قضت محكمة العدل الدولية، الثلاثاء 12 من أكتوبر/تشرين الأول 2021، بمنح الصومال الهيمنة على الجزء الأكبر من منطقة في المحيط الهندي، بعد معركة قضائية مع كينيا بشأن الحدود البحرية بينهما، امتدت قرابة 7 سنوات، إذ أعلنت المحكمة أنه لا توجد “حدود بحرية متفق عليها” ووضعت حدودًا جديدة أقرب لتلك التي تطالب بها مقديشيو.
تبلغ مساحة تلك المنطقة المتنازع عليها قرابة 160 ألف كيلومتر مربع في المحيط الهندي، يرجح أنها غنية بموارد النفط والغاز، فيما أعلنت كينيا وفق بيان لوزارة خارجيتها رفضها لهذا الحكم بزعم سحبها الاعتراف التلقائي باختصاصات المحكمة، وعليه قاطعت جلسات الاستماع في لاهاي.
في المقابل قال المتحدث باسم محكمة العدل الدولية أندري بوسكاكوخين، إن الانسحاب لا يعمل بأثر رجعي ولن يكون له أي تأثير على قضية الصومال، مع الوضع في الاعتبار أن قرارات المحكمة نهائية ولا يمكن الاستئناف عليها، ورغم ذلك ليس لديها أي وسائل ملزمة لتطبيق تلك الأحكام، لكنها في الوقت ذاته يمكنها إحالة أي انتهاكات بشأن قراراتها إلى الأمم المتحدة.
أدى هذا النزاع الحدودي المشتعل منذ عشر سنوات تقريبًا إلى توتير الأجواء بين كينيا والصومال، وصل إلى حد سحب سفراء البلدين، وسط سجال سياسي وإعلامي بخصوص التدخل في الشؤون الداخلية لكلا البلدين، فما قصة هذا الصراع؟ وهل ترضخ نيروبي لحكم المحكمة الدولية وتداعيات ذلك على مستقبل العلاقات بين الجارتين؟
قصة النزاع
يعود النزاع رسميًا على تلك المنطقة الحدودية البحرية إلى عام 1979 حين رسمت كينيا حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة، ومنحت وقتها ثلاث رخص إلى مجموعة إيطالية للتنقيب عن النفط، بمعزل عن الصومال الذي كان يعاني من أزمات داخلية طاحنة غيبته نسبيًا عن مجاراة التمدد الكيني.
استمر نفوذ نيروبي على تلك المنطقة قرابة 40 عامًا حتى وقُعت مذكرة تفاهم مع الحكومة الانتقالية في الصومال عام 2009 لتمديد الجرف القاري الكيني، لكن البرلمان الصومالي عام 2011 ألغى تلك المذكرة، بدعوى عدم أحقية الحكومة الانتقالية دستوريًا في البت بالمسائل المتعلقة بترسيم الحدود البرية والبحرية للبلاد.
وخلال الفترة من 2011 وحتى نهاية 2013 دخل البلدان في سجال سياسي وإعلامي وأمني جراء هذا النزاع، لا سيما بعد الاستقرار السياسي النسبي الذي تحقق للصومال، لكن دون خطوة واحدة للأمام في طريق حلحلة تلك الأزمة، الأمر الذي دفع السلطات الصومالية لتدويل القضية عبر رفعها إلى محكمة العدل الدولية في 2014.
أثارت تلك الخطوة حفيظة النظام الكيني الذي شكك في قدرة الجارة على تحقيق أي انتصار يذكر عبر الذهاب للمنصات الدولية، لكن المفاجأة حين أعلنت المحكمة الدولية في فبراير/شباط 2017، صلاحيتها للنظر في هذا الملف، رغم التوقعات حينها بعدم اختصاص المحكمة وهو ما اعترضت عليه نيروبي لاحقًا.
