تتصاعد حالة القلق لدى الشارع السوداني بشأن الحفاظ على مكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 وعلى رأسها مدنية الحكم، التي باتت في مرمى التهديد في ظل نزاع النفوذ المكبوت بين المكونين المدني والعسكري، الذي يحاول من خلاله جنرالات الدولة فرض كامل الهيمنة على المشهد.
فشل السلطة الانتقالية في التعاطي مع مطالب الثوار التي كان في مقدمتها تحسين الأوضاع المعيشية، زاد من حدة الاحتقان الشعبي ضد المرحلة برمتها، الأمر الذي ربما يكون فرصة سانحة على طبق من ذهب لأنصار الثورة المضادة وداعميهم في الخارج، وفلول نظام الإنقاذ والمعارضين لمدنية الدولة في الداخل، من أجل توظيف تلك الوضعية لتنفيذ أجندتهم الخاصة والانقلاب على الإرادة الجماهيرية.
“التحالف الاقتصاي لقوى ثورة ديسمبر المجيدة” وهو أحد الأجسام الثورية التي نشأت حديثًا في البلاد (انطلاقته الرسمية كانت في مارس/آذار الماضي) طالب في بيان له بإعادة ترتيب قائمة أولويات السلطة الحاليّة، وأن يكون الاقتصاد على رأس الهرم السلطوي، لما يمثله من أهمية محورية لدى الشارع.
الكيان يرى أن حالة الفوضى التي تحياها البلاد في الآونة الأخيرة، ليست مفاجئة ولا من قبيل المصادفة، بل يعتبرها حاضنة جديدة للفلول والجنرالات للتآمر على الثورة والانقلاب على مكتسباتها، محذرًا من الوقوع في هذا الفخ الذي قد يعيد عقارب الساعة للخلف مرة أخرى.
البرامج الوطنية بدلًا من الإملاءات الخارجية
فشل الحكومة الحاليّة في مواجهة أهم قضايا الشعب ومسببات ثورته وهو الملف الاقتصادي الذي أغرى الفلول واللجنة الأمنية للتطاول على الثورة والتخطيط للانقلاب، بحسب التحالف الاقتصادي، الذي يحذر السلطة الحاليّة من البحث عن أي إنجازات “وهمية” للتغطية على فشلها، معتبرًا أن ذلك يُفقد الثقة بين المواطنين والحكومة.
التحالف في بيانه يقول: “التآمر على الثورة كان واضحًا في السعي لفرض حكم عسكري مدعوم بالفلول، حيث يتم تهيئة الأجواء من خلال مؤامرة (انقلاب المقدمة)، وقفل الموانئ والطرق، وتحريك ظواهر النيقرز، والخلايا الإرهابية، وافتعال حاضنة جديدة من الفلول في مسلسل مفضوح أمام جماهير الشعب التي واجهته من خلال مواكب 30 سبتمبر التي أكدت تمسك الشعب بثورة ديسمبر المجيدة وبالحكم المدني الديمقراطي والوصول بالفترة الانتقالية إلى مراميها، مع التمسك بشعار (الجيش جيش الشعب)”.
مراجعة خلل الحكومة وفشلها وإعادة إستراتيجيتها في التعامل مع الملف الاقتصادي أولًا ثم الملفات الأخرى كالعدالة والملف الأمني هو السبيل الأسرع – بحسب سياسيين – للهروب من الفخ المنصوب للمكون المدني في مرحلته الحاليّة، حيث الاقتراب من ترؤسه للمجلس الانتقالي.
هناك العديد من الحلول والتقارير والخطط المقدمة من القوى الثورية لإنقاذ الاقتصاد السوداني لكنها لم توضع بعد تحت مجهر الاهتمام الرسمي، كوثيقة البرنامج الإسعافي المقدم لرئيس الوزراء في 15 من أكتوبر/تشرين الأول 2019، ومذكرات وبرامج اللجنة الاقتصادية لقوى الثورة، ومقررات المؤتمر الاقتصادي القومي.
