شحنة الأسى في السؤال/ العنوان فرضت نفسها، وقد تكون مفرطة في التشاؤم ولكنها مفرطة في الألم على مصير بلد وددنا أن نربّي فيه أولادنا على الديمقراطية، فينعمون فيه بالحرية ويشمخون بين الأمم بأنهم مؤسِّسو الديمقراطية في الوطن العربي، وأنهم كسروا مقولات القهر الاحتلالي الغربي بأن العرب والديمقراطية عدوّان لدودان لا يجتمعان إلا في حرب إبادة.
لكن اللعينة تحلُّ في جملة مليئة بالأسى المرير، تونس الأنموذج تتهاوى تحت ضربات الشعبوية المقيتة، وتتجه إلى انهيار مفزع لن يكون الخروج منه حتى لأكثر المحلِّلين تفاؤلًا إلا بثمن ثقيل وكل الدعاء ألا يكون بعض الثمن دم. ماذا سيبقى من تونس بعد قيس سعيّد؟
الحشد للشارع ورقة أخيرة
حشدنا مع المؤمنين بالديمقراطية والغيورين على الحرية ليوم العاشر من الشهر العاشر لنقول للانقلاب وأنصاره إن الشعب انقسم صفَّين، وأن الصف المدافع عن حريته يستحق أن يُسمع وأن يُستجاب له لأن مقولة الشعب (كل الشعب) مع الانقلاب كذبة كبيرة لم تنطلِ، وأن العودة إلى السياق الديمقراطي حق وواجب.
لكننا نتابع أيضًا ماكينة الإعلام المنحاز للانقلاب وهي تمعن في التقسيم وصبّ الزيت على نار الفرقة، فتصوِّر الجمهور المعارض كجمهور خاص بحزب النهضة، ليسهل لها تصنيف المحتجّين سياسيًّا والتمهيد لحشرهم في زاوية ضيّقة والشروع في استئصالهم.
هذه اللعبة الاستئصالية الإجرامية بكل المقاييس، تصرُّ على التقسيم والاستئصال السياسي بوسائل الدولة، وهي عادتها التي أتقنتها منذ نصف قرن، تحرف الأنظار عامدةً ضمن أجندتها القديمة الأزلية عن الكارثة الاقتصادية التي تطلُّ برأسها وتثير رعبًا أسود في كل قطاع مهني، وخاصة في صفوف مليون موظف ليس لهم من مصدر رزق إلا الراتب العمومي.
هل يعدّل الشارع من غلواء الرئيس وحزامه ويحدث فجوة تسمح بالعودة إلى جادة الديمقراطية؟ هذا هو المؤمل منه في تحركات 26 سبتمبر/ أيلول و10 أكتوبر/ تشرين الأول، وما سيأتي بعدهما من تحركات تحمل في عمقها دعوة للحوار السياسي.
غير مهم في ما يبدو لدى ماكينة الاستئصال السياسي أن ينهار البلد على رؤوس من فيه، إذا تحققت لهم غايتهم في شنِّ حرب على الإسلاميين. لقد تجنّب الرئيس خوض هذه الحرب منذ إعلان انقلابه على الدستور ومؤسسات الدولة المنتخَبة، لكن كل مناورات ما بعد 25 يوليو/ تموز ظلت تدفعه إلى هذه النقطة الحرجة.
ولم يفد الإسلاميين في هذه المعركة ما أرسلوه من رسائل طمأنة، وما أعلنوه من استعداد للحوار والمشاركة في مقاومة الفساد الذي كان الشعار/ الغطاء للانقلاب، لقد انتهت رسائلهم إلى أذن صمّاء، ما سهّل العودة إلى الخطاب الاستئصالي والشروع فيه بدأ بقطع لسان الحزب: قناة الزيتونة.
هل يعدّل الشارع من غلواء الرئيس وحزامه ويحدث فجوة تسمح بالعودة إلى جادة الديمقراطية؟ هذا هو المؤمل منه في تحركات 26 سبتمبر/ أيلول و10 أكتوبر/ تشرين الأول وما سيأتي بعدهما من تحركات تحمل في عمقها دعوة للحوار السياسي، حيث إننا نراها ورقة أخيرة قبل الكارثة، ونعلق بها أملًا أخيرًا على لحظة وعي في صفّ الرئيس.
الأزمة الاقتصادية الداهمة
دون ادِّعاء الخبرة في الحديث الاقتصادي، نرى أن البلد يتجه إلى حالة عجز عن الدفع، أو الاقتراب من إعلان الإفلاس الاقتصادي. ما زال الناس يجدون وقودًا لسياراتهم في محطات الوقود فيقولون لم نصل إلى الوضع اللبناني بعد، وما زال لدى الكثير منهم مال ووقت للجلوس في المقاهي وتحليل الوضع الاقتصادي بكثير من اللامبالاة.