بلغ التوتر بين البلدين ذروته حين استدعت نيروبي سفيرها في مقديشو، في فبراير/شباط 2019، متهمة الصومال بطرح رخص للتنقيب في حقول الغاز والنفط في المنطقة المتنازع عليها، الخطوة التي قوبلت بالمثل من الجانب الصومالي، لتدخل العلاقات بين البلدين نفقًا مظلمًا، قبل جهود التهدئة التي بذلت لاحقًا تجنبًا لأي تصعيد من شأنه أن يقود إلى طريق مسدود.
التوجه للعدل الدولية كان سلوكًا مرفوضًا من كينيا التي أعلنت في مارس/آذار الماضي توقفها عن حضور جلسات المحكمة التي رفضت مماطلات نيروبي المتواصلة لتأجيل القضية وتسويف جلساتها، وخلال جلسة النطق بالحكم التي كانت بالأمس لم يحضر ممثل كينيا، سواء داخل المحكمة أم عبر تقنية الفيديو عن بعد.
المماطة الكينية استمرت لما بعد الحكم، فقد أعلنت رفضها لقرار المحكمة الدولية، بزعم عدم الاعتراف بها كجهة اختصاص، فضلًا عن عدم حضور ممثلها جلسة النطق، لكن المحكمة رفضت لغة التسويف النيروبية مؤكدة نفاذ حكمها واختصاصها بالنظر في تلك القضية، وأن الانسحاب الكيني لا يمكن العمل به كأثر رجعي، وعليه فهو غير قانوني ولا يؤثر في مسار الحكم أو تنفيذه.
عشر سنوات من التصعيد
منذ لجوء مقديشيو إلى تدويل النزاع والعلاقات مع نيروبي تشهد موجات من المد والجزر بين الحين والآخر، تسخينًا وتبريدًا حسب مسار القضية داخل أروقة المحكمة الدولية، وسط تحرشات سياسية وعسكرية بين البلدين وصلت إلى اتهام الصومال لجارته بالتدخل لإعادة رسم خريطته السياسية والتأثير على مكوناته وخيارات شعبه.
ورغم الحجج القانونية القوية التي يملكها الصومال في قضية نزاعه الحدودي البحري، فإن كينيا كانت تراهن عبر سياسية التسويف على مد أمد الأزمة لما بعد الانتخابات الرئاسية الصومالية التي تأجلت أكثر من مرة بسبب الأوضاع الأمنية المضطربة وفيروس كورونا المستجد (كوفيد 19).
وطيلة السنوات الماضية مارست نيروبي العديد من وسائل الضغط على مقديشيو في محاولة لإثنائها عن خطوة التدويل، حسبما أشار شافعي معلم، الأكاديمي في العلوم السياسية، الذي أشار إلى شروع كينيا في سياسات معادلة للصومال منذ إلغاء الأخير مذكرة إعادة ترسيم الحدود البحرية مع الأولى في 2011.
واستعرض الخبير في العلوم السياسية أوجه الضغوط التي مارستها كينيا على جارتها، أبرزها “استخدام ورقة اللاجئين الصوماليين في مخيمات “داداب” (في كينيا)، وتدخل عسكري كيني في الأراضي الصومالية عام 2011، بذريعة محاربة الإرهاب، لفرض سياسة أمر واقع على مقديشو، وتنفيذ مذكرة ترسيم الحدود التي تصب لصالحها” حسب تصريحاته لـ”الأناضول“.
يذكر أن كينيا تشارك ضمن بعثة الاتحاد الإفريقي لحفظ السلام في الصومال بـ3600 جندي، يتمركز غالبية هؤلاء في منطقة جوبالاند المتاخمة لكينيا، وتتمحور مهمتهم الأساسية في مواجهة عناصر حركة الشباب الصومالية، لكن مقديشيو تشكك في الدوافع الحقيقية وراء هذا الوجود.
هذا بخلاف طرح كينيا على شركات أجنبية ثماني قطاعات بحرية للتنقيب عن النفط في 2012، الأمر الذي اعتبره الصوماليون سرقة علنية لثروات بلادهم وتهديدًا صارخًا لسيادتهم البحرية، وهي الخطوة التي دفعت الصومال لإحالة ملف النزاع إلى محكمة العدل الدولية، وهو ما اعتبرته نيروبي انتهاكًا لسيادتها وردت بخطوات تصعيدية لاحقة.
