يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتحسين علاقات بلاده مع الجزائر بعد “شطحاته” الأخيرة التي أثرت على العلاقات بين البلدين، فالتهجم على الجزائر لم يؤت أكله، لذلك يرى ماكرون الآن أن السبيل لتحقيق أهدافه هناك يمر عبر تحسين العلاقات، فالتصعيد سيكون أثره كبيرًا على باريس، لكن السؤال المطروح الآن: ماذا يريد ماكرون من الجزائر؟
تراجع بعد تصعيد
يبحث المسؤولون في باريس عن طريقة لإعادة المياه إلى مجاريها في علاقة بلادهم بالجزائر، بعد التوترات الكبيرة التي عرفتها مؤخرًا نتيجة تصريحات ماكرون “غير المسؤولة”، في هذا الشأن جدد وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان تأكيد “الاحترام الفرنسي الراسخ للسيادة الجزائرية”.
وقال لودريان أمام الجمعية الوطنية الفرنسية: “مؤخرًا جدد رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون التأكيد على احترامه الكبير للشعب الجزائري، وهذا الأمر يعني بالتأكيد الاحترام الراسخ للسيادة الجزائرية”، وأضاف “يعود للجزائريين ولهم وحدهم أن يقرروا مصيرهم وتحديد أطر خياراتهم ونقاشاتهم السياسية”.
قبلها بأيام، شدد ماكرون في مقابلة مع إذاعة “فرانس إنتر”، على ضرورة أن يستمر العمل مع الجزائر، آملًا أن تهدأ التوترات الدبلوماسية الحاليّة قريبًا، كما عبر ماكرون عن ثقته بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مؤكدًا أن العلاقات معه “ودية فعلًا”.
هذه التصريحات المتتالية لتهدأة الأوضاع، جاءت بعد تصريحات وقرارات فرنسية أثرت سلبًا على العلاقات الفرنسية الجزائرية، ففي 28 من سبتمبر/أيلول 2021، قررت فرنسا تشديد شروط منح تأشيرات الدخول إلى مواطني المغرب والجزائر وتونس، بعدها بيوم، استدعت الخارجية الجزائرية سفير فرنسا فرانسوا غويات.
يخشى ماكرون أن يُفقده توتر العلاقات مع الجزائر أحد أبرز الحلفاء في المجال الأمني بالقارة الإفريقية
كما ادعى ماكرون عند استقباله أحفاد “حركي” (عملاء جزائريون عملوا مع فرنسا) في 30 من سبتمبر/أيلول 2021، عدم وجود أمة جزائرية قبل استعمار بلاده للجزائر، بعدها بيومين استدعت الرئاسة الجزائرية سفيرها لدى باريس محمد عنتر داوود للتشاور.
ماكرون لم يكن يتوقع الرد الجزائري القوي، فبالإضافة إلى استدعاء السفراء، حظرت السلطات الجزائرية على الطائرات الحربية الفرنسية التحليق في أجوائها حسبما أعلن ناطق باسم هيئة الأركان العامة الفرنسية، وتحتاج المقاتلات الفرنسية إلى عبور الأجواء الجزائرية لبلوغ منطقة الساحل والصحراء.
كما أقدمت الجزائر على اتخاذ خطوات لتقوية العلاقات مع الحكومة المالية، في وقت تعرف فيه العلاقات المالية الفرنسية توترًا كبيرًا، إذ زار وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، باماكو والتقى المسؤولين الماليين في خطوة اعتبرت دعمًا للحكومة المالية في وجه الضغوطات الفرنسية.
أهداف اقتصادية وأمنية
الهدف من وراء تحركات ماكرون تجاه الجزائر إن كانت تصعيدية أو محاولات تهدئة تتمثل في الحفاظ على المصالح الاقتصادية الفرنسية في هذا البلد العربي المليء بالثروات الطبيعية، فضلًا عن الحفاظ على التعاون الأمني بينهما.
