يبدو أن الانتصار التاريخي الذي حققته أذربيجان خلال حرب قره باغ الثانية، العام الماضي، الذي تكلل بالاتفاق بينها وبين أرمينيا برعاية روسية ودخل حيز التنفيذ في 10 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ويقضي بإعادة مناطق أذربيجانية كانت قد احتلتها أرمينيا منذ أغسطس/آب 1993، ما زالت أصداؤه تفرض نفسها على حلف الخاسرين في تلك المواجهات الممتدة قرابة 50 يومًا.
المكاسب الجيوسياسية التي حققها الأذر في تلك الحرب أثارت حفيظة الإيرانيين على وجه التحديد، الذين أبدوا تخوفاتهم بشأن تغيرات محتملة في خريطة المنطقة قد تهدد نفوذهم ومصالحهم في تلك المنطقة الإستراتيجية التي تعد مصدرًا وممرًا عالميًا للطاقة.
ومنذ إسدال المواجهات المسلحة بين الأذر والأرمن أوزارها نهاية 2020، والشريط الحدودي بين أذربيجان وإيران (756 كيلومترًا) يعيش حالة من الترقب والقلق وسط مناوشات وتحرشات بين الطرفين، لكنها كانت في إطارها الدافئ بعيدًا عن أي تصعيد يشعل فتيل الأجواء في جنوب القوقاز، خاصة في ظل تعدد الجبهات أمام طهران خلال تلك الفترة.
غير أن الأيام الأخيرة شهدت تسارعًا ملحوظًا في وتيرة التصعيد والتوتر بين البلدين، وصلت إلى التهديد والتلويح بالعمل العسكري، فقد رفع كل طرف من درجة استعداداته العسكرية بصورة تنذر باحتمالية ولوج المنطقة في أتون حرب جديدة.
مناورات عسكرية هنا تقابل بأخرى هناك، (“الأخوة الثلاث” في مواجهة “فاتحي خيبر”)، تصريحات تصعيدية في طهران أمام أخرى أكثر سخونة في باكو، استدعاء للحلفاء وتجييش الخط الأمامي على المنصة الحدودية، وسط صمت محكم من المجتمع الدولي.. الكل في انتظار الرصاصة الأولى التي تشعل جنوب القوقاز مرة أخرى.
تصاعد التوتر
وصل التصعيد مراحله المتطورة بدءًا من الشهر الماضي، حين أوقفت أذربيجان بعض الشاحنات الإيرانية التي لم تحصل على إذن مرور، ولم تسمح لها بالعبور ونقل الوقود إلى قره باغ، الأمر تصاعد أكثر مع احتجاز عدد من سائقي تلك الشاحنات، ما أثار حفيظة طهران.
الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، برر هذه الخطوة بأن عبور الشاحنات الإيرانية إلى الإقليم غير قانوني وما كان يحدث خلال سيطرة الأرمن على تلك المنطقة لن يحدث اليوم بعد الاتفاق الموقع العام الماضي الذي بموجبه تم الاعتراف بسيطرة الأذر على طريق ناخيتشيفان (الإقليم الأذربيجاني الذي كانت تفصله أراضٍ أرمينية بالقرب من الحدود مع تركيا وإيران)، الأمر الذي دفع الخارجية الأذربيجانية، لاستدعاء السفير الإيراني في باكو، عباس موسوي، وسلمته مذكرة احتجاج على دخول شاحنات إيرانية.
الجانب الإيراني يقرأ تلك المعطيات في ضوء ما وصفه بـ”المحطط الأذري الإسرائيلي” بمساعدة تركيا، لإحداث تغييرات جيوسياسية في منطقة القوقاز
ومثل هذا الممر أزمة كبيرة لدى العديد من ساسة إيران، ممن طالبوا بإعادة النظر في هذا الاتفاق الذي تم برعاية روسية، كما جاء على لسان النائب الإيراني أحمد بيغيش، الذي طالب في بيان له بعدم الاعتراف بهذا الطريق الجديد، داعيًا برلمان بلاده إلى الإعلان رسميًا أن إيران لا تعترف بالتغيير الجغرافي للحدود في المنطقة والممر.
وفي ضوء هذا التوتر، شهدت المنطقة سجالًا من المناورات بين الطرفين، تبلغ 5 مناورات حتى كتابة هذه السطور، ومرشح زيادتها خلال الأيام المقبلة، إن لم يتم احتواء الموقف، ثلاث مناورات، بين تركيا وأذربيجان، وبين تركيا وباكستان وأذربيجان، وبين تركيا وأذربيجان وجورجيا، واثنتين نظمتهما القوات الإيرانية على الحدود مع أذربيجان.
لقاءات عدة عقدها مسؤولو الجيش في تركيا وأذربيجان وجورجيا لمناقشة سبل تعزيز التعاون الدفاعي والعسكري بين البلدان الثلاث، وهي اللقاءات التي قرأها الإيرانيون على أنها محاولة رسمية لتغيير الخريطة الجيوسياسية في المنطقة لصالح الأذر على حساب الدول الحدودية وفي المقدمة منها إيران.
