يمكن للمرء أن يوغل في خطيئته حتى يتناسى كونها خطيئةً في الأساس، بيد أنه عندما يتيقظ لذنبه لا يستطيع محو ما تخلفه تلك الخطيئة من ذكريات، فينغمس في هوة بلا قرار، مع بقايا صور وكوابيس وعادات لا يمكن فصلها عن شخصيته، ينتج عن ذلك ردة فعل ميكانيكية تنطوي على محاولة أخيرة للمحو، وهذا لا يعني محو الذات بشكل نهائي، فهذا غير ممكن، إنما الانخراط الكلي في فعلٍ يستطيع اشتمال المرء بشكل أكثر عمومية، ويوفر للذات فرصة لإمضاء الوقت من دون اللجوء إلى استحضار أكبر عدد من الذكريات وإفشائها أمام العامة.
بمعنى أن ذلك الفعل يوفر لبطلنا نوعًا من الحياة الموازية، التي تسير بمحاذاة الماضي، لكن لا تمسه في مواضع كثيرة، ولا تحتاج إلا للمهارة المطلوبة والبقاء بعيدًا عن المخاطرة، وهذا يضمن الاستمرار.
ينغمس ويليام تيل بطل فيلم “عداد الورق” في ممارسة القمار وألعاب الورق، ليظهر الفيلم في البداية كأنه يدور بشكل كلي حول طاولات القمار وعالم الكازينوهات، لكن بمرور الوقت، يظهر القمار كمنفَذ للهروب، أشبه بمحاولة إزاحة للماضي، وتفريغ للدماغ والذات من المشاعر.
فلاعب الورق لا يحتاج إلى الذكريات، لا يتطلب المشاعر بل قلتها منفعة، كل ما يحتاجه هو عين ثاقبة ترى دواخل الناس، ونزعة أقل للمخاطرة على مبالغ ضخمة حتى لا يقع في مشاكل ستثير جروحه القديمة، أو كما يقولها في الفيلم بصوته الهادئ “إذا ربحت تغادر المكان، وإذا خسرت تغادر المكان”، لذا فألعاب الورق بالنسبة لوليام تيل هي مساحة آمنة، يستطيع أن يديرها على راحته، وأن يستغرق فيها بكل ما أوتي من ساعات.
منذ بداية ظهور المخرج وكاتب السيناريو بول شريدر، والثنائية التي كونها مع المخرج العبقري مارتن سكورسيزي في ثلاثة أفلام صنعوا تاريخ كل منهما، وهو يتخذ منهجية معينة في الكتابة، فشخصياته شديدة الاضطراب، ذات عمق نفسي غائر، تستلهم قوتها من إيمانها بقدرتها الهائلة على تصحيح الأخطاء القديمة وتغيير الأشخاص للأفضل، ليس ذلك فقط، بل مصدر اندفاعها الأساسي يأتي من يقينها في قدرتها على التطهير، سواء تطهير النفس أم تصفية العالم من الأوغاد.
أي أن شخصياته تبدو في بعض الأحيان كأشياء مهمشة ومشوشة وأحيانًا أخرى كمخلوقات نصف إلهية، يقتضي دورها باجتراح أفعال معينة لتقويم المجتمع، لذلك تظهر ثنائية الفرد والمجتمع كثنائية منهارة داخليًا، لا تحتكم لمنظومة أخلاقية، بل تبدو كمجتمعات سائلة ما بعد حداثية.
ينتقل شريدر بنا من العمومي إلى الخصوصي، منذ شخصيته الأيقونية الأولى والخالدة تارفيس بيكل سائق التاكسي الذي يبحث عن مصرفِ لكآبته ووحدته، ويهتدي لشخصٍ يتراءى له كفرد في حاجة للمساعدة، فيكرس حياته لغرض معين ويهيئ نفسه لهذا الغرض، وينصب نفسه كمسيح ومخلص لذلك الفرد، الأمر أشبه بدون كيخوتى ما بعد حداثي، دون كيخوتي الذي كان يحارب طواحين الهواء ويستدعي بطولات متخيلة، وترافيس بيكل وجه موازٍ لكيخوتي، كإنسان مهمش يبحث عن معنى لنفسه داخل حياة جوفاء.
