كلما زاد الخناق عليه في الداخل، اختلق أزمة خارجية جديدة، نتحدث عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وتصريحاته الأخيرة التي شكّك فيها بوجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي لهذا البلد العربي، في إشارة للوجود العثماني هناك.
تصريحات يراها الجزائريون تعدّيًا على سيادة بلادهم وجهلًا من قبل ماكرون بالتاريخ، فالجزائر كانت وما زالت أمة لها تاريخها المستقل، وما العثمانيون الذين وطأت أقدامهم أرضها سوى فاتحين ومنقذين للبلاد من الغزو الإسباني، حالها كحال الجارة الشرقية تونس.
تصريحات مثيرة
قبل أيام قليلة، استقبل إيمانويل ماكرون 18 شابًّا فرنسيًّا من أصل جزائري (من أبناء الحركيين الجزائريين، الذين حاربوا في صفوف الجيش الفرنسي ضد ثورة التحرير في بلادهم من عام 1954 إلى عام 1962) في قصر الإليزيه، لمناقشة مسألة “مصالحة الشعوب”، وأثناء حديثه معهم تساءل: “هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟”.
وأضاف: “أنا معجب بقدرة تركيا على محو ذكرى الدور الذي لعبته في الجزائر والهيمنة التي مارستها”، في إشارة إلى الإمبراطورية العثمانية، حيث في كلامه إشارة إلى أن الجزائر كانت محتلَّة من قبل العثمانيين قبل الاحتلال الفرنسي لها عام 1830.
اعتبرَ ماكرون في كلامه أيضًا، وفق ما أوردته صحيفة “لوموند”، أن الجزائر قامت بعد استقلالها عام 1962 على نظام “ريع الذاكرة” الذي كرّسه “النظام السياسي العسكري” فيها، وقال إن ذلك النظام هو الذي أعاد كتابة التاريخ الاستعماري الفرنسي للبلاد، بمرجعية نابعة من “الكراهية لفرنسا”.
عام 1518، ارتبطت الجزائر بالدولة العثمانية، وتمَّ إدخالها ضمن أملاكها حتى تكسب نوعًا من الحماية الدولية بطلب من أعيان البلاد.
هذه التصريحات رفضتها الجزائر، إذ قال وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، إن تركيا لاعب دولي مهم جدًّا، والجزائر مرتبطة معها بـ”علاقات تاريخية عميقة”، واصفًا تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بـ”الخطأ الجسيم”.
أضاف لعمامرة على هامش الاجتماع الوزاري الثالث بين إيطاليا وأفريقيا في روما، في تصريح لـ”وكالة الأناضول”، أن الجزائر وتركيا تمتلكان علاقات تاريخية عميقة وروابط معنوية قوية، وتسعيان إلى تعزيز علاقاتهما المشتركة.
فضلًا عن ذلك، استدعت الجزائر سفيرها في باريس، وأغلقت مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية العاملة في إطار “عملية برخان” في الساحل الأفريقي، ورأت الرئاسة الجزائرية -في بيان- أن هذه التصريحات “مسيئة”، وتمثّل ما وصفته بـ”المساس غير المقبول” بذاكرة أكثر من 5 ملايين مقاوم جزائري قتلهم الاستعمار الفرنسي.
فتح عثماني
لكن دعونا نعود قليلًا إلى الوراء، تحديدًا إلى بداية القرن السادس عشر، لمعرفة حقيقة الوجود العثماني في الجزائر، هل كان استعمارًا أم فتحًا. في تلك الفترة شهدت الجزائر، أو ما كان يُعرَف قديمًا باسم المغرب الأوسط، انهيار حكم الدولة الزيانية وانقسامها على نفسها إلى إمارات صغيرة مفكَّكة متناحرة، ما أدّى إلى احتلالها من قبل الإسبان.
عقب ذلك استنجد الجزائريون بالعثمانيين، فهُم القوة الوحيدة القادرة على قيادة مقاومة متماسكة وموحَّدة، تتصدّى للتهديد الصليبي على البلاد، لقيادة حركة المقاومة الإسلامية لتحرير سواحل الجزائر وتقديم الدعم اللازم لمسلمي الأندلس، خاصة بعد أن سمع أعيان الجزائر عن انتصارات الأسطول العثماني على المسيحيين البرتغاليين والإسبان في عرض البحر.
لبّى العثمانيون النداء، وجاء الإخوة عروج وإسحاق وخير الدين بربروس للمساعدة والنجدة على جناح السرعة، حيث حاصروا بداية عام 1512 مدينة بجاية بعد أن اتّصل بهم علماء وأعيان المدينة، وأمير قسنطينة الحفصي أبو بكر، قادمين من حلق الوادي، غير أنهم فشلوا في فتح المدينة بسبب تحصينات الإسبان القوية وتعاوُن قلعة بني عباس معهم.