ولكن حديث محافظ البنك المركزي المفزع بثَّ فزعًا كبيرًا في صفوف العارفين بالاقتصاد، نضبت موارد الموازنة السارية وليس للموازنة القادمة موارد متجدِّدة، والرافد الضريبي وحده لم يعد يفي بالحاجة (هذا إذا بقيت رواتب يمكن الاقتطاع منها).
عدّل المحافظ جُمله المفزعة بعد مقابلة الرئيس، ولكن التراجُع (والتطمين) أكّد الخوف أكثر ممّا بدّده، حيث من الواضح أن هناك عملية تمويه سياسي للحالة الاقتصادية.
في معسكر الرئيس لا نسمع أية استجابة لهذه الإنذارات الاقتصادية، وفي معسكر المعارضة للانقلاب نسمع حديث الشماتة من قبيل “دعه يصطدم بالجدار”.
يهدِّد الرئيس مؤسسات التصنيف الاقتصادي الدولية التي تراقب الوضع التونسي باستحضار مقولات السيادة الوطنية، ويذكّرها بصَلَفٍ غريب بأنه ليس تلميذًا لديها ينتظر أن تسنده عددًا بمقاييسها، ولكنه يغفل أن ارتباط اقتصاد البلاد بالاقتصاد الدولي المحيط لا يعطيه أية هامش ليناور بحديث السيادة، فهو لا يملك نفط القذافي ولا غاز قطر.
هذه المؤسسات في وضع قوة يسمح لها بالإعراض عن البلد جملة وتفصيلًا، فكأنه غير موجود على الخريطة، وهو الأمر المرجَّح أمام تعنُّت الرئيس، وحينها لا نرى سبيلًا لتدبُّر موارد للموازنة القادمة فضلًا عن إتمام الموازنة الجارية.
هل يُعلن الدخول في موازنة متقشِّفة باختزال الرواتب وإيقاف الإنفاق العام؟ لم يعد هذا احتمالًا مستبعدًا في مفتتح السنة المالية القادمة، وحينها سيواجه البلد عملية توقف لكل إنتاج غذائي وصناعي لأن الناس ستتجه إلى الكفاف المطلق، حفظًا للبقاء لا بحثًا عن الازدهار والنمو، دون أن نذهب في تخيُّل الاضطراب الاجتماعي الذي سيحدثه من لا مورد له.
في معسكر الرئيس لا نسمع أية استجابة لهذه الإنذارات الاقتصادية، وفي معسكر المعارضة للانقلاب نسمع حديث الشماتة من قبيل “دعه يصطدم بالجدار”، لكنَّ الحديثَين غير مسؤولَين أمام اللحظة التاريخية الحرجة التي يمرُّ بها البلد جرّاء تدابير الانقلاب وانغلاقه عن كل حوار.
سيناريوهات سوداء
يمرُّ السحاب في سماء تونس ولا يمطر إلا قليلًا، والموسم الفلاحي يتأخر وقد تكون سنة جافة، فالفلاحون على طول نهر مجردة (الشمال) لم يزرعوا الخضر الشتوية، لأن وزارة الزراعة أمرت بالتقشُّف في الموارد المائية الشحيحة، ومزارعو الحبوب يمنّون النفس بأمطار نوفمبر/ تشرين الثاني والأرض لا تزال بورًا.
أما الثروة الحيوانية فمهدَّدة في العدد والنوع لاختفاء الأعلاف بكل أنواعها، وهذه الكارثة الزراعية الداهمة تهدد بوضع مليونَي فلاح على كتف الرئيس، وأي تحرك قد يقدمون عليه (رغم أنهم غالبًا مشتَّتون بلا رابط نقابي أو جمعياتي) يؤذن بنهاية الدولة نفسها.
هل نتجه إلى الحالة اليونانية لنخضع لإشراف دولي يتولّى ترتيب الخروج من الأزمة بتلك الأثمان القاسية؟ المرجَّح أن الحالة اللبنانية لم تعد بعيدة بثمنها الدموي، والحالة اللبنانية تمهِّد للحل اليوناني الذي لا يمكن معارضته بحديث السيادة المتنطِّع، والخشية أن ينتقل حديث التونسيين إلى الاختيار بين الدول التي ستشرف على حل أزمتنا: هل تكون ألمانيا أو إيطاليا أو فرنسا؟ وهي الدول المرعوبة من موجات الهجرة غير النظامية التي ستنتج مباشرة عن استفحال الأزمة الداخلية.
يعطينا الاحتجاج أملًا في أن نسمع في الداخل قبل الخارج، وأن يثوب الانقلاب إلى رشده، لكن مع الأمل الذي نشحذه بالاحتجاج تبقى أرجلنا على الأرض، الانقلاب وحزامه لم يعودا جزءًا من الحل المنتظر، لذلك يتضاعف الألم الكامن في السؤال: ماذا سيبقى من تونس بعد قيس سعيّد؟ فالمنقلب لا يمكنه وضع نصف الشعب في السجون، ليبني نظامه السياسي الهجين على حطام بلد وشتات شعب.