في 18 من مايو/أيار 1974 أعلنت الهند عن قنبلتها النووية الأولى، الأمر الذي أرعب الجارة الباكستانية خاصة أن هذه الخطوة جاءت بعد أقل من 3 سنوات فقط من بداية حربهما (1971)، وعليه أطلق رئيس الوزراء الباكستاني في ذلك الوقت ذو الفقار علي بوتو عبارته الشهيرة: “حتى لو أكلنا العشب.. يجب أن نمتلك قنبلةً نوويةً”.
في تلك الأثناء كان هناك مهندس معادن باكستاني لا يتجاوز عمره وقتها 38 عامًا، يدعى عبد القدير خان يعمل في شركة هولندية متخصصة في تخصيب اليورانيوم وتدير العديد من محطات التخصيب في دول أوروبا، وحين آمن بصدق الإرادة السياسية لبلاده في امتلاك القنبلة النووية دفاعًا عن وطنه واستقلاله في مواجهة الهند، كتب إلى رئيس الوزراء الباكستاني رسالة قال فيها: “حتى يتسنى لباكستان البقاء دولة مستقلة عليها إنشاء برنامج نووي”، ومن هنا كانت البداية نحو دخول باكستان النادي النووي العالمي.
بالأمس الأحد، الـ10 من أكتوبر/تشرين الأول 2021، أعلن التليفزيون الباكستاني وفاة العالم النووي عبد القدير خان مهندس البرنامج النووي الباكستاني عن عمر ناهز 85 عامًا، ذلك العالم الذي يحتل مكانةً عظيمةً في نفوس الباكستانيين، فهو في نظرهم بطل قومي، لا يقل منزلة عن الشاعر الكبير محمد إقبال صاحب فكرة إنشاء باكستان ومحمد علي جناح قائد مشروع إنشاء الدولة.. فمن ذلك العالم الفذ الذي وضع بلاده في مصاف كبار العالم وفرض هيبتها حتى باتت رقمًا صعبًا في المعادلة الدولية؟
خبرة كبيرة في المجال النووي
العمل داخل أروقة الوظائف الحكومية القاتلة للإبداع لم يرق للشاب المولود في بهوبال بالهند عام 1936 قبل أن يهاجر مع عائلته إلى باكستان عام 1952، فالخريج الحاصل على بكالوريوس العلوم في علم المعادن الفيزيائية من جامعة كراتشي عام 1960 لا يمكن أن ينتهي به المطاف في وظيفة مفتش للموازين والمقاييس في أسواق كراتشي.
وعلى الفور تقدم الشاب باستقالته، قاصدًا أوروبا، باحثًا عن مناخ أكثر ملاءمة لنبوغه العملي وطموحاته البحثية، البداية كانت في برلين الغربية بألمانيا، ومنها إلى دلفت بهولندا، حيث حصل على درجة الماجستير في المعادن من هناك عام 1967، منتقلًا إلى الجامعة الكاثوليكية في لوفينفي ببلجيكا، وهناك حصل على درجة الدكتوراة عام 1972.
وبعد أشهر قليلة من حصوله على الدكتوراة تم تعيينه من مختبر أبحاث الفيزياء الديناميكية في هولندا، وهو معمل شريك من الباطن لمجموعة “يورنكو” لبحث وتطوير تخصيب اليورانيوم من خلال استخدام أجهزة الطرد المركزي التي تعمل بسرعات عالية للغاية، ولها خبرات كبيرة في مجال التخصيب في بعض البلدان الأوروبية.
نبوغه العلمي وكفاءته في المجال البحثي في علم التخصيب والمعادن بصفة عامة دفعاه للترقي والحصول على مكانة أكبر وكسب ثقة المسؤولين عن المختبر في هولندا، ما دفعهم لمنحه تصريحًا أمنيًا يمكنه من الوصول إلى المعلومات السرية الخاصة بتقنية أحهزة الطرد المركزي الفائقة، هذا بخلاف السماح له بزيارة مصانع تخصيب اليورانيوم الهولندية، وهي الجهات السرية المحظور على أي شخص الاقتراب منها إلا حين يصل إلى مكانة علمية كبيرة وثقة فائقة من المسؤولين.
وفي قمة هذا النبوغ جاءت الهزيمة المدوية لبلاده في حربها مع الهند عام 1971 وخسارتها جزءًا من حدودها الشرقية (بنغدلايش حاليًّا)، تبع ذلك اختبار نيودلهي لجهاز متفجر نووي في مايو/أيار 1974، الأمر الذي أرعب الملايين من بني وطنه، كان التأثر شديدًا، وعليه كان تلبية نداء الوطن في تلك المرحلة الحرجة ضرورة لا بد منها مهما كانت تبعاتها على المستوى الشخصي والأكاديمي.
