في الوقت الذي كانت تطمح فيه القوى السياسية العراقية تجاوز الصورة التي ظهرت عليها انتخابات 2018، جاءت الانتخابات المبكّرة لتكرر المشهد ذاته من حيث نسبة المشاركة وأسباب المقاطعة، ومن ثم إنّ المقاطعة التي شهدتها الانتخابات الأخيرة تطرح بدورها العديد من الأسئلة التي تشغل الشارع العراقي، حول مستقبل العملية السياسية التي فقدت الكثير من شرعيتها السياسية بسبب فقدان الثقة بها، وبمؤسساتها ومصادر شرعيتها، رغم الدعوات المتكررة التي جاءت عبر تسجيلات صوتية لقيادات التحالفات السياسية الكبيرة، تدعو فيها المواطنين للمشاركة بالانتخابات.
لا يخفى على أحد أن المقاطعة التي شهدتها انتخابات 2018، مهّدت الطريق نحو انطلاقة انتفاضة تشرين في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ومعها دخلت العملية السياسية في حالة انسداد سياسي كبير، تسبّب في إسقاط حكومة عادل عبد المهدي وتشريع قانون جديد للانتخابات.
ورغم محاولة القوى السياسية تصوير الانتخابات المبكّرة على أنها استحقاق تشريني مهم، إلا إن مقاطعة أوساط كبيرة من الشعب العراقي بنسبة تقارب 65%، تشير بدورها إلى ورطة حقيقية تمرُّ بها العملية السياسية في العراق، في كيفية تدارُك تداعيات هذه المقاطعة، خصوصًا أن هناك العديد من القوى السياسية أعلنت عن سعيها الفوز بمقعد رئاسة الوزراء.
وفي ظل المقاطعة الحالية من المحتمل أن تتغير موازين القوى السياسية داخل البرلمان الجديد، ما يضع النظام السياسي أمام 3 استحقاقات مستقبلية رئيسية، تشكيل حكومة هشّة للحفاظ على الاستحقاق الانتخابي الحالي، وتدارُك شبح الدعوة لانتخابات جديدة، أو الذهاب نحو فوضى سياسية بسبب الانسداد السياسي الحالي، أو الرضوخ لأسباب المقاطعة والدعوة لانتخابات جديدة بشروط ورغبة الشارع المقاطع.
أكدت وكالة “رويترز” عزوف نسبة كبيرة من العراقيين عن التصويت في الانتخابات، مشيرة إلى أن أعدادًا صغيرة تدفّقت على اللجان الانتخابية.
لا يشير ضعف نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة إلى فقدان الثقة بالعملية السياسية فقط، وإنما يشير أيضًا إلى عجز المنظومة السياسية الحالية بمؤسساتها السياسية والدستورية، في إقناع الناخب العراقي بضرورة المشاركة من أجل دعم فرص المشاركة السياسية وتعزيز فرصة التغيير عبر الانتخابات، وهو ما يطرح بدوره سؤالًا مهمًّا حول ضرورة التغيير عبر صناديق الانتخابات إذا كان المواطن فَقَدَ الثقة بها أصلًا.
ومن ثم إن هذا الواقع السياسي الهش قد يدفع المواطن للتفكير بحلول أكثر راديكالية وتطرفًا، عبر إعادة إنتاج صيغ احتجاجية أكثر تحديًا من انتفاضة تشرين، وقد تعيد تشكيل العملية السياسية من جديد وفق شروط وقواعد جديدة.
كشفت الانتخابات الأخيرة الوزن الانتخابي الحقيقي للقوى السياسية، فهي لم تتمكّن رغم إمكاناتها السياسية والاقتصادية الكبيرة من تحشيد أكثر من 35% من إجمالي الناخبين، ما قد يعيد الحديث مرة أخرى عن معادلة الأقلّية والأغلبية في البلاد، فلم تعد مسارات العمل السياسي محكومة بأقلية وأغلبية طائفية، بل بأقلية وأغلبية سياسية، على اعتبار أن الجمهور المقاطع في الانتخابات الأخيرة كان جمهورًا عابرًا للهويات الطائفية، وعبّر عن صورة احتجاجية رافضة لمجمل العملية الانتخابية دون الحديث عن أسباب أخرى، ويبدو ذلك واضحًا في تقارُب نِسَب المقاطعة بين مجمل المحافظات العراقية.
