ارتبط اسم دولة مالي – الدولة الواقعة في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية – في مخيلة العديد منا بالحرب والفوضى والاقتتال والجماعات الإرهابية المسلحة والتدخل الفرنسي هناك، أي كل ما هو سلبي، ما جعل حقائق عديدة تغيب عنا.
في هذا التقرير لـ”نون بوست” سنبتعد قليلًا عن أحاديث الحرب والفوضى ونغوص أكثر في تاريخ الماليين وعراقتهم، فضلًا عن جمال دولتهم، وأكثر ما يميزها.
مركز لتعليم الإسلام
كان لمالي الفضل الكبير في انتشار الإسلام غرب القارة السمراء، خاصة في عهد “مملكة مالي” إحدى أكبر الحضارات التي عرفتها إفريقيا، التي كانت تُعرف أيضًا باسم “مملكة المايذنج” أو “الدولة الإمبراطورية”.
امتد حكم إمبراطورية مالي لأكثر من ثلاثة قرون ونصف، كانت البداية سنة 1230 ميلاديًا حين انفصلت عن “الصوصو” الوثنيين، مستغلة الصراع الذي نشب بين المرابطين ومملكة الصوصو، حينها كون رجل يدعى سوندياتا كيتا وهو ملك “كانجابا” الذي عرف تاريخيًا بـ”الملك الأسد”، اتحادًا للقبائل في الوادي الخصيب بأعالي نهر النيجر وجعل جيرانه تحت سيطرته، مؤسسًا إمبراطورية مالي.
امتدت الإمبراطورية، في أوجها، من بلاد التكرور غربًا عند شاطئ المحيط الأطلسي إلى منطقة “دندي” ومناجم النحاس في “تكدة” شرقي النيجر، ومن مناجم الملح في “تغازة” شمالًا إلى “فوتاجالون” ومناجم الذهب في “نقارة” جنوبًا، كما شملت الحدود الجنوبية منطقة الغابات الاستوائية، وكانت مساحتها تقدر بمساحة كل دول غرب أوروبا مجتمعة.
يعود منشأ العلاقة بين الفولانيين واللغة العربية إلى “البُعد العقدي”، فقد كان قدامى الفلان يستخدمون العربية في كل المصطلحات ذات الأبعاد التعبدية لنقلها وإيصالها إلى الجمهور
في تلك الفترة، أصبحت مالي وعاصمتها تمبكتو المركز الرئيسي لتعليم الإسلام ونشره في قارة إفريقيا، فكان الطلاب يأتون إلى جامعة سانكوري المعروفة بـ”جامع تمبكتو الكبير” من جميع أنحاء القارة السمراء للدراسة، وهي عبارة عن جامع كبير يوجد في حي سانكوري بمدينة تمبكتو، تعاقب على إمامته أهل آقيت، ومن هذه الأسرة العلامة أحمد بابا التمبكتي.
أقيمت الصلاة ورُفع الأذان وبنيت المساجد والمنارات، وجلب الملوك الفقهاء، حتى يفقهوا الناس وينشروا بينهم تعاليم الدين الإسلامي، حتى أصبح الإسلام الدين الأبرز في غرب إفريقيا، وما زال الحال على نفسه الآن، فالمسلمون يمثلون 90% من سكان مالي.
في عودته من الحج، عاد الملك مانسا موسى إلى العاصمة تمبكتو حاملًا معه علماء من المدينة المنورة ودمشق وبغداد والقاهرة والأندلس، وأسس جامعات ضخمة، كما أسس مكتبة تمبكتو، حتى حظي اسم مالي شهرة عارمة من الأندلس حتى خراسان لما قدّمته للدين الإسلامي في إفريقيا.
مركز تجارة الذهب
يعتبر الذهب أهم المصادر المعدنية للاقتصاد المالي، فتعد ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا وغانا، هذا بالنسبة إلى الزمن الحاضر، أما في الماضي فقد كانت مالي مركزًا لتجارة الذهب، يأتيها التجار من أنحاء عدّة من العالم.
كما قلنا في السابق فإن مالي سيطرت على مناطق واسعة في غرب إفريقيا ومنها حقول الذهب وطرق القوافل التجارية، ما جعل تجارة الذهب تنمو بسرعة هناك، حتى إن المملكة كانت قائمة عليها وتُعرف بين باقي المماليك والإمبراطوريات بها.
تقول كتب التاريخ إن الإمبراطورية المالية وصلت لأقصي قوتها في عهد مانسا موسى، في عهده سُمّيت العاصمة تمبكتو عاصمة الذهب، حيث أصبحت واحدة من أغنى المدن التاريخية التي كانت تقع على خطوط تجارة الملح والذهب القادمة من جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى، فلم يكن فيها فقيرًا أو محتاجًا، وقد انتشرت فيها المباني الضخمة والقصور التي دللت على الثراء والرخاء الذي تمتع به أهالي هذه المدينة.
كدليل على ثراء الدولة، اصطحب الملك مانسا موسى في رحلة حجه إلى البقاع المقدّسة، مئة جمل من التبر أي من الذهب، وفي كل جمل ثلاثة قناطير بما يقدر بخمسين ألف رطل من الذهب، أخذه من مناجم مالي الضخمة، وذلك للإنفاق على الرحلة، وفق ما ذكر العلامة التونسي ابن خلدون.
