“لن نسمح بذلك، فأرضنا مقدسة واحترامًا لشهدائنا لن تكون هناك أي قواعد أجنبية عسكرية بها”، بهذه الكلمات بدأ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون كلامه بخصوص العلاقات مع فرنسا وإقامة قواعد عسكرية أجنبية على أراضي الجزائر، وأضاف الرئيس الجزائري “على فرنسا أن تنسى بأن الجزائر كانت يومًا ما مستعمرة، لأنها أصبحت الآن دولة قائمة بكل أركانها وجيشها القوي واقتصادها وشعبها الأبي”، تصريحات تبون هذه تأتي بعد توتر كبير يشوب علاقة البلدين تسبب بأزمة دبلوماسية.
ليس بعيدًا عن الأزمة الجزائرية الفرنسية هذه الأوقات، فإن فرنسا خلال سنة واحدة وقعت في أزمات متعددة ليس على الصعيد الداخلي فحسب وإنما على الصعيد العالمي، كما تعرضت باريس لسلسلة من الضربات السياسية والعسكرية والاقتصادية في مختلف الجبهات، لتصبح “مأزومةً” بالمعنى الحرفي، ولا بد هنا من تذكر ما قاله الرئيس الفرنسي “الإسلام ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم”، وهنا يطرح البعض سؤالًا: من الذي يعيش أزمة؟.
في هذا التقرير نسلط الضوء على أبرز الأزمات التي عصفت بفرنسا خلال سنة واحدة فقط. بدءًا من الأزمة مع الجزائر مع استعراض الأزمة الفرنسية بخصوص صفقة الغواصات مع أستراليا مرورًا بالفشل الفرنسي في معركتها بإفريقيا واستعراض حملة المقاطعة الإسلامية المستمرة للمنتجات والبضائع الفرنسية.
الأزمة مع الجزائر
في إطار تصريحاته المثيرة للجدل، شكك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في “وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي للبلاد، عام 1830″، وتساءل ماكرون: هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ قائلًا: “الرئيس الجزائري تبون رهين لنظام متحجر وأرى أنه عالق في نظام شديد التصلب”.
إثر كلام ماكرون أعلنت الجزائر استدعاء سفيرها لدى فرنسا للتشاور، واصفة تصريحات الرئيس الفرنسي بـ”غير المسؤولة”، وفي ردها على التصريحات الفرنسية أغلقت الجزائر مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية، التي تعمل في إطار عملية برخان بالساحل الإفريقي.
صدر بيان عن الرئاسة الجزائرية يقول “على خلفية التصريحات غير المفندة لعديد المصادر الفرنسية والمنسوبة للرئيس الفرنسي، ترفض الجزائر رفضًا قاطعًا أي تدخل في شؤونها الداخلية، وهو ما جاء في تلك التصريحات”، وليست هذه المشكلة الوحيدة بين البلدين، فقد اتهم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون فرنسا بـ”الكذب” بشأن عدد الجزائريين المرشحين للترحيل من فرنسا، وهاجم تبون ما قاله وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، عن أن “الجزائر رفضت استقبال 7 آلاف من مواطنيها تقرر ترحيلهم من فرنسا”، ووصف هذه التصريحات بـ”كذبة القرن”.
إلى ذلك تعتبر الجزائر من أبرز الشركاء الاقتصاديين لفرنسا، وتعدّ فرنسا أكبر مورد للبضائع بعد الصين، كما تحتلّ الجزائر المرتبة الثالثة في قائمة أسواق الصادرات الفرنسية خارج بلدان الاتحاد الأوروبي بصادرات ناهزت 3.6 مليار دولار، وفي ردود الفعل أيضًا ذكرت مواقع جزائرية أن الحكومة تدرس خطوة تتمثل في “مراجعة العلاقات الاقتصادية والتجارية مع المستعمر السابق”، وقالت المصادر: “سنقوم بتقييم دقيق لعلاقاتنا الاقتصادية والتجارية، مع فرنسا، ونحتفظ بإمكانية إعادة توجيهها بكل سيادة نحو شركاء آخرين معروفين، ويقدرون سيادة الأمم”.