مرورًا بشخصية الكاهن تولر في فيلمه “أول إصلاح”، التي تحكي عن كاهن كنيسة بروتستانتية، يقع في مواقف صدامية تجبره على إعادة التفكير في أسئلة ومواقف تثير إشكالية أخلاقية تنافي طبيعة عمله ذات المبادئ والقيم القطعية، التي تنتهي قصته بفعلٍ ثوري، يشوبه عنف ضد الجسدي وضد المقدس، يقصي من خلاله حياة الورع التي عاشها، كما انتهت حكاية ترافيس بيكل تقريبًا بممارسات عنيفة في محاولة للتطهير، وهنا أيضًا تعتبر شخصية ويليام تل امتدادًا لشخصيات شريدر الناقمة والنادمة والمخلصة في الوقت ذاته.
منذ بدايته يذكر شريدر مدى حبه وتأثره بالمخرج الفرنسي الرائع روبرت بريسون، يتبدى ذلك التأثر من خلال موتيفات حكي معينة يستخدمها شريدر بشكل دوري في أفلامه، مثل ثيمة كتابة المذكرات المعروفة، التي استخدمها بريسون في فيلمه Diary of a Country Priest عام 1951، ووظفها شريدر في أكثر من عمل سينمائي كان آخرها “عداد الورق” التي كانت منفذًا حيويًا له شاعرية خاصة يستطيع البطل تيل من خلاله التفريج عن الكبت الشعوري الذي يعانيه في حياة ألعاب الورق المزيفة.
وتنعكس تلك العادة على الحكي بشكل إيجابي، وتعطي الشخصية بعدًا يثبت أنه يتأثر بالحياة ويعطيه نوعًا من المرونة ويمد أطراف مشاعر قد يكونها المتلقي ليعرف الشخصية بشكل أفضل.
لم تكن المذكرات شيئًا ذا أهمية بالنسبة للقصة إذا حسبنها بشكل أدبي، لأنه لم يدفع القصة للأمام، ويمكن أن يحذف من الفيلم بشكل شبه كامل، بيد أن قيمته كانت في الناحية البصرية والذاتية، أي أنها صفة مكملة للشخصية، ومساحة من الانفراج الشعوري، تنطوي على ماضٍ معين، بجانب أنها تذكير وتأريخ لمواقف معينة هي مفاتيح الفيلم بشكل عام، مثل نصوص مقدسة يقدمها البطل بمحاذاة حياته، لكن بشكل أكثر عمقًا وأشد قربًا لنفسه.
تبدأ الأمور بالتعقيد عندما يقابل ويليام تيل (الممثل أوسكار آيزك) شابًا يدعى كيرك (الممثل تاي شريدان) يتعرف عليه صدفة في إحدى المحاضرات، ويتبعه سرًا، ليعترف له كيرك أنه يفكر في اغتيال الرائد العسكري جوردو (الممثل ويليام دافو) الذي كان يخدم في سجن أبو غريب، مع ويليام تيل الذي يتضح أنه كان ضابطًا في الجيش ومتورطًا في مشروع قائم على تعذيب المعتقلين والتنكيل بهم جسديًا ومعنويًا.
وبعد أن انكشف المشروع للرأي العام، تمت مقاضاة ويليام وبعض الضباط الآخرين، وقضوا إثر ذلك مدة عقوبة داخل السجن، لكن الرائد والمسؤول عن المشروع في سجن أبو غريب جوردو، فر من العقاب، لأن لم يكن ثمة ما يثبت إدانته، وفتح شركة خدمات أمنية، وأصبح رائدًا في المجال.
من هنا تبدأ متلازمة المسيح بالظهور، يحاول ويليام إثناء الفتى اليافع عن حركته، فيأخذه في كنفه ويصحبه معه للكازينوهات، ويوافق على أحد العروض التي تنطوي على اللعب باسم إحدى المؤسسات على مبالغ كبيرة لكي يسد ديون الفتى التي اضطرته لترك الجامعة، كل تلك الظروف تأتي مثل كومة من اللطمات السريعة والخاطفة، وينكشف للمشاهد بعض أشباح الماضي التي يحاول ويليام أن يزيحها ويدفنها في رأسه.
يحاول أن يقوي أواصر العلاقة مع الفتى، وينصحه بالتواصل مع أمه، لكنه لا يفلح في ذلك شفهيًا، فيلجأ مثل ترافيس بيكل إلى العنف، ليس كليًا، كل ما احتاجه هو انعاش ذاكرته واستحضار شخصيته التي مارسها في سجن أبو غريب.
