تشهد مدن وبلدات ريف حلب الشمالي وريف إدلب شمال سوريا، توسُّعًا عمرانيًّا واسع النطاق، عقب موجات من النزوح والتهجير التي شهدتها الأعوام القليلة الماضية، نتيجة سيطرة نظام الأسد على معظم المحافظات السورية التي كانت تخضع أجزاء منها لسيطرة المعارضة، والتي تسبّبت آنذاك في ترك آلاف المدنيين منازلهم مهجَّرين ونازحين إلى شمال سوريا.
بدأ التحول في المدن الريفية يظهر مع بدء تدشين الأبنية السكنية الطابقية، أولها تشاركية بين العائلات، والثانية استثمار رؤوس الأموال في التجارة الرابحة نتيجة الحاجة الملحّة للسكن، بعد فقدان العائلات المهجَّرة الأمل بالعودة إلى الديار مجددًا، وطول فترة النزوح، واستتباب الأمن نسبيًّا على المناطق الحدودية.
بحثًا عن السكن
بدأ أبو مؤيد البحث عن مسكن آمن لأسرته، سأل الرجل عن سعر المتر المربع من الأراضي الصالحة للبناء السكني، حيث قُدِّمت له الكثير من العروض داخل المدن، إلا أن ارتفاع أسعارها دفعه إلى الانتقال نحو القرى الصغيرة، لشراء أرض من أجل بناء منزله عليها.
أبو مؤيد رجل مهجَّر من مدينة دير الزور إلى ريف حلب الشمالي، أثناء سيطرة تنظيم “داعش” على مدينته، يعمل الرجل بنّاءً، ويعيش مع أسرته الصغيرة في منزل للإيجار منذ عام 2016 في مدينة مارع بريف حلب، إلا أن الإيجار المتواصل وفقدان أمله بالعودة إلى دياره دفعاه إلى شراء أرض لبناء منزله عليها، والاستقرار بريف حلب الشمالي.
وقال الرجل خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن العودة إلى منزلنا في دير الزور غير ممكنة في الوقت الحالي، لأن النظام يسيطر عليه، ولذلك حاولتُ أن أعمل بشكل متواصل من أجل شراء أرض لبناء منزل عليها بمساحة 100 متر، حيث اشتريت محضرًا للبناء بالتشارك مع أخي لبنائه بشكل يناسب قدراتنا المادية”.
وأضاف: “إن سعر المتر المربع من أرض البناء محيط مدينة مارع في ريف حلب، يتراوح بين الـ 25 و35 دولارًا أمريكيًّا، بينما في القرى الصغيرة يبلغ سعر المتر 15 دولارًا فقط، وهنا نصف القيمة أي أنه بإمكاني استخدام المال الذي تمَّ توفيره في البناء”.
يحاول النازحون والمهجَّرون إلى الشمال السوري التشارك في بناء المنازل، حيث يتمُّ دفع المال على قطعة أرض بالشراكة ثم يبني الأول منزله في الطابق الأول، والثاني يبني في الطابق العلوي، وذلك للالتفاف على التكاليف الباهظة التي يتمُّ وضعها على السكن، بينما يبني آخرون منازلهم لكنهم يبيعون سطح المنزل إما لقريب وإما لصديق لبناء منزله عليه.
من جانبه، عانى محمد برقومي، رجل نازح من معرة النعمان بعد سيطرة نظام الأسد عليها، كثيرًا من مصاريف الإيجار التي تصل في مدينة أعزاز للمنزل المتوسط إلى 100 دولار أمريكي على الأقل شهريًّا، ما دفعه إلى شراء قطعة أرض صغيرة تمكّنه من بناء منزل متكامل.
قال الرجل خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن الإيجارات مكلفة للغاية، ومع ذلك كنت أواصل دفع الإيجار لصاحب المنزل، لأنني كنت آمل بالعودة إلى ديارنا في معرة النعمان، لكن بعد مضي أكثر من عام، قررت بناء منزل خاص بي بدلًا من دفع إيجارات تذهب سدى”.
وأضاف أنه اشترى أرضًا تبلغ مساحتها حوالي 150 مترًا مربعًا، بقيمة 40 دولارًا أمريكيًّا للمتر الواحد محيط مدينة أعزاز، وبنى عليها مستودعات لمتابعة عمله، ثم قام ببناء المنزل في الطابق الثاني، وأوضح أنه وفّر أجور المنزل التي كان يدفعها وأجور المحال التجارية، واستثمرها ببناء منزل خاص به لا يذهب سدى”.
وتتنوّع مساحة الأبنية وغيرها من التفاصيل الأكثر رفاهية بحسب الإمكانات المادية التي تعيشها الأسر والحاجة الملحّة للمسكن، بالنسبة إلى النازحين والمهجَّرين، وتشكّل الأبنية الطابقية الأكثر انتشارًا داخل المدن لتوفير أماكن أكثر للسكن، إلى جانب الاشتراك في التكاليف.
بحثًا عن الاستثمار
يُعتبر الاستثمار في المنازل السكنية مربحًا للغاية، ما دفع العديد من المستثمرين إلى تأسيس شركات بناء استثمارية، لأن الأبنية السكنية والأسواق التجارية لا تفقد قيمتها على الإطلاق، وفي حال انخفضت نسبة البيع، يتجه المستثمرون إلى فرشها وتخديمها من أجل تحضيرها للإيجار، ضمن عقود سنوية أو شهرية.
