ترجمة وتحرير نون بوست
في عام ١٩٨٩، تم توقيع اتفاقية لوضع حد للحرب الأهلية اللبنانية في مدينة الطائف السعودية. لا شك أن الاتفاقية وضعت حدًا لسفك الدماء الذي استمر ١٥ عامًا، بيد أنها كانت غير واقعية في مناحٍ عدة، لا سيما أنها اعتبرت أن لبنان بلد حر مستقل ذو سيادة، كما قالت فقرتها الافتتاحية، وهو بلد حُكِم عليه بأن يكون ملعبًا للقوى الدولية، حتى بعد الحرب الأهلية — لا يدلل على ذلك أكثر من احتلال سوريا وإسرائيل لأجزاء منه لسنوات بعد اتفاقية طائف، بل وربما الاتفاقية نفسها التي أوكلت للجيش السوري دعم القوات اللبنانية في بسطها لسيادتها على كامل أراضيها.
يقول الصحافي البريطاني روبرت فيسك، في أحد كتبه، أن السعوديين هندسوا الاتفاقية لتميل بالكفة لصالح المسلمين السنة في لبنان، وقد نقلت الاتفاقية بالفعل بعض السلطات من منصب الرئيس المسيحي إلى منصب رئيس الوزراء السُني، بينما غيّرت من نسبة المسيحيين إلى المسلمين في البرلمان من ٦:٥ إلى ١:١. علاوة على ذلك، نصت الاتفاقية على العديد من التعديلات الدستورية والإجراءات التي لم تُنفّذ، ومنها ما يخص الإعلام والدفاع والانتخابات البرلمانية وتأسيس مجلس للشيوخ.
وصفت الاتفاقية لبنان بأنه بلد عربي بانتمائه وهويته، وهو ما قد يختلف حوله بعض المنتسبين للثقافة الفرنسية والمتأثرين بالاستعمار — أو لنقل المستعمرين ذاتيًا — ووصفت كذلك الرئيس بأنه رمزٌ لوحدة البلاد. ليس من المفاجئ إذن أن لبنان بلا رئيس منذ ما يزيد على الخمسة أشهر.
التوافق الطائفي
أشهر ما تضمنته الاتفاقية هو القضاء على الطائفية السياسية، وهي توزيع المناصب السياسية والإدارية طبقًا للمذهب الديني وتعداد معتنقيه، في كافة المجالات العسكرية والأمنية والقضائية والعامة والمستقلة. يعود هذا النظام ربما إلى المرحلة العثمانية، ولكنه تجذر في مؤسسات الدولة في الميثاق الوطني لعام ١٩٤٣، الذي هندسه الرئيس بشارة الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح، واللذان قسما السلطة طائفيًا، وإن مالا بالكفة قليلًا لصالح المسيحيين الموارنة.
بجانب الموارنة، تضم لبنان اليوم ١٧ مذهبًا آخر، منهم السنة والشيعة والدروز والروم الكاثوليك والأرمن الأرثوذكس، إلخ، وهو ما يعني أن الحُجة القائلة بضرورة تقسيم المنظومة السياسية طائفيًا جوفاء تمامًا. لا عجب إذن أنه لم تحدث حالة توافق وطني منذ عام ١٩٣٢!
نصت الاتفاقية كذلك على إلغاء خانة الديانة في البطاقة، والتي عرّضت الكثيرين لخطر الذبح في نقاط التفتيش أثناء الحرب الأهلية. بيد أن اللبنانيين يكفيهم معرفة الاسم الأخير أو مسقط الرأس للتعرّف على الهوية الطائفية لأي شخص.
على سبيل المثال، أثناء اضطرابات مايو ٢٠٠٩، اصطحبني صديق لبناني في شوارع بيروت لأعود إلى منزلي بعد مناوشات في المنطقة، وأوقفته في الطريق مجموعة من المسلحين المنتمين للحزب السوري القومي الاشتراكي، حليف حزب الله، ورُغم أنه بلا أي انتماءات سياسية، إلا أن اسمه الأخير بدا سُنيًا. زاد الطين بلة حين رأي المسلحون صورة لرفيق الحريري على بطاقة هاتف في محفظته، واقترحوا اصطحابه للتحقيق معه، غير أنهم تركوه في النهاية. عاد صاحبي إلى منزله واحتسى زجاجة نبيذ قبل أن يحسم قراره بالدراسة في الخارج.
