بعد انتظار طويل، أُجريت الانتخابات العراقية المبكّرة في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وبعد قرابة 24 ساعة أعلنت مفوضية الانتخابات العراقية النتائج الأولية للتصويت لتكشف عن مفاجآت كبيرة شهدتها العملية الانتخابية بين صعود تيارات سياسية وتراجع أخرى، وغياب سياسيين بارزين عن المشهد الجديد الذي أفرزته نتائج الانتخابات.
مؤشرات الانتخابات
لم تكن انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول لتجرى لولا التظاهرات الشعبية الواسعة التي انطلقت في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حيث أطاحت بعد قرابة الشهرَين برئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي أفرزته انتخابات عام 2018، والتي اعترف عدد كبير من السياسيين بأن عمليات تزوير كبيرة شابتها وأثّرت في نتائجها.
ومع تولي رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الحكومة العراقية في مايو/ أيار 2020، تعهّد الأخير بتنظيم انتخابات برلمانية مبكّرة، ما أدّى تحت الضغط الشعبي لتشريع قانون انتخابي جديد هو قانون رقم 9 لعام 2020، جاءت تفاصيله مغايرة تمامًا عن القانون القديم واعتمد نظامًا جديدًا يختلف كليًّا عن القوانين الانتخابية السابقة التي أجريت في البلاد منذ الغزو الأمريكي عام 2003.
نسبة المشاركة
ورغم أن الحكومة العراقية والأمم المتحدة ومفوضية الانتخابات بذلت جهدًا كبيرًا في تشجيع العراقيين على التوجُّه لصناديق الاقتراع، إلا أن هذه الجهود لم تفلح كثيرًا، حيث أثبتت نسبة المشاركة أن الانتخابات التي جرت قبل يومَين شهدت أقلَّ مشاركة شعبية منذ عام 2003 بنسبة أعلنت عنها المفوضية لم تتجاوز 41% فقط، رغم أن نسبة المشاركة في انتخابات 2018 وصلت إلى 44%.
وفي هذا الصدد، وفور إعلان نسبة المشاركة في الانتخابات، أكّد الكثير من الباحثين أن هذه النتيجة لا تعدّ حقيقية، إذ إن مفوضية الانتخابات وفي بيان رسمي لها أعلنه رئيس مجلس المفوضين، القاضي جليل عدنان، أكّدت فيه أن عدد المسجّلين في سجلّات مفوضية الانتخابات والذين يحقّ لهم التصويت يبلغ 22 مليونًا و116 ألف ناخب عراقي.
ويقول أستاذ العلوم السياسية محمود عزو، إن المفوضية اعتمدت في نسبة المشاركة على حساب أعداد المشاركين بالاعتماد على أعداد العراقيين المسجّلين لدى المفوضية العليا للانتخابات في البلاد.
ويضيف عزو في حديثه لـ”الجزيرة نت” أن أعداد العراقيين الذين يحق لهم التصويت يزيد عن 24 مليون عراقي، وبالتالي وفي حال اعتماد أعداد المشاركين في الانتخابات نسبة للرقم الكُلّي، فإن نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة لن تصل للنسبة التي أعلنت عنها المفوضية.
نتائج الانتخابات
كانت النتائج الأولية للانتخابات العراقية مفاجأة للعراقيين، حيث إنه وعقب مقتل قرابة 600 متظاهر عراقي وجرح أكثر من 22 ألفًا آخرين، فإن هناك كتلًا سياسية من التيار التقليدي حققت تقدُّمًا كبيرًا في الدورة الانتخابية الحالية مع تراجُع حصة كتل سياسية أخرى.
أظهرت النتائج الأولية تراجعًا كبيرًا لتحالف الفتح بزعامة هادي العامري، ليبلغ عدد مقاعده 14 مقعدًا فقط.
وأظهرت النتائج الأولية للانتخابات تصدُّر التيار الصدري بـ 73 مقعدًا في البرلمان العراقي، يعقبه في الصدارة تحالف تقدُّم الوطني الذي يتزعّمه رئيس البرلمان العراقي المنحلّ محمد الحلبوسي، ثم كتلة دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي بـ 37 مقعدًا، ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني بـ 32 مقعدًا، يليه تحالف عزم الذي يتزعّمه السياسي السنّي خميس الخنجر بـ 15 مقعدًا.
كما أظهرت النتائج الأولية تراجعًا كبيرًا لتحالف الفتح بزعامة هادي العامري ليبلغ عدد مقاعده 14 مقعدًا فقط، يليه في ذلك حركة امتداد التي انبثقت عن تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019 حيث حققت 10 مقاعد برلمانية وهي التي لم يكن لها أي وجود سياسي قبل عامَين من الآن.
وكانت المفاجأة الأكبر في تيار الحكمة الذي حصل على مقعدَين اثنين فقط، حاله حال تحالف النصر بزعامة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، بينما حصل الاتحاد الوطني الكردستاني على 15 مقعدًا فقط، بحسب البيانات الأولية للمفوضية العليا للانتخابات العراقية.
مفاجآت كبيرة
لم تمُرَّ نتائج الانتخابات مرور الكرام على المراقبين، إذ بات من الواضح أن كتلًا سياسية معيَّنة أجادت التنظيم في العملية الانتخابية، واستطاعت حصد الكثير من الأصوات، وهو ما حصلَ مع كل من التيار الصدري وتحالف تقدم الوطني.