الوطن فوق كل اعتبار
في 17 من سبتمبر/أيلول 1974، وبعد إطلاق رئيس الوزراء الباكستاني ندائه الشهير “حتى لو أكلنا العشب.. يجب أن نمتلك قنبلة نووية”، كتب خان إلى بوتو يعرض عليه المساعدة في تحضير القنبلة الذرية، مستعينًا بخبرته الكبيرة في هذا المجال التي تؤهله لأن يضع أقدام بلاده على أول الطرق نحو النادي النووي.
الرسالة التي بعث بها العالم الباكستاني لرئيس وزراء بلاده تضمنت بعض التفاصيل الفنية بشأن عملية التخصيب، أبرزها أن طريق اليورانيوم إلى القنبلة باستخدام أجهزة الطرد المركزي للتخصيب، أفضل من مسار البلوتونيوم (وهو الطريق المعمول به في باكستان حاليًّا)، الذي يعتمد على المفاعلات النووية وإعادة المعالجة، وقد لاقت الرسالة قبولًا وترحيبًا من الحكومة.
استدعى بوتو خان لعقد لقاء معه للحديث أكثر في تفاصيل المشروع، وبالفعل حدث أول لقاء رسمي بينهما في ديسمبر/كانون الأول 1974، وبعد تقديمه شرحًا مفصلًا لرؤيته نحو تصنيع قنبلة نووية في ضوء الإمكانات المتاحة، قبل رئيس الوزراء الفكرة وشجعه، مذللًا أمامه العقبات كافة، وموفرًا كل ما يحتاجه وفريقه من دعم ومساعدات على مختلف الأصعدة.
لم يتوان العالم الباكستاني عن جمع النواة الأولى لانطلاق مشروعه الوطني، خاصة بعد تصاعد توتير الأجواء الحدودية بين بلاده والهند، وبعد أن اطمأن إلى الانتهاء منها بالشكل المرضي له علميًا، كانت العودة للوطن لتنفيذ الحلم ضرورة لا بد منها
لم يتأخر خان في التحول من التنظير إلى الواقع، فبدأ على الفور في جمع رسوم أجهزة الطرد المركزي، وجمع قائمة بالمورّدين الأوروبيين الذي يمكنهم تزويد باكستان بالتكنولوجيا اللازمة لإنتاج يورانيوم عالي التخصيب للأسلحة النووية، وفي منتصف عام 1975 رصدت الشرطة الهولندية اجتماعًا تم بين خان ودبلوماسي باكستاني، كان يشتبه أنه يسعى للحصول على تكنولوجيا نووية لبلاده.
في تلك الأثناء، ساورت الشكوك السلطة الهولندية التي كانت تفكر في اعتقال العالم النووي الباكستاني، غير أنه نتيجة لمشاروات عدة جمعت بين مسؤولين هولنديين ونظرائهم في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، قرروا التخلي عن فكرة الاعتقال وأن يوضع خان تحت المراقبة على أمل معرفة المزيد عن شبكة باكستان لتهريب الأسلحة النووية.
طيلة هذه الفترة لم يتوان العالم الباكستاني عن جمع النواة الأولى لانطلاق مشروعه الوطني، خاصة بعد تصاعد توتير الأجواء الحدودية بين بلاده والهند، وبعد أن اطمأن إلى الانتهاء منها بالشكل المرضي له علميًا.. كانت العودة للوطن لتنفيذ الحلم ضرورة لا بد منها.
باكستان والحلم النووي
في 15 من ديسمبر/كانون الأول 1975، غادر خان رفقة زوجته البريطانية وابنتيه، هولندا، عائدًا إلى وطنه، ليبدأ الإعداد لتنفيذ مشروع صناعة القنبلة النووية، وفي بدايات العام التالي أنشأ معامل هندسية للبحوث، في مدينة كاهوتا القريبة من مدينة راولبندي (على بعد 50 كيلومترًا جنوب شرق العاصمة إسلام آباد) كما فتح قنوات اتصال مع عدد قليل من الشركات في سويسرا وألمانيا التي كانت على استعداد لاستغلال الضوابط الضعيفة على التصدير.
وبحكم علاقاته الواسعة، استطاع خان تكوين شبكة علاقات قوية مع مهندسين وخبراء من بعض دول أوروبا ممن يمتلكون الخبرة المؤهلة لذلك، وبعد فترة قصيرة بدأ بتصنيع المكونات الأساسية لليورانيوم في مصانع ماليزيا وجنوب إفريقيا، واستخدم إمارة دبي كمركز لشحنها.
