شكَّلت السيادة الوطنية عقيدة راسخة في القانون الدولي، وهي منصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، وتشير إلى منح الشعب سيادة مطلقة، أي أن السلطة تكون بيد المواطنين، لكن هل هناك أوقات يكون فيها التدخل لمنع الأزمات الإنسانية ليس مبررًا فحسب، بل ضروريًا أيضًا؟ وإلى أي مدى يسمح ميثاق الأمم المتحدة بانتهاك “شرعي” لسيادة دولة أخرى؟ وهل يجب أن تطغي الضرورات الأخلاقية على السلطة القانونية؟
يعتبر منتقدو تغيير الأنظمة السياسية للدول الحجة القائلة بأن للدولة الحق في إدارة شؤونها الداخلية دون تدخل خارجي أساس نظام عالمي سلمي، في حين أن أي انتهاك لهذا المبدأ من خلال التدخل العسكري ينطوي على خطر تقويض السلام والأمن الدوليين، وسيؤدي إلى حرب طويلة الأمد، كما يتضح في أعقاب الإطاحة بصدام حسين خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، الذي تحول إلى احتلال لبلاد الرافدين بعد ادعاء تطويرها لأسلحة دمار شامل.
مسؤولية الحماية.. حماية النظام أم الشعب؟
يعبر الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة – الذي وُقِّع في 26 من يونيو/حزيران 1945 بسان فرانسيسكو في ختام مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بنظام الهيئة الدولية – بشكل لا لبس فيه عن مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها، مع التأكيد على مبدأ عدم التدخل في الشؤون التي تقع ضمن الاختصاص المحلي للدول.
تذرعت قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) بأن الوضع في ليبيا تهديد للأمن والسلم الدوليين لتبرير التدخل العسكري الذي أدى إلى الإطاحة بالرئيس الراحل معمر القذافي
وفي عام 1999، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي عنان أن المجتمع العالمي لا يمكنه الوقوف مكتوف الأيدي لمراقبة الانتهاكات الجسيمة والمنهجية لحقوق الإنسان، وأن “سيادة الدولة” أُعيد تعريفها لتشمل فكرة السيادة الفردية، وقال: “قراءتنا المعاصرة لميثاق الأمم المتحدة تعني أننا ندرك أكثر من أي وقت مضى أن هدفه هو حماية الأفراد، وليس حماية أولئك الذين يسيئون معاملتهم”.
ومع زيادة قلق الأمم المتحدة بشأن محنة الأشخاص المضطهدين، وضعت مفهوم “مسؤولية الحماية”، بناءً على تقرير اللجنة الدولية للتدخل وسيادة الدولة عام 2001 (لجنة إيفانز)، وتم توضيحه بشكل مخفف في القمة العالمية من الأمين العام في تقريره عن أولويات إصلاح الأمم المتحدة.
بعد سنوات قليلة، حلت “مسؤولية الحماية” بشكل رسمي محل التدخل الإنساني في ميثاق الأمم المتحدة، وأكدت القمة العالمية في سبتمبر/أيلول عام 2005 أن الدول الأعضاء تتحمل مسؤولية الحماية التي تتعلق بالمجازر والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية.
في حين يوجد اتفاق بين الدول بشأن هذا الالتزام السياسي العالمي الذي أقرته جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة من أجل معالجة مخاوفها الرئيسية، إلا أن ثمة خلاف مستمر بخصوص إمكانية تطبيق الركيزة الثالثة التي تستند إلى الاستجابة الجماعية والحاسمة في الوقت المناسب، أي التدخل كملاذ أخير إذا كانت أي دولة تفشل بشكل واضح في مسؤولياتها المتعلقة بحماية مواطنيها، فيجب على الدول اتخاذ إجراءات جماعية لحماية السكان من الجرائم الفظيعة الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان.
صورة توضح أثر القصف الجوي الذي قام به حلف الناتو في ليبياس
وفقًا للأمم المتحدة “ليس في هذا الميثاق ما يجيز للدول الأعضاء أن تتدخل في الشؤون التي تدخل أساسًا ضمن الاختصاص المحلي لأي دولة”، لذلك حتى عندما تحدث أزمات أو عندما تضطهد أجهزة الدولة شعبها – كما هو الحال في كمبوديا بين عامي 1975 و1979، عندما مات أكثر من 1.5 مليون شخص، لا يمكن للدول الأخرى أن تتدخل ببساطة من أجل المساعدة.