العنف هنا يتبدى كأطروحة مقدسة، ذراع سماوية للخلاص، أو هكذا يراه أبطال شريدر، وهذا يتضح في مشهد النهاية الدموي، والوصول للذروة التي تستوجب على البطل استخدام كل قوته لتصحيح الخطأ وتخليص العالم من الشرور حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بنفسه في المقام الأول، كعدالة دنيوية وتصويب للماضي.
يبحث فيلم عداد الورق في ظاهرة ذات فردانية، تظهر ملامح تلك الظاهرة من خلال التركيز الجيد على الأدوات واللزمات البصرية، فشخصية ويليام تل هي شخصية لا مركزية، لا تتقيد بمكان معين، بل تنتقل من موتيل إلى آخر، تبعًا لمنافسات البوكر وألعاب الورق، لكن رغم ذلك، تحتفظ شخصية ويليام بعادات معينة تساهم في رسم دخيلة الشخصية، بشكل يسمو فوق الجسدي بشكل عام.
فوليام لا يمتلك لزمات جسدية أو حركات معينة تفيد في التعرف على الشخصية، بيد أن شريدر يقدم شخصيته من خلال أفعال شبه غرائبية، عادات يمكن أن يتخلى عنها لأنه ببساطة داخل سياق زماني ومكاني مختلف عن الماضي، لكن يحتفظ بها كإسقاط على حياته السابقة، وتذكير لخطاياه، بالإضافة إلى أنه لم يستطع التخلي عن حياته السابقة كليًا، مهما انغمر في ألعاب الورق، وبقيت تلك اللزمات لتبقيه في المنطقة الرمادية بين عالمين، لا يستطيع الولوج في أي منهما.
فويليام يصطحب حقيبتين يلازمانه في كل موتيل يذهب إليه، حقيبة يضع فيها أغراضه الشخصية وبعض الملاءات البيضاء النظيفة التي يستخدمها في تغليف كل جزء من أثاث الغرفة، حتى المصابيح، يحيلنا هذا الفِعل إلى حذرٍ ضروري واحتياط ناجم عن خشية ووعي أخذهما من وظيفته السابقة ومدة عقوبته في السجن.
والحقيبة الثانية لم يفتحها طوال الفيلم إلا مرة واحدة، عندما أراد أن يهدد الفتى، لنعرف أنه يحتفظ فيها بمقتنيات التعذيب والاستجواب في حال إذا اضطر أن يستعملها في يومًا ما، كجزء من شخصيته، يخفيه دائمًا عن الناس في حقيبة مغلقة، لا يود أن يفتحها أبدًا، لأنه يخاف من العنف بما خلفه من ذكريات سيئة، متروع من قدرته على ممارسة العنف، فامتلاكك لشيء خطير وقدرتك على ممارسته لا ينفي كونه خطيرًا في الأساس.
ينتهي الفيلم بالخضوع الكامل للعنف، كشيء مقدس، كقانون يحتكم له العالم، لكن ممارسة العنف نبعت من قرارة نفسٍ هادئة، تنتمي إلى تضمين العنف تحت مسمى تصويب الخطأ، لم يعرف أي من الشخصيات أين هو الصواب أو الخطأ، لكن الاندفاع النابع من ذكريات الماضي هو من يقذف بالإنسان في دائرة العنف، كلغة لا يفهمها إلا من تلقنها ومارسها سنوات، يتفاهم بها أصحاب مقامات سامقة في الإيذاء، حتى إن المشاهد لا يمكن له الاطلاع عليها، لأنها دارت داخل غرفة مغلقة، لا يمكن رؤية ما يحدث بداخلها، لا يمكن إلا سماع أصوات الصراخ وتخيل الموقف.
وهذا يثبت كالعادة، أن شريدر لا يستثمر قصصه في أفلام الحركة والأكشن، ولا يود أن يصنع فيلمًا مثيرًا، بل يميل للسينما الشاعرية وحركة الكاميرا البطيئة نوعًا ما، ويعمل على دراسة الشخصية وصنع دوافع لها، تسمح له فيما بعد بصنع ذروة تفتقد لعوامل الحركة، لكنها لا تفتقد للقيمة الفنية سواء بصريًا أم أدبيًا.