يرى ماكرون أن الجزائر عقب الحراك الشعبي الذي أجبر الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة من منصبه، بدأت في خسارة الامتيازات التي كانت تتمتع بها في الجزائر، لذلك على الدبلوماسية الفرنسية أن تزيد ثقلها لتعديل الكفة مجددًا.
وتخشى باريس أن تخسر السوق الجزائرية، إذ تبلغ الاستثمارات الفرنسية المباشرة في الجزائر 2.5 مليار دولار حتى نهاية 2017، حسب بيانات الوكالة الجزائرية لتطوير الاستثمار، وتتمثل هذه الاستثمارات بـ500 مشروع تشمل قطاع الطاقة والصناعات، إضافة للخدمات العامة، وينخرط فيها 400 شركة، وفق المصدر ذاته.
#الجزائر تتجه لمراقبة فرنسا اقتصادياً وسياسياً على خلفية تصريحات ماكرون اللامسؤولة، وهذا ليس غريباً على أبناء بلد مليون شهيد، بلد الأبطال والرجال الشجعان، الذين طردوا فرنسا من أرضهم بكل جدارة واستحقاق، فرجعت صاغرة خائبة مدحورة مذلولة، كل أفريقيا معكم ضد أي سياسة استفزازية فرنسية pic.twitter.com/R3gBpgOWsI
— ?? محمد الأمين سَوادُغُو (@Mouhamed_sawa) October 12, 2021
تتأكد هذه الخشية إذا علمنا أن فرنسا مؤخرًا بدأت بالفعل في خسارة العديد من الامتيازات في هذا البلد العربي، إذ أنهت سلطات الجزائر عقود العديد من المؤسسات الفرنسية في بلادها، على غرار شركة “راتيبي باريس” المكلفة بتسيير مترو الجزائر، وأيضًا مجمع “سيوز” الفرنسي، الذي كان يسير المياه في الجزائر العاصمة.
فضلًا عن إفشال الجزائر محاولة شركة توتال الفرنسية للطاقة، الاستحواذ على أصول شركة “أناداركو” الأمريكية بالجزائر، التي انتقلت ملكيتها لمجمع “أوكسيدنتال بيتروليوم” المعروف بـ”أوكسي” (أمريكي)، بفضل ممارسة حق الشفعة.
خسارة المزيد من الامتيازات في الجزائر، من شأنها أن تؤثر سلبًا على الاقتصاد الفرنسي المتعثر، إذ تعاني باريس أزمة اقتصادية حادة نتيجة أسباب عدة على رأسها تداعيات جائحة كورونا وحملات مقاطعة لسلعها وتراجع الاستثمار، فقد سجل الاقتصاد الفرنسي سنة 2020 أكبر ركود منذ الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، مع تراجع إجمالي الناتج الداخلي بنسبة 8.3%، بحسب تقديرات رسمية.
فضلًا عن الخسائر الاقتصادية، يخشى ماكرون أن يُفقده توتر العلاقات مع الجزائر أحد أبرز الحلفاء في المجال الأمني في القارة الإفريقية، فخسارة حليف كالجزائر يعني خسارة معلومات استخباراتية مهمة في إفريقيا، ما سيؤدي إلى حدوث خلل في الإستراتيجية الأمنية الفرنسية داخليًا وخارجيًا.
قديمًا كانت فرنسا مستحوذة على أغلب ثروات الجزائر، لكن في السنوات الأخيرة نوعت هذه الأخيرة من شركائها التجاريين والاقتصاديين للخروج من الاحتكار الفرنسي
كما تأمل فرنسا في جر الجزائر إلى منطقة الساحل للمسك بزمام الأمور وتعويضها هناك، بعد سنوات من الامتناع عن الاندفاع إلى أي عمل عسكري في المنطقة، بعد أن قررت باريس سحب العدد الأكبر من قواتها العسكرية المتمركزة في المنطقة نتيجة أسباب عديدة.