في عام 2011، طُبق مبدأ مسؤولية الحماية لأول مرة في ليبيا، فقد تذرعت قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) بأن الوضع في ليبيا تهديد للأمن والسلم الدوليين لتبرير التدخل العسكري الذي أدى إلى الإطاحة بالرئيس الراحل معمر القذافي، وهو الأمر الذى لا يستند إلى أي أعراف ومبادئ القانون الدولي.
ورغم أن قرار مجلس الأمن لم يكن متوافقًا عليه من كل الدول الأعضاء، فإن بعضها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، تخطى التفويض الممنوح لحماية المدنيين، واستخدم حلف الناتو لتحقيق أهدافهم المتمثلة في تغيير النظام الليبي عن طريق التدخل العسكري الخارجي، وهو ما فتح باب المجهول أمام ليبيا من الناحية الإنسانية والسياسية والأمنية والاجتماعية.
الحجة المضادة هي أن تغيير النظام يمكن أن يكون ضرورة إستراتيجية أو أخلاقية، كما كان الحال مع الحرب العالمية الثانية، وإصرار قوات الحلفاء على استسلام ألمانيا النازية الكامل وغير المشروط فيما عُرف بـ”صك الاستسلام الألماني”.
كان الاعتراض واسع النطاق ضد الجرائم التي ارتكبها الألمان – وأبرزها الهولوكوست – مصدر إلهام لاتفاقية عام 1948 بشأن منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، التي أرست واجبًا أخلاقيًا على المجتمع الدولي للتدخل لمنع الجرائم ضد الإنسانية في المستقبل.
يجادل قادة السياسة الخارجية الأمريكية أيضًا بأن للولايات المتحدة حقًا قانونيًا في التدخل ونشر ما أسمته بالحكومة الديمقراطية
في موقف آخر يعكس مدى تناقض العمل وفق مبدأ مسؤولية الحماية، وفيما يتعلق بالحرب الأهلية المستمرة في سوريا منذ أكثر من عشر سنوات، يجادل مؤيدو بشار الأسد – لا سيما روسيا وإيران – بأن أي تدخل خارجي ضد نظامه غير شرعي بطبيعته، وسيؤدي إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط، متناسين أنهم تورطوا مباشرةً في صراع ذي طبيعة خطرة وفي منطقة مشتعلة.
ومع ذلك، يمكن القول إن جرائم الأسد ضد الإنسانية – مثل استخدامه الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين – تهدد السلم والأمن الدوليين المنصوص عليهما في ميثاق الأمم المتحدة، بسبب الفوضى التي سببتها أزمة اللاجئين السوريين وظهور الجماعات المتطرفة التي كان رأسها تنظيم الدولة “داعش”، لكن رغم ذلك لم يحدث في بشار الأسد ما حدث مع القذافي.
في كلا الموقفين المتعارضين، يمكن للطرفين الإشارة إلى المبادئ المتفق عليها دوليًا، التي وافقت عليها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، التي تعكس بشكل واضح مفاهيم متعارضة لسيادة الدولة، الأمر الذي دعا المسؤولة الأممية براميلا باتن – بعد 15 عامًا على اعتماد مبدأ “مسؤولية الحماية” – إلى الاعتراف بوجود فجوة متزايدة بين الوعد والحماية الفعلية للسكان الضعفاء في جميع أنحاء العالم.
هنا يمكن القول إن المقاصد الحقيقية لمفهوم “مسؤولية الحماية” – الذي جرى تسويقه في الحالتين الليبية والسورية – تحددها مصالح الدول التى تدفع للتدخل العسكرى، وليس حقوق الإنسان للضحايا المدنيين المستهدفين بالتدخل.
