رغم التأثير الإعلامي والسياسي الضخم الذي افتقدته إيران بغياب قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري ومهندس عملية تخليق الفرق الشيعية شبه العسكرية الموالية لإيران كليًا في المنطقة، الذي أغتيل في عملية عسكرية خاطفة أشرف عليها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، فإن إرث الرجل باقٍ حتى الآن، ويبدو أنه لن ينتهي إلا بثمن باهظ على شعوب المنطقة.
مع كل فاعلية انتخابية في البلدان المجاورة لإيران تتضح التعقيدات المزعجة، فيظهر شبح سليماني الذي صمم كتلًا سياسيةً شيعيةً متحالفةً عضويًا مع طهران على حساب المصلحة العليا لهذه البلدان التي عانت من تحلل مؤسسي وطني على مدار السنوات الماضية.
تعلمت هذه الكتل كيف تسيطر على التصويت في الانتخابات وكيف تملي قراراتها وأفكارها على من يجب أن يكون رئيسًا للوزراء ويلتزم بمصالحها التي تدور بالتبعية في فلك طهران، حتى تضمن السيطرة على مفاصل السلطة الجديدة، ووضعها تحت مراقبة ميلشياتها العسكرية، كما تعلمت أيضًا كيف تقمع الشعوب وتقتل وتختطف وتعذب في سبيل استمرار مصالحها.
الأقلية الحديدية
منذ سنوات وفصائل الأقلية المدعومة من طهران تتلاعب بالعمليات الانتخابية، إذ عززت قوتها واستفادت جيدًا من تفكك الدول وسرقة أموالها والعنف شبه العسكري الذي أشاعته في البلدان العربية، بعد أن ساهمت في انتشار المخدرات والأسلحة وتهريب النفط.
عرفت هذه الفصائل كيف تنمي التوترات الطائفية، واستغلت كراهية الشارع للساسة وانتهازيتهم التاريخية في المنطقة وحالة اليأس من الأمل في التغيير، ودفعت بقواعدها تلتهم صناديق الانتخابات وتفرض كلمتها على أنظمة شبه ديمقراطية، حتى لا تترك لها مجالًا للتطور، إذ تصر على استغفال المعنى وتشويه الثقافة والمؤسساتية.
يمكن القول إن هذه الشبكات السرطانية بدأت تتشكل في المنطقة أواخر السبعينيات مع ظهور الجمهورية الإسلامية كدولة وليدة، صممت نظامها السياسي على تروس ثورية، وتزعم الدفاع عن المستضعفين في جميع أنحاء العالم الإسلامي وخارجه.
لعبت إيران على تسويق أيدلوجيتها لأول مرة بالاعتماد على الجماعات الكردية والشيعية المضطهدة في العراق لجمع المعلومات الاستخبارية وشن حرب العصابات ضد نظام صدام
كانت الحرب غير المتكافئة والمكلفة مع عراق صدام حسين (1980-1988) درسًا تاريخيًا قاسيًا لإيران وعرفتها جيدًا أنها وحيدة إستراتيجيًا وليس لديها حلفاء تقليديون أقوياء، يمكن الاعتماد عليهم في الحماية والدعم بأوقات الحاجة، لا سيما أنها تفتقر إلى أي دفاعات طبيعية موثوقة على حدودها مثل الجبال العالية أو الوديان العميقة، الأمر الذي يدفعها إلى عمل ترتيبات دفاعية بديلة خارج حدودها.
لعبت إيران على تسويق أيدلوجيتها لأول مرة بالاعتماد على الجماعات الكردية والشيعية المضطهدة في العراق لجمع المعلومات الاستخبارية وشن حرب العصابات ضد نظام صدام، ورغم انتهاء الحرب بينهما، فإن إيران لم تتوقف بل استثمرت بشكل منهجي في تطوير وتنمية علاقات قوية مع الجماعات المتوافقة أيديولوجيًا معها.
جعلت إيران من هذه العناصر مصادر رئيسية للردع والتأمين الأمني، فأردات بشكل واضح أن تصبح الأقلية الشيعية مقابل الأغلبية السنية، وغير العرب مقابل العرب والمتحدثين بالفارسية أمام الناطقين باللغة العربية، واستغلت القواسم الثقافية والعرقية والدينية والطائفية المشتركة والمصالح السياسية، ونجحت بالنهاية في إقامة شبكة سرطانية كبرى موالية لها بالمنطقة.
