أنهى صندوق الاستثمارات العامة السعودي (الصندوق السيادي) صفقة الاستحواذ على نادي نيوكاسل يونايتد الإنجليزي لكرة القدم بعد أكثر من عامين من المفاوضات التي شهدت تعثرات عدة جراء الاعتراض على السجل الحقوقي المشين للمملكة الذي ظل عقبة أمام إتمام هذه العملية التي هُزمت في نهاية الأمر بسلطة المال.
الصندوق الذي تبلغ استثماراته 430 مليار دولار، ويرأسه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أعلن في تغريدة له على تويتر في الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2021، أن الصندوق ممثلًا في شركتي “بي.سي.بي كابيتال بارتنرز” و”آر.بي سبورتس آند ميديا” أنهى الصفقة بصورة رسمية، فيما قال محافظ الصندوق ياسر الرميان: “نسعد بالإعلان عن تملك نادي نيوكاسل ونشكر الجماهير على إخلاصهم لهذا الكيان العريق على مر السنين ونتطلع للعمل معهم لما فيه مصلحة النادي”.
ورغم عدم الإعلان رسميًا عن قيمة الصفقة، فإن تقارير إعلامية تحدثت عن بلوغها 305 ملايين جنيه إسترليني (415 مليون دولار)، الأمر الذي أحدث جدلًا كبيرًا لدى الشارع الرياضي البريطاني، فضلًا عن تصاعد وتيرة الانتقادات الموجهة لتلك الخطوة التي يعتبرها البعض محاولة لتبييض وجه المملكة دوليًا على المستوى الحقوقي في ظل تصاعد الانتقادات الموجهة للانتهاكات التي مارستها – ولا تزال – السلطات السعودية بحق النشطاء والمعارضين، ولعل أكثرها فجاجة مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الثاني 2018، وهي الجريمة التي هزت الضمير الإنساني عالميًا جراء ما تضمنته من تفاصيل وحشية.
? An investment group led by the Public Investment Fund, and also comprising PCP Capital Partners and RB Sports & Media, has completed the acquisition of 100% of Newcastle United Limited and Newcastle United Football Club Limited from St. James Holdings Limited.
⚫️⚪️
— Newcastle United FC (@NUFC) October 7, 2021
قصة الاستحواذ
تبدأ قصة الاستحواذ على النادي الإنجليزي بحسب الكاتبين مراد أحمد وأندرو إنغلند في تقريرهما المنشور في صحيفة “فايننشال تايمز“، بعنوان “كيف تمكن كونسورتيوم بقيادة السعودية من الاستحواذ على نيوكاسل يونايتد” في أكتوبر/تشرين الأول 2019 حين دُعيت أماندا ستافيلي (مهندسة الصفقة وسمسارها الأول) وزوجها على متن يخت سيرين العملاق المملوك لولي العهد السعودي محمد بن سلمان.. على ضفاف البحر الأحمر.
خلال تلك الدعوة قدّمت ستافيلي صفقة إلى ياسر الرميان، محافظ صندوق الثروة السيادي السعودي، عرضًا لشراء نادي نيوكاسل يونايتد، وهو العرض الذي قوبل بترحاب كبير لا سيما بعدما باءت محاولات شراء نادي مانشستر يونايتد بالفشل، غير أن الأمور لم تكن بالسهلة في ظل علامات الاستفهام الكبيرة أمام الوضعية الحقوقية للمملكة، وسياستها الخارجية إزاء بعض الملفات، فضلًا عن الرفض الجماهيري لبيع النادي.
خلال حضور ستافيلي مبارة لنيوكاسل أمام ليفربول في 2017، وقعت في حب النادي، لذا حاولت التفاوض من أجل الاستحواذ عليه من خلال شركتها الاستثمارية “بي سي بي بارتنرز” بحسب الكاتبين، اللذين لفتا إلى أن “المحادثات التي استمرت لفترة طويلة في عام 2018 انهارت بعد أن أعلن آشلي (مالك النادي السابق) أن المفاوضات مع ستافيلي كانت مضيعة للوقت”.