إدمان التدخل العسكري.. أمريكا نموذجًا
بخلاف سوريا وليبيا، تمثل الحالة الأمريكية نموذجًا واضحًا للتلاعب بالقانون الدولي، فبالعودة إلى السنوات الأولى التي تلت إعلان الاستقلال الأمريكي عام 1776، نجد هناك تقليد سائد من عدم التدخل الأمريكي، فقبل مئتي عام، ألقى وزير الخارجية الأمريكي جون كوينسي آدامز خطابًا تاريخيًا في مبنى الكابيتول أمام مواطني واشنطن العاصمة بشأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، أعلن فيه أن أمريكا “لا تذهب للخارج بحثًا عن الوحوش لتدميرها”، ويجب أن ترفض أن تصبح “ديكتاتورية العالم”.
آدامز أشار إلى أنه “بينما كانت أمريكا تتمنى الحرية والاستقلال لجميع الدول، فإن قوة صوتها هي التي ساهمت في القضية وليس استخدام القوة العسكرية”، لكن مع توسع الولايات المتحدة، تدخلت بقوة في شؤون الأمريكيين الأصليين والمكسيك المجاورة، وكذلك القوى الإمبريالية الأوروبية التي لها مصالح في أمريكا الشمالية، مدفوعةً بواجب أخلاقي مُتصور تجاه سكان القارة.
في نهاية القرن التاسع عشر، بدأ رجال الدولة الأمريكيون بتجربة لهجة جديدة تحت غطاء التدخل الإنساني، فقد استشهد الرئيس الأمريكي الأسبق ويليام ماكينلي “بقضية الإنسانية” عندما قرر التدخل في كوبا عام 1898، من أجل الاستقلال عن إسبانيا، الأمر الذي تسبب في اندلاع الحرب الأمريكية الإسبانية، التي انتهت بسيطرة الولايات المتحدة على كوبا.
السفينة الحربية الأمريكية تبحر باتجاه ميناء هافانا خلال حرب كوبا
أدى الانتصار الأمريكي في الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة إلى جانب ثوار كوبا ضد إسبانيا عام 1898 إلى تحويل الولايات المتحدة إلى قوة عالمية، وتحولت كوبا إلى ما يشبه “المحمية الأمريكية”، وتحول خليج غوانتانامو إلى قاعدة بحرية باقية، ليصبح مجرد جزء من شبكة تضم أكثر من 600 قاعدة عسكرية أمريكية على أراضٍ أجنبية اليوم بحسب تقرير لمعهد بروكينغز.
كانت الحرب الإسبانية الأمريكية بمثابة بداية لسلسلة من التدخلات العسكرية الأمريكية، التي امتدت على مدار التاريخ الأمريكي، في دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، لدرجة أن تورط الجيش الأمريكي في مغامرات عسكرية بالخارج انقطع لمدة تقل 20 عامًا فقط منذ إعلان الولايات المتحدة استقلالها في يوليو/تموز عام 1776.
هذه التدخلات الأمريكية تبررها المصالح الاقتصادية والإستراتيجية للولايات المتحدة والرغبة في إبعاد القوى الأوروبية عن نصف الكرة الغربي، ويجادل قادة السياسة الخارجية الأمريكية أيضًا بأن للولايات المتحدة حقًا قانونيًا في التدخل ونشر ما أسمته بالحكومة الديمقراطية.
عندما طبَّق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مبدأ مسؤولية الحماية في ليبيا في مارس/آذار 2011، كانت النتيجة بالنسبة للشعب الليبي مأساوية على كل المستويات
وبعد التدخلات العديدة خلال مواجهة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، تصدر العمل الإنساني وتعزيز الديمقراطية مرتبة متقدمة كمبرريَن لانتهاك الولايات المتحدة للسيادة الوطنية لغيرها من الدول، وتعدت بشكل صارخ مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وأعراف القانون الدولي مرات عديدة للحفاظ على هيمنتها وحماية أمنها القومي.
اليوم، يتمتع مبدأ عدم التدخل وجون كوينسي آدامز بشعبية مغايرة في الولايات المتحدة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الحروب المكلفة والطويلة وغير الناجحة في أفغانستان بعد 11 من سبتمبر/أيلول، تحت غطاء مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى الدعم الأمريكي الأخير للحرب في اليمن، الذي خلَّف أكبر مأساة إنسانية في العالم بحسب توصيف الأمم المتحدة.
