ما إن ربح ماكرون الانتخابات الرئاسية الفرنسية ووصل قصر الإليزيه حتى كانت الجزائر من أول المرحبين بذلك، إذ تم وصف الوافد الجديد إلى سدة الحكم في باريس بـ”الصديق”، خاصة بعد تصريحاته التي عبر فيها عن تأسفه على الجرائم التي ارتكبتها بلاده في الجزائر.
تفاؤل كبير من طرف الجزائريين في تحسن علاقات بلادهم مع فرنسا بعد تصريحات ماكرون “الجريئة” خلال حملته الانتخابية، لكن هذا التفاؤل سرعان ما تحول إلى “تشاؤم”، فالعلاقات بين البلدين وصلت أحلك أيامها نتيجة تصريحات ماكرون أيضًا وتحركاته التي تلت وصوله للسلطة، فما قبل الوصول للإيليزيه ليس كما بعده.
تفاؤل في التغيير
ما إن تم الاعلان عن فوز ماكرون برئاسة فرنسا في مايو/أيار 2017، حتى سارعت الجزائر للترحيب بذلك، إذ أعرب رئيس البلاد حينها عبد العزيز بوتفليقة عن تحمّسه لأن يفتح ساكن الإيليزيه الجديد إيمانويل ماكرون آفاقًا جديدةً في العلاقات الجزائرية-الفرنسية.
في رسالة التهنئة التي بعثها إلى الرئيس الفرنسي الجديد، إثر انتخابه، قال بوتفليقة، إنّه ينتظر من ماكرون تدارك ما ضاع من فرص في العلاقات الجزائرية الفرنسية، عبر فتح آفاق جديدة تعد بتقبل الذاكرة بحقيقة كل ما تنطوي عليه، وصداقة استوى نضجها، ومصالح متكافئة المنفعة، مع بقاء الجالية الجزائرية المقيمة بفرنسا والمواطنين الفرنسيين الموجودين في الجزائر عاملًا بشريًا نفيسًا يستدعي الاعتناء به والحفاظ عليه.
بوتفليقة وصف تصريح ماكرون خلال زيارته للجزائر وموقفه من الاستعمار بـ”الرائد”، وقال مخاطبًا ماكرون إنه “يضعكم طبيعيًا وشرعيًا في الموقع المرموق، موقع الفاعل المقتنع والمقنع في عملية استكمال مصالحة حقيقية بين بلدينا في إطار احترام القيم الذاتية للشعوب التي يتحول تقاربها في أثناء محن المواجهة إلى صحبة على نهج الأمل لا تضاهيها صحبة”.
بقيت العلاقات دون المطلوب، طيلة سنة 2018، لكن فبراير/شباط 2019 حمل معه أحداثًا جديدةً ألقت بثقلها على العلاقات بين البلدين
بنى بوتفليقة موقفه من ماكرون على تصريحات هذا الأخير خلال حملته الانتخابية، إذ قال ماكرون خلال زيارته للجزائر، في فبراير/ شباط الماضي: “الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي، إنه جريمة، جريمة ضد الإنسانية، إنه وحشية حقيقية وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نواجهه بتقديم الاعتذار لمن ارتكبنا بحقهم هذه الممارسات”.
وفي تلك الزيارة وعد ماكرون ببناء علاقات متينة مع الجارة كما أسماها، أسسها الشراكة الإستراتيجية، تكون بوابة للتعاطي مع مختلف الدول الإفريقية، خاصة مع مناطق الأزمات والنزاعات في القارة السمراء وفي مقدمتها الأزمة الليبية، بالنظر إلى الموقع السياسي والإقليمي الذي تحتله الجزائر، والعلاقات التي تملكها مع أطراف النزاع في ليبيا.
كما كشف ماكرون حينها، نيته التعامل مع الجزائر وتطوير الشراكة في مجال الطاقات المتجددة ورفع حجم الاستثمارات الفرنسية المباشرة في الجزائر التي اشتكت من تراجعها إلى ما دون المليار دولار.
بداية الانهيار
هذه الوعود كانت قبيل انتخابه رئيسًا لفرنسا، لكن كما قلنا في البداية، قبل الوصول للإيليزيه ليس كما بعده، ففي السادس من ديسمبر/كانون الأول 2017، زار ماكرون الجزائر بصفته رئيسًا لفرنسا، لكنه لم يقدم اعترافًا ولا اعتذارًا رسميًا من باريس عن جرائم الاستعمار كما طالب الجزائريون.