لكن سرعان ما أعادت المستثمرة البريطانية أملها مرة أخرى عبر بوابة الخليج، مستغلة علاقتها القوية ببعض الشخصيات الخليجية لتحقيق حلمها في الحصول على حصة في النادي المحبب لديها بحسب الصحيفة، التي أوضحت أن ستافيلي استغلت التوجه العام للصندوق السعودي في ذلك الوقت الذي كان “يشرع في فورة إنفاق بمليارات الدولارات لتطوير قطاع الرياضة والترفيه في البلاد والترويج لصورة جديدة للأمة المحافظة”.
وفي أبريل/نيسان 2020، كانت أول خطوة نحو إتمام الصفقة، حيث تم الاتفاق مبدأيًا على 300 مليون جنيه إسترليني، قيمة عملية الشراء بصورة كاملة، لكنها تعثرت فيما بعد بسبب صعوبة الحصول على موافقات الدوري الإنجليزي ورابطة البطولة بشكل رسمي.
وكانت السعودية بحاجة إلى “تلبية اختبار مالكي ومديري الدوري، الذي يمكن أن يمنع المشترين المحتملين إذا ارتكبوا فعلًا في أرض أجنبية يمكن اعتباره جريمة جنائية في بريطانيا، حتى لو لم يكن غير قانوني في أراضيهم الأصلية”، يلفت الكاتبان، وتابعا “كان ذلك مشكلة نظرًا لتورط السعودية المزعوم في بي آوت كيو، وهي شبكة تليفزيونية مقرصنة تبث الأحداث التي أنفقت قناة بي إن سبورتس ومقرها قطر المليارات من أجل الحصول عليها، بما في ذلك مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز. قامت بي إن بممارسة ضغوط مكثفة ضد الصفقة، كما فعل نشطاء حقوق الإنسان”.
“فايننشيال تايمز” نقلت عن صحيفة “ديلي ميل” أن ولي العهد السعودي أرسل رسالة نصية إلى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في يونيو/حزيران 2020، يشير فيها إلى أن عدم إتمام الصفقة سيؤثر على العلاقات السعودية البريطانية و”أننا نتوقع من إدارة الدوري الإنجليزي الممتاز إعادة النظر وتصحيح استنتاجها الخاطئ”، تذكر الصحيفة.
ثم جاءت المصالحة الخليجية، وتخلي الرياض عن موقفها إزاء الدوحة، وفتح صفحة جديدة في العلاقات، تلاها بعض القرارت والإجراءات التي دفعت رابطة الدوري الإنجليزي إلى إعادة النظر في موقفها، كرفع الحظر عن مجموعة قنوات “بي إن سبورت” القطرية بجانب التسوية بشأن القرصنة عليها من خلال إحدى الشركات السعودية.
ونقلًا عن أحد المطلعين على مفاوضات الصفقة فإن الإنجليز يتعاملون اليوم مع صندوق الاستثمارات العامة وليس مع الدولة السعودية، وهنا يختتم الكاتبان تقريرهما متسائلين: لكن كيف يفسر إرسال محمد بن سلمان رسالة نصية إلى بوريس جونسون بشأن الصفقة؟
السعودية تحقق حلم عارضة الأزياء
في تقرير لصحيفة “ذا صن” الإنجليزية، تطرق إلى أن إتمام السعودية لصفقة نيوكاسل – الذي بات أحد أغنى أندية العالم بعد عملية الاستحواذ الرسمي -، في حد ذاته تحقيق لحلم عارضة الأزياء السابقة، في إشارة إلى ستافيلي، في أن تضع أقدامها داخل جدران هذا الكيان الذي تعشقه منذ الصغر.
الصحيفة أشارت إلى أن أماندا التي قادت المفاوضات منذ 2017 لتتوج مجهودها أخيرًا بإتمام إحدى أكبر الصفقات في الدوري الإنجليزي، من المقرر أن تحصل على حصة 10% في النادي كجزء من الصفقة، وذلك عبر شركتها “بي سي بي بارتنرز” كما ستكون ضمن مجلس إدارة النادي.
وتعاني ستافيلي (48 عامًا) من مرض دماغي نادر، يؤدي بها أحيانًا إلى الخرف، ففي عام 2013 تم تشخيصها بمرض هنتنغتون – وهو اضطراب تنكسي يؤثر على الناس في وقت لاحق من الحياة -، وبحسب الصحيفة فإن هذا المرض يؤثر على وظائف الدماغ وتقلب المزاج وفقدان الذاكرة ويسبب حركات جسم غير طوعية.