العامل الأبرز لنجاح المشروع كان “السرية العالية التي تم الحفاظ عليها في كل المراحل” التي جعلت المفاعل بمنأى عن أي محاولات استخبارية غربية أو هندية للتسلل إليه
مشروع بهذا الحجم كان بحاجة إلى ميزانيات ضخمة لا تتناسب وإمكانات باكستان الفقيرة، ومن ثم قدمت بعض البلدان العربية على رأسها السعودية وليبيا مساعدات مالية للمساهمة في إنجاز هذا المشروع، وتقديرًا لهذا الدور أطلقت باكستان اسم الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي (دافع عن حق باكستان في امتلاك سلاح نووي خلال الخطاب الذي ألقاه في الأمم المتحدة سنة 1975 ) على أكبر ملاعب الكريكيت لديها في مدينة لاهور.
ورغم تعدد عوامل نجاح هذا الحلم الذي خرج للنور ثمانينيات القرن الماضي، لتصبح باكستان جنبًا إلى جنب إلى جوار الهند في النادي النووي العالمي، إلا أن العامل الأبرز كان “السرية العالية التي تم الحفاظ عليها في كل المراحل” التي جعلت المفاعل بمنأى عن أي محاولات استخبارية غربية أو هندية للتسلل إليه، بحسب عبد القدير خان، الذي استطاع أن يحافظ على استقلالية بلاده في مواجهة العواصف الإقليمية والدولية التي كانت تتربص بأجوائها.
خان ومشرف.. صراع العالم والجنرال
النجاح الذي حققه خان وضعه في منزلة رفيعة لدى الشعب الباكستاني، فيما أطلقت عليه الصحافة لقب “أبو القنبلة الذرية الإسلامية”، فيما امتلأت شوارع المدن الرئيسية بصوره تقديرًا لدوره في إعلاء شأن بلاده عالميًا، بجانب المشروعات الخيرية التي قام بها كإنشاء المدارس والجمعيات الخيرية ومساعدة الفقراء.
دخول باكستان النادي النووي أزعج القوى العالمية في ذلك الوقت وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي كانت ترى في هذه الخطوة تهديدًا لمصالحها وحلفائها في المنطقة، ومن ثم مارست كل أنواع الضغوط على الدولة الباكستانية، وصلت ذروتها في عهد الجنرال برويز مشرف الذي وصل للسلطة بانقلاب عسكري عام 1998.
كان مشرف ملكيًا أكثر من الملك، فحاول تقديم أرواق اعتماده للأمريكان من خلال التنكيل بخان وتشويه سمعته، مستندًا في ذلك إلى الاتهامات التي كان يواجهها العالم الباكستاني بنقل التكنولوجيا النووية إلى إيران وكوريا الشمالية، هذا بجانب شحنات العناصر النووية التي كانت يستوردها من الخارج التي وقعت إحداها في أيدي السلطات الإيطالية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2003.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2003، خضع عبد القدير خان رفقة بعض علماء الذرة الباكستانيين لاستجواب من الأمن الباكستاني بشأن احتمال وجود علاقة بين البرنامجين النوويين في باكستان وإيران، وتسريب أسرار نووية إلى دول مثل ليبيا وكوريا الشمالية، وهي الخطوة التي تلتها ضغوطات فاقت قدرة خان على الصمود والمواجهة.
فجأة دون مقدمات فوجئ العالم بظهور خان على شاشات التليفزيون الباكستاني في الـ4 من فبراير/شباط 2004 معلنًا تحمله المسؤولية الكاملة عن تسريب أسرار نووية لدولة أخرى، في محاولة لتبرئة ساحة الحكومة التي كانت تواجه ضغوطات أمريكية مكثفة، لكنه عاد بعد ذلك ليؤكد أن تلك التصريحات إنما جاءت تحت تهديد من مشرف.
أعاد خان تنظيم وكالة الفضاء الوطنية الباكستانية سوباركو، وفي أواخر التسعينيات، ساهم في إطلاق أول مشروع باكستاني لمركبة لإطلاق الأقمار الصناعية القطبية ومركبة لإطلاق الأقمار الاصطناعية
الهدية المجانية التي قدمها الجنرال مشرف لأمريكا بخصوص تضييق الخناق على خان وتشويه سمعته، إرضاءً للبيت الأبيض وإدارته الحاكمة، استثمرتها الهند التي اتهمت الحكومة الباكستانية بأنها “ليست أمينة على ما لديها من عتاد نووي” وهو ما أضعف الموقف الباكستاني في ساحة الصراع مع الجارة الهندية.