وفي السياق ذاته تتهم مقديشيو السلطات النيروبية بالتدخل في الانتخابات المزمع إقامتها قريبًا لتمرير أجندة سياسية ما، تخدم الأهداف الكينية، وذلك عبر حشد المعارضة الصومالية في أراضيها، لعقد اجتماعات معادية للحكومة الصومالية، لتقويض أركان النظام الحاليّ، وهو ما تنفيه نيروبي.
وتعد استضافة كينيا لرئيس صوماليلاند موسى بيحي عبدي، منتصف ديسمبر/كانون الأول 2020، الفتيل الذي أشعل الأزمة بين البلدين، فبعد يوم واحد فقط من تلك الزيارة أعلنت الحكومة الصومالية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع كينيا، ممهلة الدبلوماسيين الكينيين لديها 7 أيام لمغادرة البلاد، داعية في بيان لها جميع الدبلوماسيين الصوماليين في كينيا إلى العودة لبلادهم.
الضغوط التي تعرض لها الصومال على يد كينيا عبر عنها الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو، في خطاب متلفز أعقب صدور الحكم، قائلًا: “منذ انتخابي، واجهنا ضغوطًا سياسيةً ودبلوماسيةً وأمنيةً واقتصاديةً من القيادة الكينية”، مضيفًا أنه على نيروبي “أن ترى في قرار المحكمة فرصةً لتقوية العلاقة بين البلدين”.
مستقبل العلاقات بين البلدين إلى أين؟
محكمة العدل الدولية وإن كانت لا تملك أدوات الضغط الكافية لإلزام نيروبي بتنفيذ حكمها الصادر مؤخرًا إلا أن القرار في حد ذاته يعد انتصارًا كبيرًا للدبلوماسية الصومالية في مواجهة المماطة الكينية، الأمر الذي يتوقع معه ردة فعل محتملة من الجانب الكيني الرافض لهذا الحكم.
الرئيس الصومالي وحكومته استبقوا رد الفعل الكيني بالإعراب عن أملهم في استعادة العلاقات بين البلدين عافيتها مرة أخرى عقب صدور هذا الحكم الذي يجب أن يكون أرضية مشتركة لفتح صفحة جديدة تقوم على أساس احترام السيادة المتبادل وعدم التدخل في شؤون الآخرين.
التزام نيروبي بالحكم سيفقدها مئات الملايين كانت تنعش خزائن البلاد بها جراء تأجير تلك المنطقة المتنازع عليها لشركات التنقيب الأجنبية، ومن ثم فالتنازل عنها بهذه السهولة أمر مستبعد في الوقت الراهن، وعليه فمن الوارد استمرار مظاهر الأزمة بين الجانبين في الفترة المقبلة.
وعلى الجانب الآخر، فالأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الدولة الصومالية ستدفعها بكل قوة للدفاع عن ثرواتها النفطية المهدرة في مياه المحيط، ومن ثم فالتصعيد – حال عدم تنفيذ كينيا لحكم العدل الدولية – للأمم المتحدة ومجلس الأمن سيكون التوجه الأقرب للصوماليين.
معطيات الأزمة ودورها في رسم مستقبل العلاقات بين البلدين ستعتمد بشكل أكثر وضوحًا على الانتخابات الصومالية المقبلة، فعلى وقع نتائجها يمكن قراءة المشهد بصورة أعمق، فصعود إدارة جديدة في مقديشيو ربما يقود البلدين نحو مسار آخر من العلاقات، أما استمرار فرماجو في الحكم يعني بقاء الوضع على ما هو عليه حتى إشعار آخر، ما لم تتدخل الأمم المتحدة لإجبار نيروبي على الرضوخ لقرار المحكمة الدولية، وهو الأمر الذي سيزيد من سخونة التوتر بين البلدين أكثر من مظاهر التبريد الوهمية.