“إسرائيل”.. السبب المعلن
في تعليقه على المناورات الإيرانية بالقرب من حدود بلاده تساءل الرئيس الأذربيجاني: “لماذا الآن ولماذا على حدودنا؟”، مضيفًا في حديثه لـ”الأناضول”: “لماذا يتم ذلك بعد أن حررنا هذه الأراضي بعد 30 عامًا من الاحتلال؟”.
بررت إيران تصعيدها مع الأذر ولجوئها إلى المناورات في هذا التوقيت تحديدًا، وفي تلك المنطقة على وجه الخصوص، وبهذا الكم الكبير من القوات المشاركة، بزيادة وتيرة مخاوفها من التغلغل الإسرائيلي في الداخل الأذربيجاني بما يهدد الأمن والمصالح الإستراتيجية للإيرانيين.
المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زادة، في تصريحات له أول أمس، أشار إلى أن بلاده تتلقى، منذ المواجهة العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا خلال العام الماضي حتى اليوم، تقارير عن “حضور الإرهابيين والصهاينة (القوات الإسرائيلية) داخل أراضي جمهورية أذربيجان بالقرب من الحدود الإيرانية”.
وفي المقابل نفت باماكو الاتهامات الإيرانية بشأن وجود طرف ثالث في المعادلة، في إشارة لـ”إسرائيل”، فقد تساءل الرئيس علييف: “هل يوجد أي دليل على ذلك؟”، مشددًا على أن بلاده “لن تسمح بإلقاء افتراءات عليها لا أساس لها من الصحة”، وقال: “بلد مستقل ويعرف جيدًا مع أي بلد يقيم العلاقات وفي أي مستوى”.
الجانب الإيراني يقرأ تلك المعطيات في ضوء ما وصفه بـ”المخطط الأذري الإسرائيلي” بمساعدة تركيا، لإحداث تغييرات جيوسياسية في منطقة القوقاز، عبر السيطرة على الشريط الحدودي الممتد من جمهورية نخجوان إلى الأراضي الأذربيجانية، ما يعني إزالة حدود طهران مع أرمينيا.
من وجهة نظر القوميين في أذربيجان، حتى الشيعة منهم، فإن إيران لا تختلف كثيرًا عن روسيا المحتل السابق، معتبرين أن ضم طهران لأجزاء من الوطن الأذربيجاني الواسع نقطة سوداء في ثياب الشقيق الشيعي الأكبر
ليست “إسرائيل” السبب الوحيد
تركيز طهران على النفوذ الإسرائيلي في أذربيجان كسبب محوري لتصعيدها الحدودي مع جارتها محاولة لإضفاء توجهها الحاليّ شرعية أخلاقية تخدم أجندتها التوسعية الإقليمية، فهناك قائمة مطولة من الخلافات بين البلدين، ساهمت في توسيع الهوة بينهما رغم الكثير من القواعد المشتركة.
وتتنوع الخلافات التي كان لها دورها في تأجيج الأجواء بين الدولتين، منها اتهام السلطات الأذرية للجانب الإيراني بالدعم المستمر للأرمن طيلة سنوات النزاع على إقليم ناغورني قره باغ، وتوجس أذربيجان من دور طهران المتنامي في منطقتي آسيا الوسطى والقوقاز، بما يهدد المصالح الإستراتيجية للدولة الأذرية.
وفي الجهة الأخرى تشعر طهران بالقلق إزاء التقارب الأذري الأوروبي من خلال ربط مصالح باماكو مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) لخلق توازن مع النفوذ الروسي، هذا بخلاف تعميق العلاقات مع تركيا، وهو ما أثار تخوفات الإيرانيين من امتداد النفوذ التركي لجارتها الحدودية باعتبارها من تجليات ما يسمى “فكرة القومية التركية” في الدول الناطقة بالتركية.
الاقتصاد كان عاملًا مهمًا في توتير الأجواء بين الجارتين كذلك، فقد تسبب ميل باماكو إلى الانفتاح على تركيا والغرب في امتعاض طهران التي شعرت بتهديد نفوذها النفطي من خلال تلك السياسة الجديدة، كون أنقرة تعتبر المعبر للغاز والنفط الأذربيجاني الذي ينافس مصادر الطاقة الإيرانية.
وباتت إيران في موقف لا تحسد عليه بعد تضييق الخناق على أرمينيا في طرق التجارة من جانب أذربيجان وتركيا، إذ كان يعتمد الإيرانيون على صداقة أرمينيا لتوفير معبر بديل للنقل إلى روسيا وأوروبا، الأمر الذي يهدد مسارات نقل منتجاتها من الطاقة، التي تعد الرافد الاقتصادي الأول حاليًّا في ظل العقوبات المفروضة عليها دوليًا.