ومن المفارقات العجيبة أنه في الوقت الذي يواجه فيه عبد القدير خان الذي وضع بلاده على خريطة القوى العالمية بدخولها النادي النووي كل تلك الاتهامات ومخطط تشويه السمعة المتعمد، يعامل نظيره الهندي أبو بكر زين العابدين عبد الكلام الذي يلقب بـ”أبو البرنامج الصاروخي الهندي” معاملة الأبطال الكبار، إذ عين رئيسًا لبلاده بعد نحو عامين من التفجيرات النووية الهندية عام 1998.
الدور الذي قدمه خان لوطنه لم يقتصر على تصنيع السلاح النووي فقط، بل لعب دورًا آخر لا يقل أهمية في برنامج الفضاء الباكستاني، فقد أعاد تنظيم وكالة الفضاء الوطنية الباكستانية سوباركو، وفي أواخر التسعينيات، ساهم في إطلاق أول مشروع باكستاني لمركبة لإطلاق الأقمار الصناعية القطبية ومركبة لإطلاق الأقمار الاصطناعية، بخلاف إسهاماته الجليلة في تأسيس العديد من الجامعات الهندسية في بلاده، ومنها معهد المعادن وعلوم المواد في معهد غلام إسحاق خان للعلوم الهندسية والتكنولوجيا.
يظل الدكتور عبد القدير خان، صفحة ناصعة البياض في تاريخ الدولة الباكستانية، مخلدًا اسمه – رغم مخططات التشويه البرويزية – بأحرف من نور في قلوب الشعب الباكستاني الذي يعرف قيمته ويقدر دوره الوطني
وللعالم الباكستاني حضور ثقافي وعلمي لافت للنظر، أبرزه كتاب “القنبة الإسلامية” الصادر عام 1981، بجانب نشره قرابة 150 بحثًا علميًا في مجلات علمية عالمية، تتناول العديد من الأسرار المتعلقة بالقنبلة النووية والتخصيب وصناعة المعادن وكيفية توظيفها علميًا.
كما حصل خلال مسيرته العلمية على نحو 13 ميدالية ذهبية من معاهد ومؤسسات مختلفة، بجانب منحه وسام “هلال الامتياز” وهو أعلى وسام مدني تمنحه دولة باكستان، عامي 1989 و1996، وفي عام 2003 أعلنته جامعة “سير سيد” (Sir Syed) للهندسة والتكنولوجيا “خريجًا متميزًا” اعترافًا بـ”خدماته الجليلة ومساهماته القيمة في البحث العلمي وتطبيقاته العملية المفيدة للبشرية”.
في 22 من أغسطس/آب 2006، أعلنت السلطات الباكستانية أن خان يعاني من سرطان البروستاتا وأنه تحت العلاج، وظل العالم النووي في معاناة مستمرة مع هذا المرض حتى وفاته، التي جاءت بصورة رسمية بعد إصابته بفيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) نُقل على إثرها لأحد مستشفيات إسلام أباد حيث لقى حتفه ليلة الأحد الـ10 من أكتوبر/تشرين الأول 2021 عن عمر ناهز 85 عامًا.
وفاة العالم النووي كانت صدمة للشارع الباكستاني، فنعاه الرئيس الباكستاني عارف علوي قائلًا: “لقد ساعدنا في تطوير الردع النووي لإنقاذ الأمة، ولن تنسى الأمة الممتنة خدماته في هذا الصدد”، فيما قال رئيس الوزراء عمران خان “لقد كان محبوبًا من أمتنا بسبب مساهمته الحاسمة في جعلنا دولة نووية. وقد وفر لنا ذلك الأمن ضد جار نووي عدواني أكبر بكثير. بالنسبة لشعب باكستان كان رمزًا وطنيًا”، أما وزير الدفاع برويز ختك فنعاه بقوله: “باكستان ستعتز بخدماته للأمة إلى الأبد، والأمة مدينة له بشدة لإسهاماته في تعزيز قدراتنا الدفاعية”.
وهكذا يظل الدكتور عبد القدير خان، صفحة ناصعة البياض في تاريخ الدولة الباكستانية، مخلدًا اسمه – رغم مخططات التشويه البرويزية – بأحرف من نور في قلوب الشعب الباكستاني الذي يعرف قيمته ويقدر دوره الوطني، حتى بات علمًا من أعلام البلاد، لتبقى سيرته جديرة بالدراسة ونبعًا تنهل منه الأجيال معاني الوطنية والإباء.