“1971: لا توجد لحظة مملّة أو سنة ذهبية لفنّ الروك“، هو العنوان الذي اختاره الكاتب البريطاني ديفيد هيبورث لكتابه الهامّ في مجال التأريخ الموسيقي، والذي صدر عام 2016، وسرعان ما تلقّفت شركة آبل في اتجاهها الإنتاجي السينمائي الجديد الفكرةَ، لتصنع منها مسلسلًا وثائقيًّا أصدرته عام 2021 تحت عنوان “1971: السنة التي غيّرت فيها الموسيقى كل شيء“.
يبدو العنوان خاطفًا أكثر منه صادقًا، أو أنه تحيُّز من صنّاع العمل لجيلهم، وإحساس متضخِّم بالأهمية الذاتية للأجيال، فكيف يمكن لسنة واحدة أن تغيّرَ التاريخ، بل من خلال الموسيقى خصوصًا؟ إنها فكرة غير منطقية على الإطلاق.
لكن العرض الوثائقي المذهل من إخراج آصيف كاباديا، الحاصلة والمرشَّحة أفلامه لجائزة أوسكار في أكثر من مناسبة، أعطى انطباعًا وتركيزًا يجعلانك تعتقد أن تلك السنة قد تغيّرَ فيها وجه العالم من خلال الموسيقى، أو كما يدّعي المغنّي ديفيد بوي في أحد مشاهد المسلسل: “كنا نصنع القرن الحادي والعشرين في عام 1971”.
يرى آصف كاباديا مبرِّرًا اختيار العنوان: “في بعض الأحيان، عليك أن تدلي بتصريح جريء. من بحثنا، كان هناك شيء مذهل حول تلك اللحظة بالذات، حيث تأتي من نهاية الستينيات، لتنقلك إلى السبعينيات، لقد كانت نقطة تحوُّل”.
وفقًا للمقدِّمة في كتاب هيبورث، فالستينيات انتهت حقًّا في ليلة رأس السنة الجديدة عام 1970، عندما رفع بول مكارتني دعوى قضائية لحلّ فريق البيتلز الموسيقي رسميًّا، ورغم أن عام 1971 لا يلتزم بأي أيديولوجية صارمة، إلا أن طبيعته المتعرِّجة تتحدث عن ملاحظة هيبورث بأنه كان أول عام بعد فرقة البيتلز، في الموسيقى، كما في الحياة، لقد كان عامًا لتقسيم الروابط، ونهايات حزينة، وبدايات غير مؤكدة، وفقدان للبوصلة المحرِّكة للأحداث، حيث لم يتفق الجميع على ما يجب فعله في المستقبل.
تلك الصراعات أعطت عام 1971 هيكله، الذي يتشكّل منه المسلسل ذو الـ 8 حلقات، تبلغ مدة كل حلقة منها ساعة، تستعرض تفاعلات الفنانين وردود أفعالهم على موضوع معيَّن من المواضيع التي كانت تغزو الساحة آنذاك، فنرى مارفن جاي وجون لينون يستخدمان فنهما لمعالجة حرب فيتنام، ورولينغ ستونز وجاغر وجون موريسون وجوهًا تمثل قضية المخدرات التي عبثت بعقول المجتمع في ذلك العهد.
كما نرى ديفيد بوي وأليس كوبر وتي ريكس يصنعون المزيد من موسيقى الروك الاستعراضية المسرحية الأنثوية لتكون موسيقى البوب لجيل جديد، أما كارول كينغ وجوني ميتشل وإلتون جون يستخدمون ازدهار المغني وكاتب الأغاني في لوس أنجلوس، باعتباره هروبًا داخليًّا من ظل تشارلز مانسون السفاح.
السود، الهيبيز، الثقافة المضادة، الحرب في فيتنام، فضائح ووترغيت، البيتلز؛ كلها قضايا يدور حولها المسلسل، ليثبت لنا أن الموسيقى كانت أكثر من ظاهرة فنية في تلك الحقبة، بل كانت تاريخًا بحدّ ذاته، أو صنعت تاريخًا.