أحد العاملين في شركة حمشو للإنشاءات في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي، محمود أبو الفرات، قال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يُعتبر البناء من أفضل أنواع الاستثمارات بريف حلب الشمالي، لأن التكاليف المالية توضع على البناء الطابقي بشكل كامل، وتختصر الكثير من التكاليف الأخرى، ما يحقِّق الربح لأن الأبنية والشقق السكنية مطلوبة”.
وأضاف: “إن نسبة تفوق الـ 75% من الشقق السكنية والأبنية الحديثة، يتمُّ شراؤها من قبل النازحين والمهجَّرين، بينما نسبة لا تتجاوز الـ 25% من الشقق يتمُّ شراؤها من قبل سكان المنطقة، بمعنى أن حاجة الوافدين للسكن أكثر من المقيمين”.
وأكّد: “الناس يختصرون الكثير من التكاليف ويحاولون شراء الشقق السكنية لأنها فعليًّا ذات ثمن رخيص أمام الأبنية السكنية الخاصة، في حال قرروا بناءها بأنفسهم”.
وأوضحَ أن سعر المتر المربع من الأرض الخاصة بالبناء يتراوح ما بين 40 و50 دولارًا أمريكيًّا، ما يعني أن تكلفة البناء السكني بمساحة 100 متر مربع مرتفعة، قد تصل إلى 15 ألف دولار أمريكي إلى جانب ثمن أرض البناء لكن ليست بالمعايير المرغوبة، لأنها فعليًّا تفوق ذلك المبلغ، بينما سعر الشقة السكنية المصمَّمة بشكل ممتاز بمساحة 100 متر مربع يتراوح ما بين 9 آلاف و12 ألف دولار أمريكي.
تبدو الأبنية السكنية الطابقية والمشاريع السكنية على المستوى التجاري قد ازدادت خلال العامَين الماضيَين، لا سيما أنها تركّزت في عدة مدن تتوفر فيها مقومات عديدة تختلف عن الأخرى، ومن أبرز هذه المدن التي نشطت فيها المشاريع السكنية الاستثمارية: سرمدا بريف إدلب، أعزاز والباب وعفرين بريف حلب، بينما مدن مارع وأخترين والراعي وجرابلس يُعتبر الاستثمار التجاري فيها ما زال حديثًا، يقتصر على عدد محدود من المشاريع السكنية.
قال صاحب مكتب عقاري في مدينة الباب بريف حلب الشرقي، ويُدعى عبد الباسط أبو قدور، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “ازداد الاستثمار في الأبنية السكنية خلال الفترة الراهنة، وأصبح يحقِّق أرباحًا جيدة للمستثمرين، ولولا وجود البيع لما استطاع المستثمرون مواصلة أعمالهم”.
وأضاف: “إن معظم الأراضي والعقارات التي تباع، يتمُّ شراؤها من قبل نازحين ومهجَّرين، أي أنهم هم مشتركون أيضًا في عملية الاستثمار في الأبنية السكنية”. وأشار إلى أن سعر المتر المربع من أرض مخصَّصة للبناء يصل إلى 30 دولارًا في مدينة الباب، و40 إلى 50 دولارًا أمريكيًّا محيط مدينة سرمدا، و20 إلى 25 دولارًا أمريكيًّا محيط مدينة جرابلس بريف حلب.
يبدو أن وجود الناس في منطقة محدودة ساهم في توسُّع وتحوُّل العديد من المدن الصغيرة لتكون مدنًا أكبر ذات طاقة استيعابية تفوق قدراتها قبل سنوات، إلى جانب بحث العديد من الأهالي عن مسكن يأويهم، كونهم نازحين لم يستطيعوا العودة إلى ديارهم، إلى جانب التنافس التجاري في العمران بين التجّار ورؤوس الأموال المحليين.
مصادر وأسعار مواد البناء
يستوردُ التجّار المحليون في ريف حلب الشمالي وريف إدلب الإسمنت والحديد من المعابر الحدودية مع تركيا، أبرزها معبر باب الهوى ومعبر باب السلامة، حيث تشكّل هذه المعابر أهمية كبيرة في المساهمة بالتوسُّع العمراني.
ورغم توفُّر معظم مواد البناء، إلا أن أسعارها تفوق المعقول، وقال محمد العلي، تاجر يعمل في استيراد الإسمنت والحديد، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تدخل المواد الرئيسية للبناء من تركيا، بالتعامل مع تجّار أتراك، ويُفرَض عليها جمركة رسمية من قبل الجانبَين على المعابر الحدودية السورية-التركية”.
وأضاف: “وصل سعر الطن الواحد من الإسمنت إلى 75 دولارًا أمريكيًّا، بينما وصل الطن الواحد من الحديد إلى 700 دولار أمريكي، مع ارتفاع ملحوظ بأسعار مواد البناء، إلا أن العمل على المشاريع السكنية بازدياد”.
ويتوفر عدد من مقالع طحن الرمل، ومقالع الحجر، الخاصة بالبناء، ومعظم هذه المقالع تتركز في منطقتَي عفرين والباب شرق حلب، مع عدد محدود من المقالع الخاصة في ريف إدلب، أي المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة.
ورغم التحديات والعقبات التي يمرُّ بها المستثمرون في بناء مشاريعهم السكنية، إلا أنهم يواظبون على مواصلة التجارة في الأبنية السكنية، حتى أنها أصبحت العمل الرائج في الوقت الحالي، بينما حقّقت المشاريع السكنية على الصعيد العملي العديد من المكاسب أبرزها توفير فرص عمل للمئات من العمّال المياومة، الذين يفتقدون لفرص عمل دائمة، دون أن يكونوا محتاجين للناس رغم انخفاض قيمة الأجور التي يحصلون عليها.