يحاول ماكرون احتواء الأزمة التي ستؤثر على بلاده في عدة مجالات، فعبر عن أمله في أن يهدأ التوتر الدبلوماسي مع الجزائر وأن يعود الطرفان إلى الحوار، قائلًا: “أتمنى أن نتمكن من تهدئة الأمور، لأنني أعتقد أنه من الأفضل أن نتحاور من أجل تحقيق تقدم”، معربًا عن ثقته بنظيره الجزائري عبد المجيد تبون، وأكد أن العلاقات معه “ودية فعلًا”.
يشترط الرئيس تبون “الاحترام التام” من فرنسا لسيادة بلاده ومؤسساتها، من أجل عودة سفير الجزائر إلى باريس، مضيفًا “الجانب الفرنسي لا بد أن ينسى أن الجزائر كانت مستعمرة في يوم من الأيام، الجزائر قوية بجيشها وشعبها الأبي الذي لا يرضخ إلا لله”.
أزمة الغواصات
عام 2016، نجحت شركة “نوڤال جروب” الفرنسية وهي الشركة المختصة بالصناعات البحرية الفرنسية، في الفوز بصفقة تزويد البحرية الأسترالية بالغواصات التي تعمل بالطاقة النووية بقيمة وصلت إلى 90 مليار دولار، واعتبرت هذه الصفقة من أكبر صفقات الأسلحة في التاريخ، إذ أنعشت الخزانة وصناعة الأسلحة البحرية في فرنسا.
لكن دون سابق إنذار، تلقت باريس صفعةً قويةً من أستراليا التي قررت بعد 5 أعوام أن تستعيض عن الصفقة الفرنسية ببرنامج آخر مشترك مع لندن وواشنطن، ضمن ترتيبات أمنية تاريخية غير مسبوقة في تلك المنطقة من العالم، هذه الضربة القوية لم تستطع باريس تحملها واعتبرتها “خيانة وطعنة بالظهر”.
خسرت فرنسا بالانسحاب الأسترالي من البرنامج حزمةً هائلةً من الأموال التي كانت بصدد إنعاش قطاع السلاح والاقتصاد الفرنسي، كما تعرضت لخسائر دبلوماسية كبيرة وضعف سياسي أمام الدول الأخرى، فقد فشلت في حماية عقود السلاح مع الحلفاء وأُقصيت من الترتيبات الأمنية الجديدة، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تسحب خلالها واشنطن البساط من تحت أقدام باريس في الصفقات العسكرية، فقد حدث ذلك من قبل في صفقات مع سويسرا وبلجيكا وبولندا، كما أجبرت الولايات المتحدة فرنسا من قبل على العدول عن تصدير حاملات مروحيات عملاقة إلى روسيا، إلا أن ما حدث بصفقة الغواصات كان الأسوأ والأشد على الإطلاق.
ردة الفعل الفرنسية في البداية كان متخبطةً وشكلت الحادثة صدمةً كبيرةً في الأوساط الفرنسية، فقد غاب إيمانويل ماكرون في البداية عن التصريحات، وصدرت التصريحات من وزير الخارجية جان إيف لورديان ووزيرة الدفاع فلورانس بارلي، إذ أشار وزير الخارجية في لقاء إذاعي مع محطة رسمية أنه يشعر بغصةٍ ومرارةٍ شديدةٍ، نتيجة عدم اختلاف السلوك الأمريكي في عهد بايدن عما كان يحدث في عهد ترامب، فيما قالت بارلي إن ما حدث طعنة في الظهر.
على الصعيد الدبلوماسي استدعت باريس سفيري لندن وواشنطن على أراضيها، وألغت حفلًا وديًا كان من المقرر تنظيمه في واشنطن احتفاءً بمرور 240 سنة على معركة “تشيزييك” التي شارك فيها الفرنسيون والأمريكيون معًا ضد الإنجليز، كما أن اجتماعًا لوزراء خارجية فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا ألغي بسبب الغضب الفرنسي، وفي السياق قال عضو في البرلمان الأوروبي: “الأوروبيون يقومون بأدنى حد من خدمة التضامن مع باريس، عبر ذرف بعض دموع التماسيح”.