وكان الدعم الإيراني المستمر لأرمينيا المسيحية في مواجهة أذربيجان المسلمة ذات الأكثرية الشيعية محل تساؤل لكثير من المراقبين للمشهد، فنحو 97% من سكان أذربيجان مسلمون و85% منهم من الشيعة و15% فقط من السنة، وتعد أذربيجان ثاني أعلى نسبة من المسلمين الشيعة في أي بلد في العالم، وفي المقابل يمثل الأذربيجانيون حاليًّا نحو 16% من سكان إيران.
لكن من وجهة نظر القوميين في أذربيجان، حتى الشيعة منهم، فإن إيران لا تختلف كثيرًا عن روسيا المحتل السابق، معتبرين أن ضم طهران لأجزاء من الوطن الأذربيجاني الواسع نقطة سوداء في ثياب الشقيق الشيعي الأكبر، وقد ساهمت سنوات الحكم السوفييتي في إضعاف دور الدين في حياة الأذربيجانيين الخاضعين لحكم الشيوعية، لتقترب المشاعر الأذربيجانية أكثر وأكثر إلى أولاد عمومتهم في اللغة والقومية الأتراك (تعتبر اللغة الأذرية أقرب لغة من العائلة التركية إلى اللغة التركية الخاصة بتركيا) على حساب أشقاء المذهب والطائفة.
سيناريوهات المواجهة
هناك 3 سيناريوهات ترسم مسار التوتر المتصاعد بين البلدين خلال المرحلة المقبلة، أحدهما يتعلق برد الفعل الإسرائيلي والآخر بمدى ترجمة السياسات التعاونية بين أذربيجان وجورجيا وتركيا إلى إجراءات ملموسة ميدانيًا، والآخر بشأن منحنى التفاوض المتقعر الخاص بالاتفاق النووي والموقف الدولي بشأنه.
السيناريو الأول يشير إلى احتمالية الولوج في مستنقع المواجهات العسكرية بين البلدين، لكن هذا السيناريو الذي ربما يكون مستبعدًا، مرتبط بشكل كبير بإقدام “إسرائيل” على توجيه ضربة جوية للمنشآت النووية الإيرانية، عبر الأراضي الأذربيجانية.
ومنذ عام 2000 تهدد تل أبيب بشن هجمات ضد مواقع إيرانية دون تنفيذ أي منها، وهو التهديد الذي يغازل الشارع الإسرائيلي والخليجي أكثر منه انعكاس لتوجه عام رسمي، خاصة أن الإقدام عليه يتطلب ضوءًا أخضر أمريكيًا، بجانب الصعوبات اللوجستية المتعلقة بتباعد المنشآت الإيرانية من جانب، ومخاوف رد الفعل من جانب آخر، وعلى كل حال يبقى هذا السيناريو قائمًا رغم صعوبة أجواء تنفيذه.
أما السيناريو الثاني، فيتوقف على سرعة خطوات التنسيق والتعاون بين المحور الثلاثي (أذربيجان وتركيا وجورجيا) وهو المحور الذي صعد من أفق تناغمه عسكريًا خلال الآونة الأخيرة بتدشين 3 مناورات متتالية، أرسل من خلالها رسائل تحذير وطمأنة في الوقت ذاته.
في السابق، كانت تملك إيران رفاهية التنويع في ضغوطها على الأذربيجانيين، في ظل موقف الدولة الضعيف نسبيًا لصالح أرمينيا التي كانت تحظى بدعم روسي إيراني أوروبي، لكن المعادلة اليوم تغيرت تمامًا، ومن ثم فإن طهران ستفكر ألف مرة قبل أن تقدم على أي عمل ضد باكو بعدما باتت في كنف تحالف قوي قادر على الرد على أي مناوشات أو تهديدات حدودية.
فيما يذهب السيناريو الثالث إلى مساعي إيران لدعم حقيبتها بالكثير من أوراق الضغط قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات بشأن إحياء اتفاقها النووي، خاصة في ظل التصريحات الأخيرة المشيرة إلى قرب العودة للمسار التفاوضي مرة أخرى بعد أشهر طويلة من التعثر، وذلك عبر المناكفات السياسية و”إثارة المشاغب” هنا وهناك.
يحاول الإيرانيون الخروج بأكبر قدر من المكاسب خلال فترة الجمود السياسي التي تحياها مباحثات فيينا، على أمل تعزيز موقفها التفاوضي مع انطلاق المسار مرة أخرى، وهي الإستراتيجية التي يتبعها النظام الإيراني في أكثر من ملف، في اليمن وليبيا وسوريا ولبنان، وأخيرًا جنوب القوقاز.
وإن كانت إيران تسعى إلى فرض معادلة جديدة في علاقاتها مع أذربيجان بما يسمح بعدم وجود قواعد عسكرية لوجستية إسرائيلية فوق التراب الأذري كـ”سيف” مسلط على رقاب الإيرانيين، يمكن استخدامه بين الحين والآخر، لكن الأجواء بين البلدين أكثر ضبابية من الغبار الإسرائيلي، الأمر الذي يبقي على كل السيناريوهات مفتوحة وبدرجات متساوية نسبيًا، لتواجه منطقة القوقاز حلقة جديدة من مسلسل التوتر الذي يبدو أنه لن ينتهي.