بقيت العلاقات دون المطلوب، طيلة سنة 2018، لكن فبراير/ شباط 2019 حمل معه أحداثًا جديدةً ألقت بثقلها على العلاقات بين البلدين، فالجزائريون الذين خرجوا للشارع ضد نظام عبد العزيز بوتفليقة لم ينسوا فرنسا خلال مظاهراتهم، خاصة بعد إعلان باريس دعمها لخريطة طريق أعلنها بوتفليقة لتمديد فترة حكمه.
تمّ استهداف فرنسا منذ بداية الحراك الجزائري بشعارات مندّدة بسياستها تجاه هذا البلد العربي، خلال المسيرات المختلفة، ويرى الجزائريون الذين خرجوا إلى الشوارع ضدّ نظام بوتفليقة أن فرنسا ورئيسها ماكرون يدعمون النظام الجزائري “الفاسد” دون هوادة.
توتر متسارع
خلال سنة 2019، والفترة التي أعقبت استقالة عبد العزيز بوتفليقة من الحكم، توالت التصريحات من مسؤولين وسياسيين جزائريين، بينهم قائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح، تتهم باريس بمحاولة التدخل للتأثير في المرحلة الانتقالية بالجزائر.
??????
???Dégag#طرد_السفير_الفرنسي_مطلب_شعبي #Algerie
#ماكرون? #الجزائر_قوة_ضاربة #فرنسا #France pic.twitter.com/iF2tkr9dSN— zahoalg4 ?? (@omamine12) October 5, 2021
كما اعتقلت السلطات الجزائرية أعضاء كبار في اللوبي الداعم لباريس بالجزائر، فضلًا عن تعطيلها صفقات كبرى لشركات فرنسية هناك على غرار تعطيل عملية شراء العملاق الفرنسي الناشط في قطاع الطاقة “توتال”، لأصول العملاق الأمريكي “أناداركو” في الجزائر، إلى جانب ذلك اتخذت العديد من الوزارات والمؤسسات العمومية في البلاد، إجراءات لتدعيم اللغة الإنجليزية وإسقاط الفرنسية المهيمنة.
جاءت هذه الخطوات المتتالية بهدف كسب تعاطف الجماهير الغفيرة المشاركة في الحراك الشعبي، إذ يعلم حكام الجزائر وعلى رأسهم الجيش، أن الجزائريين يكنون عداءً كبيرًا لفرنسا، لذلك فأفضل طريقة لكسب تعاطفهم وودهم هي ضرب مصالح فرنسا وتوجيه صفعات متتالية لها.
امتعاض فرنسي
الامتعاض الفرنسي من هذه الخطوات، ظهر جليًا في تعامل الإليزيه مع نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فبعد الانتخابات كان الموقف الفرنسي باردًا تجاه نتائجها، فقد تلقى الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون التهاني من مختلف الدول، لكن الجانب الفرنسي تأخر في تهنئة الرئيس الجديد، واكتفى خلال الأيام الأولى بعبارة “أخذنا علمًا بنتائج الانتخابات”.
في أبريل/نيسان 2020، نشر الجيش الفرنسي صورة على حسابه بتويتر تضمنت اسم الجزائر وعلمها، وأضيف إليها العلم الأمازيغي واسم منطقة القبائل، وكأن الأمر يتعلق بكيانين مختلفين أو مستقلين، وليس دولة واحدة هي الجزائر، ما جعل الخارجية الجزائرية تستدعي سفير باريس لديها كزافيي دريونكور للاحتجاج على ذلك.
حقد فرنسا على #الجزائر قبل الإحتلال لم يأتي من فراغ
فلا طالما أهانت وأذلت الجزائر كرامة الفرنسيين عندما كانت قوة بحرية؛حيث كان المدفع يرمي سفراء فرنسا في البحر عند أي إستفزاز فرنسي للجزائر حتى سمي ب”المدفع القنصلي”
كنا كجزائريين نطعم فرنسا الجائعة بالقمح ولم تسدد ديونها وغدرت بنا pic.twitter.com/PrJZ5RbJqO— فطوم?? الجزائرية 2️⃣ (@fatooma_dz2) October 2, 2021
لم تتوقف فرنسا هنا، إذ بثت قنوات حكومية فرنسية في مايو/ أيار 2020 فيلمًا وثائقيًا عن الحراك الشعبي الجزائري يظهر شبانًا وهم يطالبون بالتحرر من التقاليد، كما تضمن انتقادات للسلطات وقيادة الجيش، وهو ما دفع الجزائر لاستدعاء سفيرها في باريس للتشاور.