ومع مرور الوقت وصولًا إلى القرن الـ21، أصبحت فكرة أن الولايات المتحدة يجب أن تتدخل حتى عندما لا يكون الأمن الأمريكي مهددًا بشكل مباشر مشكوكًا فيها بشكل متزايد، وبحسب الباحث في مركز الدفاع الوطني التابع لمؤسسة التراث الأمريكية داكوتا وود، فإن الولايات المتحدة – التي لطالما كانت دولة محاربة – تدخل في صراع جديد كل 15 عامًا أو نحو ذلك.
التلاعب بالقانون
مما لا شك فيه أنه ثبت أن من الصعب تنفيذ مبدأ مسؤولية الحماية في الحالات التي تستوجب ذلك، وتظل بعض الدول حذرة من عواقب تطبيق هذا المبدأ على أراضيها، خاصة تلك الدول الضعيفة أو التي كانت مستعمرة سابقًا.
لقد رأينا كيف، في حالة كوسوفو، أن ادعاءات الإبادة الجماعية من القوات الصربية، التي أدَّت إلى زيادة الضغط المعنوي على الولايات المتحدة للتدخل العسكري، لم يتم إثبات حدوثها، وبالتالي فإن الواجب الأخلاقي يقتضي نقض الحقائق، فقد كان لدى لجنة غولدستون (بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق) مقاربة مثيرة للفضول تجاه الأمر، وقررت أن القصف كان “غير قانوني ولكنه مشروع”.
ويعتقد الكثيرون أن مبدأ مسؤولية الحماية يُطبق بشكل انتقائي فقط، وعندما يتم إشراك مصالح الأقوياء في السياسة العالمية، وأنه إذا اُستخدمت القوة العسكرية لأغراض إنسانية، فقد يؤدي ذلك في الواقع إلى جعل الأمور أسوأ بالنسبة للسكان المعرضين للخطر.
وثبت أن نتائج ما يسمى بالتدخلات الإنسانية كارثية على الدوام، على سبيل المثال، عندما طبَّق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مبدأ مسؤولية الحماية في ليبيا في مارس/آذار 2011، كانت النتيجة بالنسبة للشعب الليبي مأساوية على كل المستويات، فقد أثار هذا المبدأ معضلات أخلاقية لا تزال دون حل.
يجادل البعض بأن الدول التي تنتهك حقوق الإنسان تتنازل عن الحق في عدم التدخل في شؤونها الداخلية، والأكثر غرابةً هو الرأي القائل بأن الدول التي تُصنَّف على أنها “جيدة” فقط، وفقًا لمعايير الديمقراطية الليبرالية الغربية، هي التي تستحق أن تتمتع بالسيادة الوطنية على أراضيها.
كان التدخل العسكري لحلف الناتو في ليبيا كارثيًا على كل المستويات
مثل هذا الموقف لا يمنع الدول أو المجتمع الدولي من الاحتجاج على انتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأخرى، كما أنه لا يمنع تحرك القوات العسكرية عبر الحدود الوطنية لدعم الأفراد والجماعات المضطهدة.
حتى التدخل الإنساني الذي يُفترض أنه ناجح، من الناتو في يوغوسلافيا عام 1999، كان له جانبه المظلم، على الرغم من أن التدخل كان بدافع الهجمات على السكان الألبان في مقاطعة كوسوفو الصربية، فقد ارتكب كل من الصرب والألبان فظائع، أجبرت حملة قصف الناتو صربيا على الخروج من كوسوفو، مخلفة وراءها 200 ألف لاجئ صربي.
لم يكن إجراء الناتو مصرحًا به من الأمم المتحدة، وأدى إلى توتر العلاقات الغربية مع حليف صربيا، روسيا، ولا تزال كوسوفو معزولة إلى حد ما دوليًا، وقد شكَّل انفصالها سابقة جادلت بها روسيا عندما تدخلت في أزمة أوكرانيا عام 2014، وضمت شبه جزيرة القرم، ولم يفعل الغرب ما فعله في حالات أخف وطأة من الحالة الروسية.