لكن رغم هذا المرض وأعراضه التي ربما تقود في النهاية بصاحبها إما إلى الموت وإما لزوم الفراش والمصحات النفسية والعصبية، فإن المستثمرة البريطانية استطاعت أن تحقق نجاحات عدة، وهو ما تترجمه لغة الأرقام، إذ تم قبولها في جامعة كامبريدج بعمر 16 عامًا فقط، فيما جمعت ثروة شخصية تبلغ قيمتها نحو 120 مليون جنيه إسترليني، ولديها منزل في دبي وشقة فاخرة في بارك لين.
أماندا ستافيلي تتحدث لبعض مشجعي نيوكاسل بعد نجاح صفقة الاستحواذ pic.twitter.com/grSra4gcqH
— E P L W O R L D (@EPLworld) October 7, 2021
أمر مفجع
إنهاء الصفقة بشكل رسمي أثار انتقادات عدة من نشطاء حقوقيين وبعض المنظمات المعنية بالملف الحقوقي في العالم، إذ قالت خديجة جنكير، خطيبة الصحفي المغدور به جمال خاشقجي، إن شراء السعودية لنادي نيوكاسل يونايتد الإنجليزي أمر “مفجع” بالنسبة لها.
وأضافت خلال مقابلة لها مع راديو “بي بي سي” أنها تشعر بخيبة أمل كبيرة، وأشارت “ما كنت أفعله منذ مقتله هو السعي لتحقيق العدالة لجمال كل يوم، واستغل كل فرصة أجدها أو كل مكان يمكنني الذهاب إليه”، وأردفت “وفجأة، وأنا أشاهد الأخبار، رأيت الناس يتحدثون عن صفقة الاستحواذ، وقلت: من فضلكم، لا تفعلوا ذلك، من فضلكم احترموا أنفسكم”.
حاولت خديجة تذكير المشجعين بأن هناك أشياء أكثر أهمية وقيمة من الوضع المالي للنادي، الذي كان السبب الأبرز وراء بيعه للمملكة، لافتة “يبدو أنهم (مشجعي نيوكاسل) لا يهتمون بما حدث لجمال، إنهم يهتمون فقط بالمستقبل المالي”، مؤكدة ضرورة أن يرسل الشعب البريطاني رسالة صريحة مفادها أن المجرمين لا يستطيعون شراء أي فريق إنجليزي مهما كانت الإغراءات المالية المقدمة، مختتمة بقولها “على الأقل احترموا روح جمال، لأنه دفع ثمنًا باهظًا حقًا لحرية التعبير”.
غسل العار بالرياضة
في أول رد فعل رسمي لها على الإعلان عن إنهاء الصفقة دعت منظمة العفو الدولية رابطة الدوري الإنجليزي للتركيز على قضايا حقوق الإنسان والتحذير من استغلال الاستثمارات الرياضية في تجميل صورة المملكة دوليًا بعد الانتقادات التي تعرضت لها طيلة السنوات الماضية.
الرئيسة التنفيذية للمنظمة ببريطانيا ساشا ديشموخ، قالت: “منذ بداية الحديث عن هذه الصفقة قلنا إنها تمثل محاولة واضحة من جانب السلطات السعودية لاستغلال الرياضة في تجميل سجلها المروع في حقوق الإنسان بسحر كرة القدم من الدرجة الأولى”.
وكانت المنظمة قد حذرت في يناير/كانون الثاني 2020 من شراء ابن سلمان للنادي الإنجليزي، واصفة هذا التحرك بأنه “محاولة لغسل العار عبر الرياضة”، ففي تصريحات لها لصحيفة “ذا صن” أشارت العفو الدولية إلى أن سيدة الأعمال البريطانية، ستافيلي، تبذل قصارى جهدها لإنهاء عملية البيع وأن الصفقة باتت مسألة وقت.
رئيس حملات المملكة المتحدة في المنظمة الدولية، فيليكس جاكنز، يرى أن السعودية معروفة منذ سنوات بمحاولاتها لـ”غسل العار عن طريق الرياضة” مستخدمة في ذلك بريق الرياضة وجماهيرتها العالمية كأحد أدوات العلاقات العامة والقوى الناعمة للفت الأنظار عن سجلها الحقوقي السيئ.