تحولات كبرى
في التاسع من أبريل/نيسان 2021، عرفت العلاقات بين البلدين حدثًا مفصليًا، إذ أعلنت باريس تأجيل زيارة رئيس حكومتها جان كاستاكس إلى الجزائر بطريقة مفاجئة دون أن تعلن سبب ذلك، فيما قال الفرنسيون إن الوضع الصحي وراء ذلك.
لكن السبب الحقيقي لتأجيل الزيارة يرجع إلى انزعاج الجزائر من فرنسا بعد أن خفضت الأخيرة عدد الوفد إلى أربعة وزراء ثم وزيرين، مقابل نحو عشرة في العادة لمثل هذا النوع من الزيارات، دون أن توضح سبب ذلك، وهو ما اعتبرته الجزائر تقليلًا منها.
وكان من المنتظر خلال هذه الزيارة انعقاد اللجنة العليا المشتركة برئاسة كل من كاستكس ورئيس الحكومة عبد العزيز جراد، لتقييم العلاقات الثنائية بين البلدين خاصة الاقتصادية منها.
فرنسا تقرّر تشديد شروط منح تأشيرات الدخول إلى مواطني المغرب والجزائر وتونس
بالتزامن مع ذلك، فتح حزب ماكرون فرعًا محليًا جديدًا في مدينة الداخلة بالصحراء الغربية، وهو ما اعتبر تحولًا مهمًا في السياسة الخارجية لفرنسا وتقربًا من المغرب، ذلك أن الحزب الحاكم يعبر حتمًا عن سياسة الدولة الفرنسية، ما يعني أن فرنسا من الممكن أن تفتح قنصلية في أقاليم الصحراء وتعترف بذلك بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
الجزائر رأت في هذا الأمر اصطفافًا فرنسيًا إلى جانب المغرب في قضية الصحراء الغربية المتنازع عليها بين المغرب والبوليساريو، فالجزائر تدافع عن البوليساريو وتعمل على إقامة دولة لها في أقاليم الصحراء عكس المغرب الذي يطرح منح الأقاليم الحكم الذاتي.
باريس تواصل استفزاز الجزائر
في 28 من سبتمبر/أيلول 2021، أعلن المتحدث باسم الحكومة الفرنسية غابريال أتال أن بلاده قررت تشديد شروط منح تأشيرات الدخول إلى مواطني المغرب والجزائر وتونس، وذلك لرفض هذه الدول إصدار تصاريح قنصلية لاستعادة مواطنيها الذين يوجدون في فرنسا بشكل غير قانوني، بعدها بيوم، استدعت الخارجية الجزائرية سفير فرنسا فرانسوا غويات.
ردا على مجنون #فرنسا المدعو #ماكرون لو لم تكن هناك امه جزائرية قبل الاستعمار ما استعمرتوها وهذه عملة تذكارية المانية توضح عظمة #الجزائر عام ١٧٥٠ الذي دفع الاحتلال الفرنسي ١٨٣٠ لاحتلالها و الصحيح في الأمر أن لا يوجد فرنسا لولا خيرات افريقيا ويكفي سقوطكم في الحرب العالمية الاولى pic.twitter.com/G9VPpeRHHI
— ??? عمرو عبد الهادي (@amrelhady4000) October 3, 2021
في 30 من سبتمبر/أيلول 2021، استقبل ماكرون أحفاد “حركي” (عملاء جزائريون عملوا مع فرنسا)، وخلال اجتماعه بهم، ادّعى ماكرون عدم وجود أمة جزائرية قبل استعمار بلاده للجزائر، بعدها بيومين استدعت الرئاسة الجزائرية سفيرها لدى باريس محمد عنتر داود للتشاور.
بالتزامن مع ذلك، حظرت السلطات الجزائرية على الطائرات الحربية الفرنسية التحليق في أجوائها حسبما أعلن ناطق باسم هيئة الأركان العامة الفرنسية، وتحتاج المقاتلات الفرنسية إلى عبور الأجواء الجزائرية لبلوغ منطقة الساحل للتصدي للجماعات المسلحة.