بعد أيام من اتهام الرئيس التونسي لمعارضيه بالسعي لتأجيل القمة الفرنكوفونية، قررت باريس تأجيل القمة التي كنت مقرَّرة في جزيرة جربة إلى العام المقبل، الأمر الذي أرجعه مراقبون إلى تراجع الحقوق والحريات في ظل التدابير الاستثنائية للرئيس قيس سعيّد، معتبرين أن ذلك يشكّل انتكاسة جديدة للدبلوماسية التونسية.
جاء القرار الفرنسي مباشرة بعد ساعات من اتهام الرئيس قيس سعيّد لمعارضيه بالتحريض ضد الدولة، والسعي لإفساد العلاقة مع فرنسا ودفعها لإلغاء القمة الفرنكوفونية، حيث كشف سعيّد، على هامش أداء حكومة نجلاء بودن اليمين الدستوري، أن هناك تونسيين (لم يسمِّهم) اتجهوا إلى بعض العواصم وطالبوها بعدم عقد القمة الفرنكوفونية في جزيرة جربة بتعلّة أن تونس غير آمنة، مشيرًا إلى أن هذه التدخُّلات وصلت إلى أكثر من 50 دولة.
قيس سعيد يتهم المرزوقي انه افسد القمة. اذا كان المرزوقي اقنع 50 دولة فإنّه إذًا أجدر منك وإذا صدّقوه فإنّه إذًا اصدق منك
— Hdhili Jalloul (@JalloulHdhili) October 12, 2021
تأجيل القمة
من المعلوم أن تنظيم القمة الفرنكفونية في تونس تمّت برمجتها منذ عهد الباجي قايد السبسي، وحُدِّد موعدها لاحقًا في شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2020، إلا أنّه وقع تأجيلها في مرة أولى بفعل جائحة كورونا، ومؤخرًا نتيجة عدم الاستقرار السياسي وتبعات إجراءات 25 يوليو/ تموز التي أقرّها الرئيس قيس سعيّد.
مؤخرًا، أعلن ممثل تونس في الهيئة الدائمة لمجلس رابطة الدول الفرنكوفونية، سليم خلبوص، أنّ الهيئة قرّرت تأجيل مؤتمر القمة العالمي للفرنكوفونية في جربة بتونس لمدة سنة، مع الحفاظ على مكان انعقادها، معتبرًا أن هذا الأمر يمثّل “انتصارًا للدبلوماسية التونسية في الدفاع عن مصالح بلادنا”.
إعلان المسؤول التونسي جاء بعدما راجت أخبار بشأن إلغاء القمة بسبب الأزمة السياسية التي تعيشها تونس منذ إقرار التدابير الاستثنائية في 25 يوليو/ تموز الماضي، وتصريحات الرئيس قيس سعيّد بوجود شخصيات تعمل على تعطيل تنظيم القمة.
الأسباب
بعيدًا عن تصريحات الرئيس التونسي، واتهاماته لشخصيات تونسية باستغلال الظرف السياسي والأزمة التي تعيشها البلاد، يُمكن القول إن قرار تأجيل القمة الفرنكفونية يعود لعوامل داخلية تهمُّ التطورات الحاصلة في تونس والقدرات اللوجستية والفنية، وأخرى خارجية مرتبطة بالمنظِّمين.
داخليًّا، رغم حرص الرئيس التونسي قيس سعيّد على طبع انقلابه الدستوري بغلاف شعبوي، وتصويره على أنه مقبول لدى جزء كبير من التونسيين، إلا أن المظاهرات الأخيرة للمعارضين لإجراءاته كشفت زيف هذه الادّعاءات وبطلانها، ما يعني أن الوضع السياسي غير مستقرٍّ وتونس غير مهيَّأة لاستقبال هذه القمة.
من جهة أخرى، يبدو أن عجز تونس البالغ وتقصيرها الفادح في الجانب الفني واللوجستي كانا سببًا في تأجيل تنظيم القمة والتحضير لها، خاصة أن الرئيس قيس سعيّد هو من اختار انعقادها في جزيرة جربة، رغم افتقار هذه المدينة إلى البنية التحتية القادرة على احتضان مثل هذه الفاعليات على مستوى رفيع.
فمن المعلوم أنّ تونس تمرُّ بأسوأ أزمة اقتصادية ومالية، أي أنها غير قادرة على ضخّ موارد كبرى لتنظيم هذه التظاهرة الدولية، خاصة أن جزيرة جربة تفتقد إلى المقومات والمرافق الضرورية، وتركيزها يتطلب وقتًا وجهدًا وأموالًا طائلة، على عكس العاصمة تونس التي تمتلك بنية تحتية ولوجستية متطوِّرة مكّنتها من تنظيم قمة المعلومات عام 2005.
هنا يكمن سوء تصرف أصحاب القرار في تونس، وخاصة الرئيس قيس سعيّد على اعتبار أنه المشرف شخصيًّا على الاستعدادات والتحضير، فتحديد العاصمة كمقرٍّ لتنظيم القمّة بدلاً من جزيرة جربة كان ليوفِّر الكثير من الجهد والوقت، خاصة أن تقارير سابقة تحدثت عن بطء نسق التحضيرات لأسباب مالية.
في السياق ذاته، وخلافًا لما يروِّج له قيس سعيّد منذ مدة من أن أطراف سياسية، في إشارة إلى الحكومة السابقة برئاسة هشام المشيشي، تعمل على عرقلة تنظيم القمة، فإن التأجيل كان لأسباب تقنية ومادية، وهو ما ألمح إليه الرئيس في شهر يونيو/ حزيران خلال استقباله الأمينة العامة للمنظمة الفرنكوفونية لويز موشيكيوابو، بالقول إن تونس ملتزمة بإنجاح هذا الاستحقاق الدولي الهام الذي سيساهم في تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي في الفضاء الفرنكوفوني، وذلك رغم صعوبة الظرف المالي والصحّي.