أعاد الإخوة الكرّة بعد سنتَين، لكن هذه المرّة من مدينة جيجل التي استعادوها من قراصنة جنوة الإيطالية بجيش برّي، وحاصروها ما يقارب الـ 3 شهور دون جدوى واضطروا إلى رفع الحصار، وكرروا المحاولة في ربيع العام الموالي بقوة برّية كبيرة ولكن نفاد الذخيرة الحربية وامتناع الأمير الحفصي بتونس عن تزويدهم بالذخيرة اضطرّاهم إلى الانسحاب منها.
بعد ذلك بسنة، أي عام 1515، توجّه عروج إلى مدينة الجزائر على رأس قوة برّية بعضها من الأتراك وأغلبها من سكان القبائل، بينما قاد خير الدين أسطولًا بحريًّا في الاتجاه نفسه والتقيا معًا بالمدينة، حيث بايع سكانها خير الدين أميرًا للجهاد في سبيل الله.
تطورت الجزائر في العهد العثماني، إلى أن أصبحت لها دولة بالمعنى الحديث للكلمة.
عام 1518، ارتبطت الجزائر بالدولة العثمانية، وتمَّ إدخالها ضمن أملاكها حتى تكسب نوعًا من الحماية الدولية بطلب من أعيان البلاد، ذلك أن فتحها لم يعجب الإسبان ولا بعض متمرّدي الداخل، نتيجة ذلك عيّن السلطان سليم الأول خير الدين أول حاكم تركي على الجزائر بلقب “بايلر باي”.
أمة مستقلة ذات سيادة
خلال فترة وجودهم في الجزائر، حكم العثمانيون البلاد عن طريق البايلربايات (أمير الأمراء)، يعيّنهم مباشرة السلطان العثماني على رأس الإيالة لفترة غير محدودة بزمن، ويختارهم غالبًا من أكفاء الرجال الذين خدموا في الجزائر، ودامَ حكم البايلربايات إلى غاية عام 1588، ومن صلاحياته مواصلة الجهاد ضد الإسبان وطردهم من المدن التي احتلوها في الجزائر.
عقب ذلك، كان الحكم للبشاوات، وامتدّ الأمر من عام 1588 إلى غاية عام 1659، تميّزت هذه الفترة بتعيين باشا تركي يقوم السلطان العثماني بإرساله من تركيا ويستدعيه بعد انتهاء فترة تعيينه، ثم بدأَ عهد الآغاوات وامتدَّ إلى غاية عام 1671.
عام 1671 تمَّ إلغاء نظام الآغاوات بقرار من ديوان الأوجاق، وتمَّ تعويضه بنظام الدايات، حيث يظل الداي في الحكم طوال حياته دون أن يكون له الحقّ في تعيين من يخلفه، وامتدَّ هذا النظام إلى غاية عام 1830، عام احتلال الجزائر من قبل الفرنسيين.
استمرت فترة الدايات 159 عامًا، وهي تعادل نصف تاريخ الوجود العثماني بالجزائر، وعرفت هذه الفترة استقلالًا نوعيًّا للجزائر عن السلطة العثمانية المركزية، حيث احتفظ العثمانيون لأنفسهم بسلطات شكلية في الجزائر تمثّلت بصفة خاصة في الدعاء للسلطان العثماني في صلاة الجمعة والاعتراف بمراسيم التعيين والتعاون في مجال الحروب، بحيث تقوم الجزائر بتقديم المساعدة العسكرية للبحرية العثمانية في حالة تعرُّض تركيا للاعتداء، وكذا في تقديم دايات الجزائر الهدايا أثناء المناسبات الدينية والسياسية.
كانت العلاقة التي تربط الجزائر بالعثمانيين علاقة تعاوُن ومساعدة متبادلة بدافع التضامن في الجهاد، أمام النصارى الساعين لاحتلال دول شمال أفريقيا بعد احتلالهم للأندلس وطرد المسلمين منها، كما تميّزت العلاقة بين الطرفَين أيضًا باستقلال الجزائر استقلالًا تامًّا، وسيادتها سيادة كاملة.
يتبيّن هذا في ورود اسم الجمهورية الجزائرية في غالب نصوص المعاهدات والمراسلات التي كانت بينها وبين الدول الأخرى، كما كانت للجزائر علاقات دبلوماسية ومعاهداتها مع الدول الأوروبية والأمريكية توقَّع باسم الجزائر، والجزائر فقط، وبهذا الإمضاء: “الجزائر المجاهدة” و”الجزائر المحروسة” و”الجزائر القاهرة”، كما كانت الجزائر تمضي المعاهدات وتعلن الحرب وتعقد السِّلم وتجري المفاوضات باسمها.
نفهم من هذا أن الجزائر في العهد العثماني تطوّرت إلى أن أصبحت لها دولة بالمعنى الحديث للكلمة، فهي وحدة متكاملة قائمة بذاتها اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، فقد كانت تتمتّع بكيان معترف به دوليًّا وتمارس استقلالًا حقيقيًّا في نطاق الرابطة العثمانية التي قوامها المصلحة المتبادلة والروابط الروحية.