“ليس الطعام وحده دافعنا للقدوم إلى هنا، إنما الدافع الأكبر هو الشوق والحنين لمدينتنا التي هجرنا منها قسرًا”، هكذا يؤكد براء أن سبب زيارته للمحلات التي تقدم الأطعمة الشامية في إدلب أعمق من مجرد تناول الطعام، بل مزيج من الحب والشوق والحنين لمسقط رأسه في ريف دمشق الذي هجر منه قسرًا لإدلب قبل أربع سنوات، ويؤكد براء أنهم كمهجرين عليهم التمسك بالتفاصيل التي تذكرهم ببلادهم، فهي جزء من تراثهم الذي تحاول قوات النظام التي هجرتهم مسحه لإتمام عملية التغيير الديمغرافي، وبرأيه فقد نجح المهجرون بذلك.
فاليوم عندما تسير في أسواق مدينة إدلب وريفها أصبح رؤية محلات طعام تحمل أسماء دمشق والشام أمرًا مألوفًا، فقد حمل أهالي دمشق وريفها، الذين هجروا إلى إدلب، تراث مدينتهم وعاداتهم وحتى أذواقهم بالطعام.
بالقرب من ساعة مدينة إدلب يوجد محل بوظة بكداش وهو محل بوظة شبيه بالمحل الأصلي الموجود في سوق الحميدية بدمشق، وعند دخولك للمحل تسمع أصوات دق البوظة العربية في أثناء تجهيزها تملأ المكان، تلك الأصوات تذكر براء بزياراته لمطعم بكداش وسط العاصمة دمشق، لتلتهب نار الشوق في صدره لمدينته التي يحاول إطفاءها بتناول البوظة العربية التي تشتهر بها مدينته الأم.
وبحسب السيد أكرم جباس مؤسس بكداش إدلب فإنه نشأ في دمشق وعمل لعدة سنوات في محل بوظة بكداش الأساسي في دمشق قبل أن يعود لمسقط رأسه في إدلب، ومع توافد عدد كبير من أهالي دمشق وريفها لإدلب عاد أكرم لمهنته وافتتح محلًا لبوظة بكداش في إدلب.
يقول أكرم إن زيارة محله لم تقتصر على الدمشقيين في إدلب، بل شملت طيفًا واسعًا من المهجرين، إضافة إلى أهالي إدلب الذين أبدوا إعجابهم بالمذاق الجديد رغم اختلاف بعض أذواق الطعام بين المحافظات وخاصة في موضوع الحليب (الحليب الشايط).
مضيفًا “يقدم محل بكداش في إدلب بوظة الفواكه الطبيعية، لكن غالبية رواد المحل يرغبون بتناول البوظة العربية المدقوقة المعروفة باسم بوظة القشطة والفستق، وهي عبارة عن حليب بقر طازج نجلبه مباشرة من المزارع ثم نقوم بغليه، ثم نضيف له العديد من المنكهات كالسحلب البلدي والمستكة، ونحضره أمام الزبون عبر دقه ثم نقدمه إليه”.
النابلسية.. هجرة جديدة لإدلب
بالقرب من متجر بكداش تسمع جملة “قرب على الطيب يا طيب” بلكنة دمشقية واضحة، صاحب تلك العبارة هو أبو علي وهو مهجر من مدينة داريا بريف دمشق يملك محل نابلسية في مدينة إدلب، يقول لـ”نون بوست”: “هذه مهنتي قبل الثورة وقررت العودة إليها بعد أن طلب مني أصدقائي والناس الذين يعرفون أنني أجيدها بالعودة إليها، وبعد خروج أعداد كبيرة من أهالي دمشق وريفها وبحثهم عن الأكلات الدمشقية، قررت العودة لمهنتي”.
وبحسب أبو علي فإن الأكلة لم تكن سابقًا معروفة بإدلب بشكل واسع، لكن العديد من أهالي إدلب والمهجرين إليها من محافظات ثانية أحبوا النابلسية بعد تناولها.