معظم تلك المقررات والحلول تستند في مضمونها إلى “حشد الموارد الداخلية الكبيرة وتسخيرها لمعالجة الوضع المعيشي للشعب وتقوية سعر صرف العملة الوطنية وإنعاش الاقتصاد الوطني عبر دعم المواسم الزراعية والإنتاج الصناعي والتعديني والصادرات وتقوية القطاع التعاوني مما يؤدي إلى تحسين الأوضاع المعيشية للشعب بصورة مضطردة”.
ومن ثم فإن تطبيق البرامج الاقتصادية الوطنية المقدمة سابقًا بدلًا من الإملاءات الخارجية التي تستهدف السيادة السودانية هي السبيل الوحيد لاستعادة ثقة الشارع في السلطة مرة أخرى، ودحر مخططات الثورة المضادة وداعميها في الداخل والخارج، وإلا فالأوضاع ستسير نحو المزيد من التدهور وفقدان البلدان لاستقلالها السياسي والاقتصادي، وتوسيع الهوة بين الحكومة والشعب.
وعليه فإن تلك البرامج الوطنية بحاجة إلى دعم قوي من كل قوى الثورة، في مواجهة الاستماتة التي يبديها الفريق الآخر لتمرير الأجندات الخارجية عبر بوابة المساعدات والمنح والإغراءات الاقتصادية المؤقتة التي إن عالجت الوضع مرحليًا لكنها في النهاية ستقود إلى كارثة محققة.
وتنضوي تلك الرؤية على ضرورة تسليم الشركات العسكرية والرمادية والحكومية لولاية المال العام، الأمر الذي قوبل بالرفض أكثر من مرة من جنرالات الجيش، ما ينذر بنشوب مواجهات ساخنة خلال الفترة القادمة، خاصة مع اقتراب موعد تسليم السلطة للمدنيين في نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
المعضلة الكبرى
كان الوضع الاقتصادي المتردي أحد أبرز الأسباب التي قادت إلى الاحتجاجات الجماهيرية الجارفة في ديسمبر/كانون الثاني 2018، التي بدورها أسقطت نظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، لذا كان إصلاح هذا الملف على رأس قائمة تعهدات السلطة الانتقالية.
بعد قرابة عامين ونصف من الإطاحة بنظام الإنقاذ ما زال هذا الملف يواجه عثرات قوية في إصلاحه، وعلى العكس من ذلك شهد بعض الانهيار أكثر مما كان عليه في السابق، إذ دخلت البلاد في آتون أزمات متجددة في الخبز والطحين والوقود وغاز الطهي، بجانب الانهيار المتواصل في سعر العملة الوطنية أمام الأجنبية، وارتفاع مطرد في معدلات التضخم الذي أثر بالطبع على المعدل العام لأسعار السلع، وما كان لذلك من تصاعد وتيرة الاحتقان.
شهدت معدلات التضخم قفزات جنونية نهاية العام الماضي ومنتصف العام الحاليّ، إذ سجلت 269.33% هذا العام مقابل 254.34% العام الماضي، بينما وصل سعر صرف العملية المحلية (الجنيه) في السوق الرسمية أكثر من 400 جنيه للدولار الواحد.
الخبير الاقتصادي عبد الله الرمادي، يضيف إلى تلك التحديات التي تواجه الاقتصاد الوطني السوداني تحد آخر يتمثل في “تسرب موارد البلاد إلى الخارج بفعل التهريب، خاصة تهريب الذهب والمحاصيل الزراعية، وفي مقدمتها الصمغ العربي والسمسم والكركدي”، بحسب تصريحاته لـ”الأناضول”، لافتًا إلى تجاوز الديون الخارجية للسودان حاجز الـ60 مليار دولار بحسب الإحصاءات الحكومية الرسمية.
وكانت بعض القوى الثورية قد قدمت للحكومة في أبريل/نيسان الماضي مذكرة موقعة من 30 حزبًا ومنظمةً واتحادًا، عن الوضع الاقتصادي المتردي وكيفية الخروج منه، لافتة إلى أن السياسات المتبعة حاليًّا إزاء هذا الملف لم تلتزم ببرنامج الثورة، مطالبة “بالتخلي الكامل عن السياسات القائمة على منهج الصدمة الذي كان يتبعه النظام السابق واستبداله ببرنامج الشعب المتمثل في توصيات المؤتمر الاقتصادي القومي الأول ومذكرات الخبراء الاقتصاديين لقوى الثورة وإعادة النظر في موازنة 2021 التي اعتمدت الصرف المتضخم على الأجهزة الحكومية على حساب التنمية”.