وفي هذا السياق أكّدت وكالة “رويترز” عزوف نسبة كبيرة من العراقيين عن التصويت في الانتخابات، مشيرة إلى أن أعدادًا صغيرة تدفّقت على اللجان الانتخابية، وأضافت أن الإقبال كان ضعيفًا بحلول منتصف بعد الظهر دون الخوض في التفاصيل، وأن نسبة المشاركة كانت منخفضة في أنحاء البلاد.
كما أكّدت أن نتيجة الانتخابات لن تغيِّر بشكل كبير ميزان القوى في العراق، حيث من المتوقع فوز الأحزاب الإسلامية التي تمتلك أجنحة مسلَّحة في ظل مقاطعة التيارات الشبابية والقوى المدنية، رغم أن الانتخابات المبكّرة جرت في الأساس وفق المطالب الشعبية، إلا أنها لم تلبّي طموحات العراقيين في ظل استمرار تكرار المرشحين والفصائل المسلحة.
إن التصويت العقابي الذي مارسه المقاطعون بعدم اشتراكهم في الانتخابات، لم يضع النظام السياسي فقط أمام حرج كبير، بل أيضًا المفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي أخّرت عملية الإعلان الرسمي عن نسبة المشاركة في الانتخابات.
إن حالة التوافقية السياسية التي بُنيت على أساسها العملية السياسية في العراق، أسَّست بوضوح لقاعدة “الجميع رابح”، ما جعل القوى السياسية تركّز على فكرة زيادة القاعدة الانتخابية طائفيًّا وعشائريًّا وقوميًّا، دون التركيز على تقديم برامج سياسية وانتخابية طموحة للناخب العراقي.
خلق هذا قناعة راسخة لدى الناخب بعدم جدوى المشاركة في العملية الانتخابية، طالما أن التنافُس يسير على اقتسام المغانم الانتخابية، وليس اقتسام واجب خدمة المواطن، وبالتالي رسم الخريطة السياسية في المرحلة المقبلة لن تكون سهلة، كما كانت تجري عليه العادة السياسية في الانتخابات السابقة.
ستلقي المقاطعة التي شهدتها العملية الانتخابية الأخيرة بظلالها على تحركات الكتل السياسية قبل وأثناء عملية تشكيل الحكومة المقبلة، وهي بالتأكيد ستكون تحركات متعثِّرة طالما أن الجميع يرى نفسه أنه يمتلك حق تشكيل الحكومة المقبلة، وعدم تقبُّل فكرة الإعتراف بالهزيمة السياسية كما هو الحال في الديمقراطيات الحديثة.
إن التصويت العقابي الذي مارسه المقاطعون بعدم اشتراكهم في الانتخابات، لم يضع النظام السياسي فقط أمام حرج كبير، بل أيضًا المفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي أخّرت عملية الإعلان الرسمي عن نسبة المشاركة في الانتخابات، وهو ما يشير إلى وجود ضغوط سياسية قد تمارَس على مفوضية الانتخابات لرفع نسبة التصويت بالانتخابات عمّا هو مذكور في وسائل الإعلام.
وبالتالي يمكن القول إننا أمام “نسبة سياسية” وليس “نسبة انتخابية”، وذلك من أجل تطمين المجتمع الدولي (رغم البيانات التي صدرت عن مراقبين تابعين للاتحاد الأوروبي عن معرقلات واجهتهم أثناء تجولهم في الدوائر الانتخابية) على حالة المشاركة السياسية والعملية الديمقراطية في العراق.
وقد يتفق جميعنا على أن العملية الانتخابية نجحت في تحقيق نِسَب متدنّية من عمليات التزوير، لكنها لم تنجح في إقناع الناخب العراقي بضرورة المشاركة والتغيير، وهو سؤال يحتاج إلى 4 سنوات قادمة حتى تنجح القوى السياسية في إعادة ترميم مسارات الثقة مع الناخب العراقي، الذي يبدو اليوم رافضًا للعملية السياسية برموزها ومؤسساتها.