بعد تطاول ماكرون على الجزائر وتاريخها ضمن حملته الممنهجة على المسلمين في فرنسا والعالم
أعلنت الجمعية العامة للمقاولين الجزائريين، أن عشرات الشركات في الجزائر بدأت بمقاطعة واردات 500 شركة فرنسية#مقاطعه_المنتجات_الفرنسية350 pic.twitter.com/PbwEQcboTC
— أخبار العالم الإسلامي (@muslim2day) October 11, 2021
توتر العلاقات بين البلدين لن يخدم التوجه الفرنسي، لذلك تأمل باريس في تهدئة العلاقات مع الجزائر، فهي تراهن عليها في منطقة الساحل، في ظل ضعف جيوش المنطقة وعدم قدرتهم على فرض الأمن والسلام هناك، وكانت الجزائر لسنوات تغلب دعم الحكومات والجيوش وأجهزة الأمن في الدول الجارة، ومساعدتها من أجل حماية أراضيها وفرض الأمن، على اللجوء إلى التدخل العسكري كحل لمواجهة المشاكل الأمنية هناك.
خوف من خسارة النفوذ
لا يخشى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خسارة الامتيازات الاقتصادية والتعاون الأمني فقط مع الجزائر، فذلك سيكون مدخلًا لخسارة نفوذ باريس في تلك الدولة المطلة على السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.
ليس هذا فقط بل خسارة نفوذ باريس في المنطقة ككل، فالجزائر بلد محوري هناك، وله تأثير كبير على أغلب دول المنطقة، لذلك فإن مسؤولي الإليزيه يبحثون عن السبل الكفيلة لإعادة القطار لمساره لتجنب العواقب الوخيمة لخروجه عن السكة.
لكن المتأمل لتطورات الأحداث، يرى أن فرنسا بالفعل بدأت في خسارة نفوذها في الجزائر، فالسلطات الجزائرية أصبحت منفتحة أكثر من ذي قبل على شركات مع دول جديدة على غرار تركيا وروسيا، وهو ما يفسر ارتفاع حجم الاستثمارات التركية في الجزائر لتلامس سقف 5 مليارات دولار، متجاوزة الاستثمارات الفرنسية.
وقبل يومين وقعت الشركة الجزائرية للمحروقات “سوناطراك” 3 عقود لتطوير مشروع بتروكيماويات بمدينة جيهان التركية تكلفته 1.4 مليار دولار، بحصة 66% لـ”رينيسانس هولدنغ” التركية و34% لـ”سوناطراك”.
إلى جانب ذلك نمت العلاقات الجزائرية الروسية في الفترة الأخيرة، خاصة أن موسكو تزود الجزائر بنحو ثلثي السلاح الذي تستورده، وتخشى فرنسا أن تكون الجزائر مطية روسيا للتوسع في منطقة الساحل، خاصة بعد التقارب بين باماكو وموسكو مؤخرًا.
كما برزت مؤخرًا، الصين كلاعب مهم في الجزائر التي انضمت بشكل رسمي إلى طريق الحرير الصيني المعروف بـ”مبادرة الحزام والطريق” في يونيو/حزيران 2019، وبرزت الصين هناك عبر استثمارات ضخمة، فتبلغ قيمة الاستثمارات الصينية المباشرة بالجزائر قرابة 10 مليارات دولار.
كما سبق للصين الظفر بصفقات كبرى بالجزائر، على غرار إنجاز فندق شيراتون وجامع الجزائر وميناء الحمدانية بمحافظة تيبازة بتكلفة تجاوزت مليار دولار، والطريق السيار على مسافة 1216 كيلومترًا بتكلفة 19 مليار دولار، وتوسعة مطار الجزائر الدولي بقيمة 650 مليون دولار، واستغلال منجم الحديد بغار جبيلات بمحافظة تندوف، فضلًا عن مئات آلاف الوحدات السكنية.
قديمًا كانت فرنسا مستحوذة على أغلب ثروات الجزائر، لكن في السنوات الأخيرة نوعت هذه الأخيرة من شركائها التجاريين والاقتصاديين للخروج من الاحتكار الفرنسي، فبرزت قوى جديدة هناك، ما أقلق باريس التي تخشى خسارة جديدة في إفريقيا بعد الصفعات العديدة التي تلقتها.