؤدي إلى أزمة ديون في البلدان المتقدمة، حتى في حالة عدم وجود سبب اقتصادي لحدوث أزمة، كما تظهر الأزمة الداخلية الحالية في واشنطن، حيث التجاذبات السياسية بين الديمقراطيين والجمهوريين في الاتفاق على ما يجب فعله تجاه سقف الديون الأمريكي، قد تؤدّي إلى كارثة اقتصادية حقيقية تضرب الأسواق المالية العالمية، وتُلحق أضرارًا طويلة الأمد في الاقتصاد العالمي.
وبالطبع قد تعاني أوروبا من نسختها الخاصة عندما يبدأ الجدل فيها حول سقف الديون، الذي ارتفع بشكل كبير للتعامل مع الجائحة.