يروي أبو علي وهو يسكب القطر على الكنافة ويرش الفستق الحلبي، حكاية النابلسية لرواد محله، وهي أن رجلًا دمشقيًا أنشأ محلًا للكنافة الدمشقية الشهيرة في نابلس بفلسطين، ولعدم توافر إمكانات مالية لديه لجأ إلى شخص من نابلس ليشاركه في المحل مقابل أن يدعمه ماديًا، وكانت الكنافة الدمشقية وقتها تحشى بالمكسرات واللوزيات، وبعدما ترك السوري المحل وعاد لبلده، عمد النابلسي إلى حشو الكنافة بالجبنة وكان طعمها شهيًا وأسماها “الكنافة النابلسية” ليزور بعدها الرجل الدمشقي صديقه في نابلس ويتذوق الكنافة ويجلبها معه إلى دمشق لتشتهر وقتها وتنتشر في مدينة دمشق، لينهي أبو علي قصته بأنه هو أيضًا نقل الكنافة النابلسية معه لإدلب، ويروي كيف منعه حصار قوات النظام لمدينته من صناعة الكنافة النابلسية.
ويؤكد أبو علي ازدياد شعبية الكنافة لدى سكان مدينة إدلب ومهجريها، فلم يعد تقديم الكنافة وبيعها لأشخاص فقط، بل تعداه للمناسبات الاجتماعية التي أصبحت فيها الكنافة طبق الضيافة المميز، الأمر الذي فتح أبوابًا جديدة لصناعة الكنافة النابلسية في إدلب.
قمر الدين بين الحصار والتهجير
مع قدوم حافلات تهجير الغوطة الشرقية لإدلب لم يحمل المهجرون مستلزماتهم الشخصية فقط، بل حملوا معهم أيضًا ذكريات سنوات من الحصار لجأوا فيها لإعادة تشكيل كل شيء بما يناسب الحصار، فالحاجة أم الاختراع ويتربع قمر الدين على قمة ذكريات الحصار، فقد كان الطعام الأساسي في فترة الحصار بعد أن تعدلت طريقة صناعته بما يلائم ظروف الحصار وتوافر المواد اللازمة، تلك الذكريات يرويها أبو محمود العربيني للعمال بمعمل تصنيع مادة قمر الدين الذي افتتح في إدلب، مستفيدًا من خبرته السابقة في هذه المهنة التي ورثها عن آبائه وأجداده.
روى أبو محمود طريقة صنع قمر الدين لـ”نون بوست” قائلًا: “يغسل المشمش في الماء، ثم يبخر عبر إشعال مادة زهر الكبريت، فعبر البخار الصادر عنها يتم تعقيم حبات المشمش وتنقيته من الشوائب، ثم يدخل إلى آلة تسمى القشارة للتخلص من القشور والبذور، ثم يضاف إليه السكر والقطر مع التحريك المستمر، ثم يصفى لأربع مرات متتالية”.
ليدخل بعدها مرحلة التجفيف عبر مده على “الدفوف الخشبية” في الهواء الطلق وتعريضه لأشعة الشمس، وعندما يجف يدهن بزيت الزيتون الصافي ليضيف نكهته إلى “قمر الدين” ويكون بمثابة مادة حافظة، ثم يترك بعدها تحت أشعة الشمس من أربعة إلى خمسة أيام، وتنقل الشرائح لمرحلة التنظيم والتقطيع والتغليف من ثم التخزين أو البيع، ليتم تصريف المنتج بالسوق المحلية وتصدير الفائض إلى دول الخليج العربي ومصر.
يؤكد العربيني أن قمر الدين له ارتباط عضوي بالمشمش، “فأينما وجد المشمش يوجد قمر الدين، وهذه إحدى المشاكل التي نواجهها بعملنا، وهي صعوبة الحصول على المادة الأولية (المشمش)، اللازمة لعملية الإنتاج، إذ تعد أشجار المشمش أقل بكثير من تلك التي كانت موجودة بالغوطة وتغيير المناخ بين الجنوب والشمال بالإضافة لصعوبة تصدير الفائض خاصة مع إغلاق الحدود المتكرر الناتج عن فيروس كورونا”.
بالنسبة للمهجرين فعملية نقل الطعام لإدلب جزء من عملية الحفاظ على التراث من الضياع والنسيان، بالإضافة إلى كونها مصدر رزق لهم ولأسرهم عوضًا عن اللجوء للمساعدات الإنسانية، والأمر لم يتوقف على الطعام، فقد نقل مهجرو دمشق وريفها عاداتهم معهم وخاصة الأعراس الشعبية، كما نقل المهجرون من باقي المحافظات كحمص وحلب وحماة عاداتهم وطعامهم معهم لإدلب.