وفي هذا الصدد، يقول الباحث السياسي محمد عزيز إن التيار الصدري يعدّ أكثر الكتل السياسية التي لديها ماكينة انتخابية محترفة، واستفادت كثيرًا من الدوائر المتعددة التي مكّنتها من التركيز على الدوائر وعدم ترشيح الكثير من أعضائها ضمن الدائرة الواحدة، وبالتالي تمكّن التيار من حشد أنصاره تجاه التصويت لمرشحيه.
ويضيف عزيز لـ”نون بوست” أن السقوط المدوي لتحالف الفتح كان نتيجة تحالفه مع كيانات سياسية رأى العراقيون فيها (في وسط وجنوب البلاد) أنها ليست جديرة بالثقة، لا سيما أنها تضمُّ شخصيات وكيانات أسهمت بحسب مراقبين في الأحداث الدموية التي رافقت تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ما أدّى إلى خسارة كبيرة.
أما فيما يتعلق بتحالف تقدم الوطني بزعامة الحلبوسي، فيرى الخبير في الشأن السياسي من مدينة الموصل رياض الزبيدي، أن تحالف تقدم استطاع من خلال حملاته الإعلانية وتحالفاته الانتخابية من الحصول على عدد كبير من المقاعد قد يصل إلى 41 مقعدًا بعد إعلان النتائج النهائية.
ويتابع الزبيدي في حديثه لـ”نون بوست” أن تحالف تقدم ورغم حصده عددًا كبيرًا من المقاعد وتبوُّئه المركز الثاني، إلا أنه كان من الممكن أن يحصد أكثر من 50 مقعدًا في العراق، لافتًا إلى أن تحالف تقدم رشّح عددًا كبيرًا من أعضائه في الدوائر الثمانية لمحافظة نينوى وهو ما أفقده الكثير من المقاعد، حيث لم يحصد سوى 8 مقاعد من مجموع 31 مقعدًا في محافظة نينوى.
ويؤكد الزبيدي أن الخطأ ذاته الذي وقع فيه تحالف تقدم في نينوى، حدث في الدائرة السادسة في العاصمة بغداد وتحديدًا في دائرة انتخاب الأعظمية، حيث لم يحصد سوى مقعد واحد من مجموع 4 مقاعد، بينما ذهبت المقاعد الأخرى لمرشّحين ليسوا من أهل المنطقة، إضافة إلى محافظة صلاح الدين التي شهدت الأخطاء ذاتها.
تخبُّط المفوضية
لا يختلف العراقيون على أن مفوضية الانتخابات في هذه الدورة الانتخابية كانت الأكفأ والأكثر جدّية في حماية صناديق الاقتراع وضمان نزاهة الانتخابات، إلا أن هذا لا يعني أن عمل المفوضية كان متقنًا بنسبة 100%.
انتهت مرحلة الانتخابات التشريعية في العراق مع الإعلان عن النتائج الأولية، إلا أنه وبانتهائها بدأت مرحلة أخرى قد تكون أشد صعوبة وأكثر خطورة على الوضع السياسي والأمني.
وفي هذا الصدد، يرى الصحفي أنيس العبيدي في حديثه لـ”نون بوست”، أن المفوضية كانت قد أعلنت قبل الانتخابات بأيام أن النتائج الأولية لجميع المحطات الانتخابية ستُعلن بعد 24 ساعة من موعد إغلاق صناديق الاقتراع، وهو ما لم يحدث حتى الآن، حيث لا تزال مئات المحطات الانتخابية مجهولة النتائج، ما قد يعني إمكانية تغيير واضح في النتائج الأولية للفائزين.
ليس هذا فحسب، إذ يرى العبيدي أن المشكلة الأخرى تكمن في الإعلان عن نسبة المشاركة في الانتخابات، حيث إن المفوضية وعدت بأن تُعلن عن النسبة بعد 3 ساعات على إغلاق صناديق الاقتراع، إلا أنها تأخرت في ذلك لما يقارب الـ 12 ساعة، وهو ما يثير الكثير من علامات الاستفهام، لا سيما أن المفوضية تعتمد على الأجهزة الإلكترونية في العدّ والفرز، وبالتالي كان يمكن لنسبة المشاركة أن تظهر خلال ساعة واحدة فقط من موعد انتهاء التصويت.
أما الباحث السياسي محمد عزيز، فيرى من جانبه أنه ورغم جميع الملاحظات على عمل المفوضية، إلا أنها تعدّ الأفضل والأكفأ منذ أول انتخابات شهدتها البلاد بعد عام 2003، وهو ما يُحسَب لحكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
انتهت مرحلة الانتخابات التشريعية في العراق مع الإعلان عن النتائج الأولية، إلا أنه وبانتهائها بدأت مرحلة أخرى قد تكون أشد صعوبة وأكثر خطورة على الوضع السياسي والأمني في البلاد، لا سيما أن هناك العديد من الكتل والأحزاب السياسية التقليدية عبّرت عن رفضها الواضح للنتائج الأولية، فضلًا عن أن البلاد بدأت منذ إعلان المفوضية عن النتائج في مرحلة التحالفات السياسية التي سيتمخّض عنها التحالف البرلماني الذي سيشكّل الحكومة العراقية المقبلة.