تأجيل القمة يمثّل فشلًا ذريعًا جديدًا للرئيس التونسي الذي استأثر بتنظيم المؤتمر، وعلّق منظومة الصفقات العمومية، ولجأ للتعاقد بالمراكنة لإنقاذ قمة مستحيلة، وفقدَ حتى المبادرة بالمطالبة بالتأجيل.
أمّا السبب الثاني، فيتلخّص في تداعيات إجراءات 25 يوليو/ تموز التي أقرّها الرئيس التونسي، فالتدابير الاستثنائية وتجميد أعمال البرلمان وتجميع السلطات وإلغاء العمل بدستور 2014 وتعويض القوانين بالمراسيم الرئاسية، دفعت لتحويل صورة تونس من مهد الربيع العربي إلى دولة حادت عن المسار الانتقالي، وبالتالي إنها لدى أغلب أعضاء المنظمة الفرنكفونيّة “دولة غير ديمقراطيّة”، وحضور قادتها في القمة سيمثّل إحراجًا كبيرًا أمام الرأي العام الدولي.
على الجانب ذاته، كشف الصحفي الكندي إيتيان فورتين غوتيي في تغريدة على حسابه الشخصي بموقع تويتر، أن بلاده لم تدعم تنظيم القمة الفرنكفونية بتونس، ونشر مراسلةً تلقّاها من وزير الخارجية مارك غارنو، أوضح من خلالها موقف كندا من تنظيم القمة التي كان من المزمع عقدها هذا العام في تونس.
Pourquoi le Canada n’appuyait plus un Sommet de la Francophonie en Tunisie cet automne? La réponse du cabinet du ministre @MarcGarneau ne peut pas être plus claire. Et la pandémie ou les retards d’organisation ne sont pas dans la liste.#francophonie #tunisie pic.twitter.com/goIZz4aXEm
— Étienne Fortin-Gauthier (@EtienneFG) October 13, 2021
وقال الوزير مارك غارنو: ”ما زلنا نشعر بالقلق إزاء الوضع السياسي في تونس، ولا سيما عدم وجود سقف زمني للعودة السريعة إلى الإطار الدستوري الذي يلعب فيه البرلمان دورًا مهمًّا”، مضيفًا أن كندا قد ”أعربت عن قلقها إزاء حالة تعليق المؤسسات الديمقراطية في تونس”.
أشارت التقارير الغربية المتنوِّعة في وقت سابق إلى أن تونس تعرف منذ 25 يوليو/ تموز تراجعًا في نسق الحريات، مقابل تسارع محاولات الرئيس قيس سعيّد للاستئثار بالحكم عبر حزمة من القرارات غير الدستورية، وأهمها تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وتعليق العمل بالدستور، وهي إشارات تلقتها الدول المنتمية إلى المنظمة الفرنكفونية ما دفعها إلى التراجُع عن المشاركة في القمة.
ونشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية افتتاحيةً في وقت سابق تحت عنوان ”انجراف الرئيس التونسي الاستبدادي”، جاء فيها أن الحدث (الانقلاب) ليس كارثة للإرث الديمقراطي في تونس فحسب، وإنما الأمر أيضًا بالنسبة إلى العالم العربي قاطبة، إذ شكّل النموذج التونسي بصيص أمل في معاقل الدكتاتوريات والحروب الأهلية، لكن هذه المنارة انطفأت.
لوموند: “الانجراف الاستبدادي المقلق للرئيس التونسي قيس سعيد” https://t.co/Qo9G8SWi45 pic.twitter.com/IOrEZejWRs
— مونت كارلو الدولية / Monte Carlo Doualiya (@MC_Doualiya) September 26, 2021
ما علاقة فرنسا؟
يأتي التأجيل أيضًا لأسباب خارجة عن نطاق دائرة الفعل التونسي، جرّاء العلاقات بين فرنسا وكل من الجزائر والمغرب (العضوان في الفرنكفونية) التي عرفت توترًا في الفترة الأخيرة، وذلك منذ أن قررت باريس مؤخّرًا تقليص عدد التأشيرات الممنوحة لمواطني البلدَين، بالإضافة إلى تصريحات للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بشأن تاريخ الجزائر، ردّت عليها الرئاسة الجزائرية بسلسلة إجراءات، منها استدعاء سفيرها في باريس.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن القمة الفرنكفونية تمَّ تأجيلها لظروف خاصة بالجانب الفرنسي والتغيُّرات الإقليمية والدولية، خاصة بعد استبعادها من الحلف أوكوس الجديد الساعي للوقوف في وجه التمدُّد الصيني الروسي، فمن المحرج ألّا تكون القمة في مستوى آمال باريس.
من جهة ثانية، وإن كانت فرنسا تدعم انقلاب قيس سعيّد ضمنيًّا وسرًّا، إلا أنها وجدت نفسها محرجة في حال عقدت قمة تجمع فيها الانقلابيين من مالي وغينيا وساحل العاج وتشاد وتونس، وسط مقاطعة وانسحاب الغابون ومدغشقر، واستحالة حضور كندا.
تأجيل القمة الفرنكفونية بسنة هو أفضل الحلول التي تحفظ ماء وجوه كل الأطراف، فهي فرصة لتونس للتدارك واستئناف المسار الديمقراطي، ولباريس لرفع الحرج عن الإليزيه بقيادة ماكرون حتى لا تخسر آخر معاقل نفوذها الدولي، وهو إفريقيا.