لعبة الانتخابات
يرصد تقرير ميونخ للأمن عام 2020 مناطق النفوذ الإيرانية على جميع المستويات سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، بداية من العراق مرورًا بسوريا ولبنان واليمن والأراضي الفلسطينية وأفغانستان وباكستان، ويوضح التقرير أن هناك أربع ميليشيات رئيسية على الأقل تدعمها إيران في العراق، تضم عصائب أهل الحق ومنظمة بدر وكتائب حزب الله وحركة النجباء، انتهاءً بالحشد الشعبي.
في سوريا تملك إيران ولاءً كاملًا لـ4 مليشيات رئيسية أيضًا هي: قوات 313 ولواء الباقر وقوات الرضا وجماعات سورية مسلحة أخرى، في الوقت الذي تقدم فيه الدعم الكامل ماليًا وعسكريًا لنظام بشار الأسد، وفي لبنان كما هو معروف ذراعها الرئيسية هي حزب الله الذي يهيمن على الساحة السياسية، كما تستخدمه في تنفيذ سياساتها وتدخلاتها العسكرية في الدول الأخرى.
على مستوى الصراع اليمني، تعتبر جماعة أنصار الله ـ الحوثيين ـ الممثل الأساسي لطهران في البلاد وأحد أبرز أطراف الصراع السياسي العسكري الذي راح ضحيته عشرات آلاف المدنيين منذ 2014، فقد تصاعدت الحرب بين الحوثيين والقوات الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي.
في أفغانستان تدعم طهران لواء الفاطميون وفي باكستان لواء زينبيون، ويقاتل العديد من عناصر اللوائين في سوريا، عبر الآلاف من الشباب الباكستانيين والأفغانيين الشيعة.
تزايد الرفض الشعبي
رغم هذه السيطرة الواضحة، هناك غضب تتسع رقعته تدريجيًا ضد إيران وسياستها التوسعية التي تمحي هوية هذه البلدان وتجعلها رهن المصالح الإيرانية، ويتضح ذلك من الغليان العراقي الذي زاد وخرج للعلن بصورة واضحة منذ 2018 ولم يقتصر الأمر على السنة، بل شمل المناطق الشيعية أيضًا.
انفجر المواطن العراقي الذي شاهد حكومته تنفق مليارات الدولارات على ميليشيا غير خاضعة للرقابة وشبكات المحسوبية لطبقة سياسية أصبحت جزءًا أصيلًا من شواهد فساد رسخها في البلاد نظام المحاصصة وترتيب تقاسم السلطة على أسس طائفية، ما ضمن لهم الإفلات من العقاب والتجاسر على دولة القانون.
رفض الشارع الوضع الذي فرضته الكتل التابعة لإيران، لترسيخ هذا النظام الذي جسم على صدور العراقيين منذ 2003، وتعمل فيه على جبهتين: الأولى تخوض فيه النزال السياسي وتفرض شروطها عليه، والثانية تتعامل عسكريًا مع أي احتجاج ضدها أو أي خروج على مصالحها، وتجسد ذلك في أسلوب تعاملها مع ظهور انفجارات جماهيرية غاضبة في المناطق الشيعية العراقية ضد الظلم الاجتماعي والنفوذ الإيراني غير المبرر في البلاد.
ظهرت هذه الفرق على حقيقتها بعد أن دبرت حملات قمع وحشية ضد مئات المواطنين وشنت عمليات إرهاب وخطف وتعذيب وقتل عشوائي في وضح النهار ضد النشطاء السياسين الشيعة لمجرد التجرؤ على معارضتها.
حركة تشرين.. تاريخ فاصل
يخوض العراق انتخاباته التشريعية في 10 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، ويبدو أن التحدي الرئيسي الذي تخوضه البلاد هو كيفية تعطيل تحالف طهران مع الكيانات السياسية الرئيسية في بغداد وفي مقدمتها الحشد الشعبي وقياداته الذين يملكون نفوذًا واسعًا في القرارين السياسي والأمني، وإن نجح في ذلك سيعتبر بدايةً لربيع عربي جديد للتخلص من الهيمنة والنفوذ الإيراني بالمنطقة.