مأسسة الطائفية
شهدت بنفسي الطائفية في لبنان في مايو ٢٠٠٨ حين وصلت إلى لبنان قبل الأزمة بأيام، حيث كنت في سيارة صديق لبناني فلسطيني، واضطررنا للمرور عبر مجموعة حواجز من إطارات السيارات ومجموعة من رجال الدروز اقتربوا من السيارة بسؤالهم المفزع: “سنة أم شيعة؟”
في هذه الحالة كانت “سنة” هي الإجابة المرجوة! واستطاع صديقي أن يثبتها بجواز سفره كلاجئ فلسطيني. في الحقيقة صديقي ابن لأم شيعية من جنوب لبنان وأب فلسطيني، ولكنه سني على الورق لأنه الخيار الوحيد المتاح للفلسطينيين.
يأخذنا هذا إلى أحد الآثار القبيحة لتلك المنظومة الطائفية، حيث يحظر على نصف مليون فلسطيني الحصول على الجنسية والحقوق المدنية الكاملة — حتى القاطنين في لبنان منذ أكثر من ستين سنة — للحفاظ على التوازن الطائفي في البلاد. عوضًا عن ذلك، يعيش الفلسطينيون في مرحلة انتظار أبدية، وغالبًا في مخيّمات لاجئين بائسة، وهي أماكن ينظر لها الجهاديون السنة في الداخل والخارج كبُقَع مثالية لعملهم؛ زرع الكراهية تجاه الشيعة.
رُغم وعود اتفاقية الطائف بالقضاء على هذا الوضع، كان ما فعلته في الحقيقة هو العكس تمامًا. يقول حسن كُريم، مدير مشروع حوكمة تابع لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية في لبنان، أن الاتفاقية في الحقيقة حوّلت الميثاق الوطني إلى وثيقة رسمية دستورية مكتوبة، “المعادلة الطائفية، تمامًا كمثيلتها القديمة لعام ١٩٤٣، تبقي الباب مفتوحًا أمام تجديد الصراع، بل وزيادة احتمال وقوعه”.
هذا هو ما حدث إذن: اتفاقية وعدت بإلغاء الطائفية عبر ترسيخها على المدى القصير. هو أمر مشابه لتوزيع السلاح في كل بلد في العالم لتحقيق السلام على المدى البعيد. إنه محض هراء، والأمور تزداد سوءًا، إذ تم التصديق على مشروع قانون من قبل لنجة برلمانية يعتبر اتفاقية الطائف القانون الأساسي في لبنان. إذ تبنى البرلمان هذا المشروع سيحظر هلى المواطنين التصويت لمن هم خارج المذهب الرسمي.
الصراع الأهلي، والزواج المدني
ليس مُتاحًا في لبنان أن يعرّف الإنسان نفسه باعتباره علماني غير طائفي، ويتجلّى هذا بقوة في ساحة الزواج، إذ تم تسجيل أول زواج مدني في تاريخ لبنان العام الماضي فقط، وبعد معركة طويلة وشاقة. بيد أن هذا لا يكفينا لنتفاءل حيال تغيير الوضع الطائفي في لبنان.
فبجانب استهجان القيادات الدينية الإسلامية والمسيحية مرارًا وتكرارًا للزواج المدني، عبّر وزير الداخلية في يناير الماضي لإحدى الصحف عما يدور برأسه بهذا الخصوص قائلًا: “لا يجب أن يترك المتزوجان طائفتيهما الدينية في انتظار قانون مدني إذا أرادوا حماية حقوقهم وحقوق أولادهم، وذلك لأنه ليس في لبنان مكانٌ لطائفة تاسعة عشر.”
يعني هذا ببساطة أنه لا يمكن التعويل على الدولة اللبنانية لضمان حقوق المواطنين فيها، وأن الأمل في تغيير هذا الوضع الطائفي معدوم، فكل شيء في لبنان يُنظر له من زاوية الطائفة.
في مقال نُشر بدورية ييل للدراسات الدولية، نشر الباحث كولاي درويش أوغلو نتائج هامة من استطلاع للرأي أجري عام ٢٠١٠، وهي أن حوالي ٢٤،٪ من اللبنانيين الذين سُئلوا عن إلغاء الطائفية التي أقرتها اتفاقية الطائف، قالوا بأنهم لا يعرفون ما معنى “إلغاء الطائفية” أصلًا (!) في حين قال ٥٨٪ أنهم يوافقون على إلغائها، وتراوحت نسبهم بين الطوائف. كانت الكثير من هذه الموافقات في اوقع مبنية على حسابات طائفية: أن تتمكن طائفتهم من تحقيق مكاسب أكبر حال سقط النظام الطائفي الرسمي، وأن يتم تهميش طوائف أخرى تحصل اليوم على أكبر من حجمها الحقيقي على الأرض.