أزمة الساحل الإفريقي
فشل عسكري فرنسي تمثل بحربها على الإرهاب في إفريقيا، فقد أنهى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عملية برخان العسكرية في منطقة الساحل الإفريقي، وقالت صحيفة لاكسبريس الفرنسية: “بعد 8 سنوات من الاشتباكات المكثفة ومصرع العديد من الجنود الفرنسيين والمدنيين، قرر ماكرون تقليص الوجود العسكري وإغلاق القواعد وتعديل شكل القتال ضد الإرهابيين في المنطقة”.
تكبدت باريس في حربها تلك خسائر اقتصادية، كونها العملية العسكرية الكبرى التي تطلقها خارج أراضيها، وقالت الصحيفة إن ميزانية العمليات العسكرية الفرنسية على الصعيدين الخارجي والداخلي، ارتفعت عام 2020، أكثر من 60 مليون يورو مقارنة بعام 2019، ووصل عدد الجنود الفرنسيين المشاركين في تلك العمليات إلى 5100 جندي.
انطلقت عملية برخان في أغسطس/آب 2014، وتم تشكيلها بالتعاون مع 5 بلدان تمتد في منطقة الساحل الإفريقي وهي: بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر.
من جانبها، قالت صحيفة “لوموند”: “قرار عملية برخان يضع حدًا للوهم بشأن أي انتصار عسكري محتمل”، وأضافت “إعلان ماكرون قرار تخفيض عدد القوات الفرنسية في العملية والانسحاب التام بحلول 2023 لا يعني إلا أن نتائج 8 سنوات من التدخل الفرنسي في منطقة الساحل ليست رائعة”.
أظهرت الصحيفة الفرنسية نتائج العملية على صعيد الضحايا، إذ قتل أكثر من 8 آلاف شخص، معظمهم من المدنيين، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو منذ عام 2013، كما أشارت إلى أنه رغم العملية الفرنسية نزح مليون شخص بسبب القتال، وقتل 50 جنديًا فرنسيًا كانوا في الخدمة.
وفي إطار الانتقادات الموجهة لعملية برخان، تابعت لوموند “لا يفهم الفرنسيون سبب موت الجنود دفاعًا عن الجيش المالي، بينما يتهم سكان الساحل الإفريقي باريس بالاستعمار الجديد”.
أزمة فرنسية مع المسلمين
ما زالت حملات المقاطعة التي تستهدف البضائع الفرنسية مستمرةً في العالم الإسلامي منذ سنة تقريبًا، وهي حملات مقاطعة مدنية انطلقت في أكتوبر/تشرين الأول 2020 ردًا على إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لنبي الإسلام محمد على واجهة فنادق فرنسية في مدينتي تولوز ومونبيلييه، وتأكيد إيمانويل ماكرون “عدم التخلي عن رسوم الكاريكاتور”.
أحدثت تصريحات ماكرون تجاه الدين الإسلامي غضبًا عارمًا، فقد قال: “ثمة في تلك النزعة الإسلامية الراديكالية عزم معلن على إحلال هيكلية منهجية للالتفاف على قوانين الجمهورية وإقامة نظام مواز يقوم على قيم مغايرة، وتطوير تنظيم مختلف للمجتمع”، مضيفًا “الإسلام ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم”.
أطلق رواد مواقع التواصل الاجتماعي في معظم الدول الإسلامية والعربية وسومًا تتجدد يوميًا بعناوين مختلفة منها #إلا_رسول_الله و #مقاطعة_المنتجات_الفرنسية، وهاجمت وزارة الخارجية الفرنسية حملات المقاطعة واتهمت من يقوم بها بالتطرف، ونشرت بيانًا قالت فيه: “الدعوات إلى المقاطعة عبثية ويجب أن تتوقف فورًا، وكذلك كل الهجمات التي تتعرض لها بلادنا التي تقف وراءها أقلية راديكالية متطرفة”.
ختامًا، ليست هذه المشكلات والأزمات الوحيدة التي تواجهها باريس داخليًا وخارجيًا، فالأزمات التي عصفت بالبلاد وما زالت تعصف، تُخبر بأن الحلم الفرنسي بالعودة إلى كونها إمبراطورية استعمارية انتهى وبات على باريس الالتفات إلى أزماتها الداخلية لحلها.