جاكنز أوضح أنه في عهد ولي العهد مارست الرياض كل أنواع البطش والتنكيل بالنشطاء، اعتقلت بعضهم ودفعت الآخرين إما إلى الصمت وإما إلى مغادرة البلاد، لافتًا إلى أن الاستثمار السعودي في مجال الرياضة خلال السنوات الأخيرة، محاولة لما أسماه “تبييض صارخ لجريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي المروعة”، فضلًا عن مساعي تخفيف حدة الانتقادات عما تتعرض له المملكة بشأن انتهاكاتها في اليمن.
في الموافقة على صفقة الاستحواذ على #نيوكاسل من قِبل صندوق الثروة السيادية السعودي، صندوق الاستثمارات العامة، يقبل الدوري الإنجليزي الممتاز الحجةَ القائلةَ بأن صندوق الاستثمارات العامة كيانٌ منفصلٌ عن الدولة #السعودية.
في الواقع لا ينفصل، وبالتالي فهو متواطئ في قمع السلطات. pic.twitter.com/PDnqrUSFpK
— القسط لحقوق الإنسان (@ALQST_ORG) October 7, 2021
هل تنجح مساحيق التجميل السليمانية؟
منذ صعود محمد بن سلمان وليًا للعهد، حرصت المملكة على تعزيز نفوذها لدى العديد من الدول العربية تحديدًا، عبر قواها الناعمة على رأسها الترفيه والرياضة، وكان تركي آل الشيخ (رئيس هيئة الترفيه حاليًّا ورئيس الاتحاد السعودي لكرة القدم سابقًا) هو أداة الأمير الشاب لتحقيق هذا الهدف.
البداية كانت مع القاهرة، حيث حاول “الكفيل” كما يلقبه المصريون، فرض معادلة جديدة من خلال عبثه بمنظومة الرياضة المصرية، لكنها التجربة التي فشلت بعد قرابة عامين من انطلاقها، ليغادرها الرجل غير مأسوف عليه من الشارع الرياضي المصري الذي كال له السباب والانتقادات الحادة، متهمًا إياه بتخريب الكرة المصرية.
وخرج ولي العهد، ممثلًا في شخص ذراعه الأيمن، آل الشيخ، بذيول الخيبة من القاهرة متوجهًا إلى مدينة المرية في منطقة أندلوسيا الإسبانية، باحثًا عن فرصة جديدة لتعزيز النفوذ السعودي كرويًا، فكان شراء نادي “ألميريا” أحد أندية دوري الدرجة الثانية في إسبانيا، في الـ2 من أغسطس/آب 2019، لكن فقدان شعبية هذا النادي لم تحقق الهدف المنشود من شرائه، رغم الملايين التي أُنفقت على تطويره.
ومع الحضور الإماراتي والقطري في الكرة الأوروبية، ممثلًا في ناديي مانشستر سيتي الإنجليزي الذي اشترته الإمارات عام 2008 وباريس سان جيرمان الفرنسي الذي اشترته قطر عام 2011، حاول ابن سلمان أن يضع قدمًا له ضمن البطولات الأوروبية ذات الشعبية الجارفة.
بذل ابن سلمان جهودًا مضنية للحصول على نادي مانشستر يونايتد الإنجليزي، فاتحًا خزانة بلاده وصندوقها السيادي الذي يرأسه لتمويل تلك الصفقة، لكنها باءت بالفشل لأسباب جماهيرية وسياسية وحقوقية في المقام الأول، فكان البحث عن ناد آخر، وإن كان أقل شعبية ومكانة، وهو ما وجدت فيه عارضة الأزياء البريطانية السابقة، فرصتها التاريخية، لتحقيق أمنيتها السابقة في شراء نيوكاسل أو على الأقل الحصول على أسهم بداخله، وهو الحلم الذي حققه ولي العهد لسيدة الأعمال البريطانية.
وهكذا لا تجد المملكة غضاضة في تعرية غطائها المالي من أجل تجميل صورتها المشوهة حقوقيًا، متخذة من الرياضة وشعبيتها الجارفة، وتداخل السياسة بالمال فيها، أداة لغسل تلك السمعة الملطخة بدماء المعارضين والنشطاء وأصحاب الفكر والرأي في الداخل والخارج.. لكن يبقى السؤال: هل تنجح الكرة في علاج الشروخ الغائرة في جدار السعودية الحقوقي؟