المذكرة شددت على ضرورة إعادة النظر في قفزات الزيادات الجنونية في أسعار السلع والخدمات لا سيما في مجالات الطاقة والغذاء، “على أن تتولى الدولة سد الفجوة في الوقود والغاز والقمح والدواء بدلًا من تركها للقطاع الخاص إلى جانب اتباع سياسات تؤدي إلى تقوية سعر صرف العملة الوطنية بدلًا من تخفيضها ودعم الزراعة والصناعة”.
الحفاظ على مكتسبات الثورة
تأتي تلك التحذيرات والتحركات الثورية التي تستهدف عدم الرضوخ للإملاءات الخارجية في التعامل مع الملف الاقتصادي، والانتصار للبرامج الوطنية، وضرورة التعامل معها في أسرع وقت ممكن، في إطار مساعي الحفاظ على مكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول، وقطع الطريق أمام المخططات الانقلابية والتآمرية على الثورة.
في الآونة الأخيرة تصاعدت العديد من المخاوف التي خيمت على المكون المدني جراء نوايا الجنرالات المبيتة بشأن الانقلاب على الوثيقة الدستورية التي تم توقيعها في أغسطس/آب 2019 التي بمقتضاها ستؤول الرئاسة إلى المكون المدني بعد انتهاء فترة المكون العسكري المقرر لها بنهاية الشهر القادم.
التصريحات الأخيرة الصادرة عن رموز المكون العسكري، وعلى رأسهم رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، وعضو المجلس محمد حمدان دقلو “حميدتي” أثارت قلق الشارع السوداني بشأن الانقلاب على مكتسبات الثورة وإزاحة المدنيين عن المشهد الذي يبدو أن العسكر يخطط للاستيلاء عليه شكلًا ومضمونًا وهو ما تعكسه العديد من المؤشرات.
الشهر الأخير شهد العديد من المؤشرات الميدانية التي عززت من حالة القلق من العودة للخلف مرة أخرى، أبرزها تجاهل العسكر لاحتجاجات الشرق المندلعة منذ أكثر من 3 أسابيع رغم ما تحمله من خطورة إستراتيجية، إذ يتحكم هذا الإقليم في أكثر من 70% من حركة التجارة الخارجية للبلاد، هذا بخلاف تأثيرها في حركة نقل المواد النفطية التي تشكل المكون الأبرز لموازنة جنوب السودان، الأمر الذي كان يتطلب تدخلًا فوريًا وسريعًا لإنهاء تلك الفوضى، وهو ما لم يحدث.
ورغم نفي الجنرالات للاتهامات الموجهة لهم من المدنيين إزاء هذا الملف، فإن القيادي في قوى الحرية والتغيير، عادل خلف الله، أعاد التأكيد على وجود علاقة بين حالة الانفلات الأمني التي تشهدها البلاد وموعد انتقال رئاسة مجلس السيادة، إلى المدنيين، ملمحًا في حديث سابق له لـ”القدس العربي” إلى وجود أيادٍ خارجية متورطة في تأجيج الفوضى وزيادة حدة الاحتقان ضد الحكومة المدنية والقوى الثورية، خدمة للعسكر الساعين – وفق تلك المؤشرات – للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة.
وفي الأخير.. فإن الـ45 يومًا المتبقية في ترؤس العسكر للسلطة الانتقالية ستكون فاصلة في رسم مستقبل البلاد خلال المرحلة القادمة، الأمر الذي يضع المكون المدني، والحكومة تحديدًا، في وضعية حرجة، تتطلب إسراع الخطى لطي صفحة الخلافات البينية من أجل استعادة اللحمة مرة أخرى، وإسراع الخطى لتقديم أوراق اعتماد جديدة للمواطن السوداني عبر حلحلة الملفات الحياتية بالنسبة له، وعلى رأسها الملف المعيشي، على أمل عودة ثقة الشارع.