في طريقه للحج، أنفق مانسا موسى بسخاء ملفت ومفرط ووزع كل ما كان بحوزته على الفقراء الذين قابلهم في أثناء رحلته، كما أنه قدم مبالغ كبيرة لمدينة القاهرة واشترى العديد من الهدايا التذكارية مقابل الذهب، وبنى قصورًا ومنازلًا في القاهرة لحاشيته.
الفولاني.. كبرى الجماعات السكانية
سكن مالي منذ القديم شعوب عديدة لكن أبرزهم وأكثرهم نفوذًا، شعب زنجي أصيل هو شعب “الماندنجوه” أو “الماندنجو”، ومعناها “المتكلمون” بلغة الماندي، ويطلق على هؤلاء شعب “الفولاني”، ويلقبهم المؤرخون العرب بلقب “مليل” أو “ملل”.
الفُلاّن عبارة عن مجموعة من البدو الرحل، يتنقلون طوال السنة مع أبقارهم ومواشيهم، ويتحركون في مساحات شاسعة لا سيما في مناطق السافانا ومناطق شبة الغاباوية بحثًا عن المراعي الخضراء والماء، ولشعب الفلاّن علاقة كبيرة بالبقر، وتقول أساطير الفُلان إن الله عندما خلق الفُلان لم يخلقهم إلا للبقر، ولم يخلق البقر إلا للفُلان.
تتمتع مالي بجمالها الطبيعي، فقد حباها الله طبيعة خلّابة وإطلالات تأسر النفوس وتؤنس القلوب
يتكلّم الفُلان لغة تُسمى بالبولار، وفي كثير من المناطق الإفريقية تسمى بالفُلا أو بالفُلفلدي، غير أنهم يتمسكون باللغة العربية بحكم الدين ويعتزون بها إلى حد التقديس، ونادرًا ما تجد أحد أبناء هذه المجموعة لا يتكلم اللغة العربية، رغم تمسكهم بأصالتهم وثقافتهم الفُلانية لكنهم يشعرون بأن العربية لغتهم الثانية.
يعود منشأ العلاقة بين الفولانيين واللغة العربية إلى “البُعد العقدي” حيث كان قدامى الفلان يستخدمون العربية في كل المصطلحات ذات الأبعاد التعبدية لنقلها وإيصالها إلى الجمهور، كما كانوا يكتبون تراثهم الفقهي والتاريخي والأدبي بلغة البولارية بحرف عربي.
التراث والطبيعة.. مقومات سياحية مهمة
الجزء الرابع في تقريرنا يتحدّث عن مقومات السياحة المالية، وهي التراث والطبيعة الخلابة، وتبرز مدينة تمبكتو الغنية بالآثار كواحدة من أجمل المدن في مالي، وتشتهر بالعديد من المعالم الثقافية والعلمية، من أهمها مكتباتها العريقة التي تحتفظ بنحو 300 ألف مخطوطة، وتضم صفحات هذه المخطوطات واحدًا من أهم الكنوز الثقافية الإسلامية في القارة الإفريقية.
كما تضم المدينة أيضًا، مجموعة مهمة من المساجد الأثرية مثل “مسجد جينكريبر” (أو جنغراي بير) الذي يقع في أقصى غربها، وقد بناه المعماري والشاعر الأندلسي أبو إسحاق الساحلي، وقد صنفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) هذا المسجد عام 1992 ضمن قائمة التراث العالمي.
يحتوي المسجد على فناء واسع غير مسقوف ومساحة مسقوفة تقوم على خمسة وعشرين صفًا من السواري الطينية الضخمة، أما سقف المسجد فقد تخللته عشرات الفتحات الصغيرة لإنارة المسجد نهارًا وتهويته، ويمكن إغلاق هذه الفتحات عند هطول المطر.
يظهر جمال المسجد في أبوابه ونوافذه الخشبية أيضًا، فتحفها زخارف الأرابيسك الملونة وأشكال معدنية جميلة، كما تبرز مئذنة المسجد الهرمية التي ترى من بعيد شامخة تحرس المدينة، وخاشعة كأنها تراقب مرور الزمن وتقلب القرون وتسبح باسم الخالق.
إضافة إلى “مسجد سيدي يحيى” الذي أسسه عام 1400 الشيخ المختار حماه الله، ويوجد في قلب المدينة القديمة، فضلًا عن المسجد الكبير كوموغويل في مدينة موبتي الذي يعدّ مثالًا لفن العمارة السودانية الساحلية، والمدرج ضمن مواقع التراث العالمية في قوائم اليونيسكو.
ونجد أيضًا الجامع الكبير على ضفة نهر الباني في مدينة جينيه، ويعدّ هذا الجامع أكبر صرح معماري مصنوع من الطوب اللبني في العالم (يسمى الطوب اللبني محليًا فيري)، وتم بناؤه في القرن الثالث عشر باستخدام أسلوب معماري فريد من نوعه كان معتمدًا في أراضي الساحل في غرب إفريقيا، في ذلك الوقت.
إلى جانب تراثها، تتمتع مالي بجمالها الطبيعي، فقد حباها الله طبيعة خلّابة وإطلالات تأسر النفوس وتؤنس القلوب، بين الصحراء الممتدة مدّ البصر والسهول الخضراء والأجواء المُنعشة والمُرتفعات التي تكسوها النباتات والأنهار المتدفقة وشلالات المياه المُنسدلة من ارتفاع كبير.