الوطنية اللبنانية هي محض سراب بعيد إذن. ولكن دعونا لا ننسى الوطنية بحد ذاتها بذرة للكراهية تجاه الآخرين، لا سيما اللاجئين الفلسطينيين والسوريين الموجودين الآن، والذين يعاملهم كثيرون باعتبارهم درجة ثانية من البشر.
الطبقة الاجتماعية أم الطائفة؟
تمثل الطبقة الاجتماعية والاقتصادية دومًا عاملًا تتجمع حوله مجموعات من المواطنين، دون النظر إلى هويتها الطائفية، وقد تكون خطوة أولية نحو تعريفهم لأنفسهم على أساس غير طائفي، وبالتالي خطوة نحو فتح المجال لتهميش الطائفية. ولكن المجال لهذا دومًا ما تعرقل، لأسباب عديدة.
يقول كُريم أن النمو الاقتصادي قبل الحرب الأهلية لم يكن متوازنًا في لبنان، وهو ما أدى إلى نزوح الكثيرين من الريف إلى بيروت وضواحيها، وخلق انقسامات اجتماعية وحركات احتجاجية قوّت من الهوية الطبقية، ودفعت نحو كسر أصنام الهويات الطائفية والقبلية التقليدية، ولكن تطور هذه المساحة توقف تمامًا إثر اشتعال الحرب الأهلية، والعودة السريعة للتقسيمات الطائفية الصلبة.
أحدث مثال على هذا هو أحداث مايو ٢٠٠٨، وإجهاض عملية تشكيل خطاب اجتماعي اقتصادي متجاوز للطوائف، حيث أبرزت وسائل الإعلام حينها الجانب الطائفي من مسألة السماح لحزب الله بالحفاظ على مكتسباته وقدراته العسكرية (والتي بفضلها نجح لبنان في ردع العدوان الإسرائيلي)، دون النظر للحقيقة الاقتصادية الاجتماعية الكامنة لهذا الصراع. فالشرارة التي أدت لهذه الأزمة كانت دعوة النقابات العمالية للاحتجاج على الرواتب الضئيلة والأسعار المتضخمة التي ارتفعت آنذاك بـ٤٣٪ في أقل من عامين.
يقول رُامي زُريق، أستاذ بقسم الأراضي والموارد المائية بالجامعة الأمريكية في بيروت، أن العوامل المحلية التي أدت للأزمة تتضمن فشل إدارة الدولة الاقتصادية، وتزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وفشل الاستثمار في قطاعات منتجة مثل الزراعة.
شملت مشاريع ما بعد الحرب الأهلية بناء وسط البلد في بيروت، وهو منطقة اتسمت بالبذخ لمعظم اللبنانيين، في حين عانت بقية ضواحي المدينة، والبلد أيضًا، من إهمال بنيتها التحتية وافتقادها للخدمات وفرص العمل. يعيش رُبع اللبنانيين حاليًا تحت خط الفقر، والمعدل يتجاوز ٥٠٪ في بعض المناطق، وبدلًا من أن يكون هذا الوضع بذرة لهوية جديدة على أسس اجتماعية، فإن القهر الاقتصادي هذا يعزز في الواقع المنظومة الطائفية ويرسخ لمكتسبات النخب التقليدية.
يقول زريق: “تنتج الاقتصاديات السيئة وضعًا يسمح للسياسيين بزيادة قوتهم، حيث يحتاج الكثيرون للعمل معهم، والوقوف خلف الطائفة وقياداتها، ليستطيعوا البقاء اقتصاديًا.” يلوم الكثيرون إذن الطوائف المتناحرة، ولكنهم لا يلوموا المنظومة بأكملها التي سمحت، وتسمح، لهذا الوضع بالبقاء.
الفشل الاجتماعي
تبنى حزب الله وحلفاؤه — المسلمون والمسيحيون — احتجاجات مايو ٢٠٠٨، والتي شكلت آنذاك ضغطًا على حكومة رئيس الوزراء السني فؤاد السنيورة المدعومة من الولايات المتحدة، وأثناء الأحداث قال أحد مناصري حزب الله في الاحتجاجات عن الاتهامات الموكلة لها بأنها طائفية في الأساس: “في كل مرة نعارض ارتفاع الأسعار والرواتب المنخفضة، أو أي من سياسات الحكومة التي تعيش بدعم غربي، يحرج علينا من يقول أننا نؤجج الصراع السني الشيعي.”