أكثر من مجرد خلاصة وافية لألبومات تلك الحقبة الرائعة، تقدِّم السلسلة صورة جماعية للفنانين الذين كانوا يشكّلون بشكل استباقي ثقافة البوب والسياسة، أو كما يقول المخرج: “المسلسل يدور حول ما يحدث في العالم حرفيًّا، من يقول ماذا، من يفعل ماذا، وكيف لا يزال يؤثّر فينا حتى الآن”.
كل شيء يبدأ من فيتنام
لقد آثر كاباديا، المخرج الوثائقي المتميِّز، والذي أنتج بالفعل فيلمًا موسيقيًّا من قبل عام 2015 بعنوان Amy إلى جوار أفلامه الوثائقية الهامة الأخرى مثل Senna وDiego Maradona؛ أن يضع على المسلسل بصمته الراسخة، فعند كاباديا لا توجد رؤوس للمواضيع نبدأ منها النقاش، فالتسجيلات الأرشيفية التي ميّزت أعماله تخترق العمل منذ الثانية الأولى، حيث يرى كاباديا أنها تضع الجمهور في الحاضر وفي اللحظة.
ورغم أن القائمين على المسلسل قاموا بأكثر من 100 مقابلة حديثة للشخصيات الأرشيفية، إلا أنك تجد في بعض الأحيان أن المقابلات الأرشيفية القديمة للمغنّين كانت هي التي تتصدّر المشهد، حيث يرى كاباديا أن ضباب الوقت يفسد ذكريات الناس حقًّا.
تتجنّب السلسلة مقاطع المقابلة المعتادة والتي تقطع السرد البصري، وبدلًا من ذلك تقوم بتعبئة كل حلقة بشرائط أفلام أرشيفية من الأمام إلى الخلف، وتعمل مقتطفات من التعليق الصوتي غير المتجسِّد على تعتيم الخط الفاصل بين الصوت المحفور من تلك الفترة والمقاطع الصوتية التي حصدها المخرجون بأنفسهم في يومنا هذا.
تبدأ أحداث المسلسل في أمريكا المنقسمة بشأن حرب فيتنام، مع مقتل 4 متظاهرين مناهضين للحرب في جامعة مدينة كينت في ولاية أوهايو، التي ألهمت الأغنية الاحتجاجية لكروسبي وستيلز وناش ويونغ في أوهايو.
وفي هذا الوقت ذاته، كتب المطرب الشهير مارفن جاي، والذي كان شقيقه محاربًا في فيتنام، أغنيته الاحتجاجية في وجه الحرب، والألبوم الذي يحمل الاسم ذاته: “ما الذي يحدث؟“. كما يقول عضو حزب الفهود السود، الجماعة الحقوقية للسود في أمريكا السبعينيات، بيلي إكس: “إن ألبوم مارفن جاي أعاد بلورة الوضع برمّته”.
وتركز الحلقات الأخرى على ألبومات كارول كينغ وجوني ميتشيل، لاستعراض أيقونية الحركة النسوية في المجال الموسيقي، كما أنها تستكشف في عوالم إلتون جون ولو ريد لتستعرض ثقافة عوالم المثليين، وكيف نجح جيمس براون وآيك وتينا تيرنر في اجتياز العنصرية ضد السود بصناعة الموسيقى.
ورغم أن المسلسل يختار العام 1971 كمرتكز لأحداثه، إلا أنه يغطّي أحداثًا اجتماعية وسياسية أسبق على هذا العام، أو بعبارة أوسع الأحداث التي أدّت إلى الزخم في ذلك العام، منذ جرائم قتل مانسون عام 1969 وتفكُّك البيتلز عام 1970، وهنا يتفوق المسلسل على الكتاب المقتبَس عنه الذي لا يتطرق كثيرًا لما هو أبعد من عام 1971.