كان الشارع العراقي قد عبر بطريقته عام 2018 عن مقاطعة الانتخابات التي أسفرت عن تشكيل حكومة عمقت أزمة الثقة في النظام السياسي بعد فشلها في معالجة شكاوى انعدام المصداقية في نظام الانتخابات، ونظمت إعادة فرز للأصوات بشكل انتقائي أفسد أكثر مما حاولت إصلاحه، كما فشلت في تبرير أسباب الحريق الغامض بأكبر مستودع لتخزين أوراق الاقتراع في العراق.
في أكتوبر/تشرين الأول 2019 تفاقم السخط على نطاق واسع من أداء حكومة عادل عبد المهدي السابقة، وتبلور في شكل احتجاجات حاشدة أفرزت ولادة حركة تشرين بجميع أنحاء بغداد والمحافظات الجنوبية ضد فساد نظام المحاصصة، وتوحدت المطالب تحت شعار “نريد وطنًا”.
نادت الاحتجاجات بإيقاف التبعية لإيران التي لا تجسدها السياسة فقط بل الاقتصاد أيضًا، حيث تملأ السيارات الإيرانية الصنع والزهيدة شوارع بغداد الآن وغالبية المدن العراقية، فيما تنتشر المنتجات الإيرانية في معظم المراكز التجارية
ظهرت جينات الحضارة العراقية في الشوارع باحتجاجات بدأت من عامة الناس، لكن دعمها مثقفو البلاد من كتاب ورسامين وفنانين وإعلاميين، وبأساليب احتجاجات غير عنيفة عبرت بالفن عن مطالب عادلة، تلخصت في المساواة وإعادة اختراع الهوية العراقية بوجه جديد مسالم يتحدى الصور النمطية التي تراكمت منذ عام 2003 وحتى الآن.
نادت الاحتجاجات بإيقاف التبعية لإيران التي لا تجسدها السياسة فقط بل الاقتصاد أيضًا، حيث تملأ السيارات الإيرانية الصنع والزهيدة شوارع بغداد الآن وغالبية المدن العراقية، فيما تنتشر المنتجات الإيرانية في معظم المراكز التجارية.
في مواجهة هذا التحدي غير المسبوق تحالفت حكومة عادل عبد المهدي مع مليشيا الكتل الموالية لإيران، واستفردت بالمواطنين واستخدمت معهم أساليب عنف مفرطة لحماية مصالحها، وأدى هذا الجنون إلى إزهاق حياة مئات المتظاهرين في الشوارع، وزيادة حالات الاختفاء القسري والاختطاف والتعذيب في صفوف الحركة المؤيدة للإصلاح والقضاء على بعض شخصياتها القيادية وإجبار آخرين على النزوح خارج البلاد.
بحسب بعض النشرات الحقوقية والصحافية، تكلفت الحركة العراقية ما يقرب من 700 متظاهر وناشط مدني منذ بدء الاحتجاجات، وإصابة أكثر من 20 ألف، لكن التظاهرات زادت ونجحت في إسقاط عادل عبد المهدي وإن كانت السلطة اللاحقة لم تحدد هوية الطرف الثالث الذي أطلق النار وقتل المحتجين بلا رحمة!
مثل أي حركة ثورية أو سياسية تفرقت السبل بالحركة بسبب تعدد الانتماءات داخلها وعدم وجود قيادة موحدة، لكن ربما أهم اختيار ممكن هو الالتحاق بالسياسة وخوض الانتخابات لا المقاطعة، وهو الدرس الذي لم تستوعبه الحركات الثورية في الربيع العربي، فمهما كانت الاخفاقات، فإن المسرح السياسي كفيل بتعليم الشباب أهمية اعتدال الخطاب السياسي وتوازن مفرداته كما سيضمن لهم مسارات آمنة من خلال منصات أقوى شرعيًا وأكثر فاعلية في تمرير مطالبهم ومطالب الشعب الذي يطمح للعدالة والمساواة والإنسانية والحرية.