بكل وضوح إذن، تمثل الطائفية ستارًا لكل أشكال الفشل في لبنان، إذ تخفي النخب عن المواطنين خلف هذا الستار حقيقة أنهم يتشاركون في أوضاعهم الاقتصادية المزرية مع إخوانهم من مختلف الطوائف، أكثر مما يتشاركون معها كنخب تتربع على عرش الطائفة. إذا أدرك اللبنانيون هذا، فإنهم سيزلزلون عروش الطائفية في لبنان كله.
تظل النخب إذن تعزز من مخاوف خيالية طائفية لتعزيز سلطانها، وللإبقاء على ناخبيها في مواقعهم الطائفية، ولا يبدو أن ازدياد أعداد الجهاديين السنة في مواجهة الشيعة، التي تحدث مؤخرًا منذ اندلاع الحرب في سوريا، ستساعد على تغيير هذا الوضع، بل ستؤججه وترسخه.
المشكلة الأساسية إذن هي ليست أن المستفيدين من تلك المنظومة كُثُر، ولكن أن النخب والعائلات الكبرى التي تقتات على الطائفية، وتقسم الموارد ومناصب الدولة تبعًا لذلك، وكذلك الرعاة الدوليين لهم، يستفيدون بقوة من عدم الاستقرار الدائم الذي قد يجلب الصراع في أي وقت، وبالتالي يجعل المسألة الطائفية دومًا تحت الضوء، ويهمّش المسائل الاقتصادية والاجتماعية.
بالنظر للكم الهائل من التدخل الإقليمي والدولي في لبنان، يس غريبًا أن الميثاق الأساسي الذي يسير عليه لبنان، تم توقيعه في الطائف بالسعودية، وأن المفاوضات بشأن أزمة مايو ٢٠٠٨ تمت في الدوحة.
أما للطائفية من نهاية؟
هل من بارقة أمل حيال تغيير الوضع، بعد رُبع قرن من اتفاقية الطائف، وهي المناسبة التي دعت الكثيرين من اللبنانيين وأصدقاء لبنان إلى عقد المؤتمرات والدراسات للنظر في مستقبلها، وما إذا كانت هناك قرارات يمكن أن تؤخذ بشأن تعديلها؟
حسين الحسيني، الأب الروحي للاتفاقية، والمتحدث السابق باسم البرلمان، قال في مقابلة أجريت معه في مارس ٢٠١٤، أنه يجب تمرير قانون انتخابات يتماشى مع روح الاتفاقية القائل بأن الشعب هو مصدر السلطات. تلك فكرة ممتازة لا شك، ولكنها تتعارض مع منظومة الكوتة الطائفية التي أقرتها الاتفاقية نفسها.
من يعين “الشعب” إذن، المذكور في كم هائل من المواثيق والاتفاقيات، على اسرتجاع حقوقه، وتطبيق هذا البند من اتفاقية الطائف: “تجب مراجعة المناهج الدراسية بما يعزز من الانتماء الوطني، والاندماج، والانفتاح الثقافي والروحي، ويوحّد الكتب الدراسية في مسائل التاريخ والتعليم الوطني.”
يقول شارّو، محلل سياسي، أن هناك الكثير من أعداء الطائفية في لبنان والمنطقة، لا سيما اليائسين من النخب السياسية وما أكثرهم في تلك المنطقة من العالم، والذين يمثلون الأمل في فرصة حقيقية للتغيير. الطائفية في أزمة، كما يقول شارّو، منذ عام ٢٠٠٥، وهي تضع مؤسسات الدولة في حالة شلل تام، وتخلق وضعًا يجعل السياسيين أنفسهم غير راغبين في تغيير أي شيء لضمان حصتهم من الكعكة السياسية، ومشروع قانون حظر تصويت المواطنين خارج طوائفهم يؤكد على هذه الحقيقة.
نأمل أن يكون هذا الكلام حقيقيًا، وأن يكون ما يجري مؤخرًا في لبنان علامة على انتهاء صلاحية منظومة الطائف الطائفية. الأمر واضح وضوح الشمس: الطائف يحتاج إلى سحب الثقة منه كإطار لحُكم لبنان وتسيير دفة السياسة فيه.
المصدر: ميدل إيست آي