ويعرّج المسلسل على أحداث هامة كأحداث سجن أتيكا، التي مهّدت الجذور لحركة Black Lives Matter، حيث تُقرأ في ضوء تلك الأحداث موسيقى آريثا فرانكلين وكيرتس مايفيلد وغيل سكوت هيرون، كأنها موسيقى تعبِّر عن الاضطرابات العرقية ومناهضة العنصرية والروح الثورية للسود التي شكّلت ملامح تلك المرحلة من التاريخ الأمريكي.
يتبنّى المسلسل وجهة نظر عن الصدام التاريخي بين الثقافة المضادة الصاعدة بوعيها السياسي المتزايد، وأطيافها كالحركات النسوية وحركة السود وفخر المثليين، في وجه الوضع الراهن آنذاك المتمثِّل في نيكسون والأغلبية الصامتة وستار الحرب على المخدرات والشيوعية.
إن الفنانين الشباب لتلك الفترة كانوا يؤلِّفون موسيقى لا تعكس العصر فحسب، بل تشكّلهم هم أيضًا كذلك، وتحفِّز لديهم الاستيقاظ والتغيير.
إننا نرى كيف كان الموسيقيون في ذلك الوقت قادرين على إحداث الزخم والدوي والضجيج، من خلال تلك الرحلة التي نظّمها الفنانون السود الأمريكيون للسفر إلى غانا للاحتفال بذكراها السنوية الرابعة عشرة كدولة مستقلة، من خلال الحفل التاريخي الشهير Soul to Soul، ويعرض لنا المسلسل من خلال التركيز على هذا الحفل تعامل السود مع جذورهم الفكرية، والمشاهد الحميمية العاطفية التي وصفَت ذلك المشهد.
المخدرات والثقافة المضادة
من المرتكزات الهامة التي يقوم عليها العرض الأرشيفي للمسلسل هي قضية الهيروين، والمخدرات بصفة عامة، كيف شكّلت تلك الأساليب غير الأخلاقية وسائل احتجاج على المجتمع والسياسة العجوز لأوروبا والغرب، والتي تسبّبت في حربَين عالميتَين كارثيتَين، اكتملتا بحرب أمريكا على فيتنام فيما بعد.
لقد شكّلت موسيقى الروك آند رول في ذاك الوقت ثقافة مضادة للمجتمع الذي غطّاه التراب، لذلك تكون الكثير من اللقطات الأرشيفية البعيدة عن الموسيقى في المسلسل مفيدة لهؤلاء الذين لم يكونوا هناك بينما تندلع كل تلك الأحداث، ففي المسلسل نستطيع أن نشاهد الكثير من اللقطات الأرشيفية عن أحداث شغب سجن أتيكا، وعن مسلسل “عائلة أمريكية” الذي شكّل ثورة عصره.
ونشاهد أيضًا محاكمة أوز للمجلات الإباحية، وعن حركة “حافظوا على بريطانيا بيضاء”، ومحاكمة الناشطة السياسية السوداء أنجيلا ديفيس، ولقطات أخرى من عام 1971 تبدو وكأنها ذات صلة بعام 2021 وصعود الشوفينية واليمين السياسي من جديد.
من كنز مخيف من اللقطات الأرشيفية والمستعادة، والتي يبلغ مجموعها مئات ومئات الساعات، قام مخرجو العمل بتجميع أجزاء تشبه إلى حدٍّ كبير فنّ الكولاج، فالسرد يرفض أن يأخذ المشهد من يده ويستكشف به الأحداث، وبدلًا من ذلك يقدِّم للمشاهد مجموعة من النقاط في الوقت المناسب لتجعل المشاهد يربط نفسه بالحدث.
فربما تكون هناك حلقة واحدة تتعرض للكثير من القضايا، بينما تكون هناك حلقة تركّز على قضية بعينها، فقد احتوت اللحظة الاجتماعية والفنية التي تمَّ استكشافها عبر الحلقات الثمانية على قدر هائل من العبقرية، حيث جعلت المسلسل يعبِّر عن تأريخ ثقافي أكثر منه تأريخ لموسيقى ذاك العام، ويركّز أيضًا على مناطق الاشتباك بين الموسيقى وأحداث ذلك العام.