ليس هناك من ينكر أن العادات والتقاليد -أو ما يُعرف أيضًا باسم النظام الأبوي- قد أقيمت لصالح الرجال، ومع ذلك فإن المعايير والتوقعات التي يضعها المجتمع للأفراد بناءً على الجنس صارمة بالنسبة إلى الرجال كما هي بالنسبة إلى النساء، كما يمكن أن تكون عواقب هذه الممارسات وخيمة على الطرفين.
ورغم استفادة الرجال من المجتمعات الأبوية على السطح، من الواضح أن العيوب تفوق المزايا بكثير، ولحسن الحظ هناك حركات عديدة حول العالم الآن تكرّس جهودها لتفكيك النظام القائم وإحلال نظام جديد يراعي الإنسان ويحترم كرامته، بغضّ النظر عن جنسه وجميع أحواله.
الصحة النفسية
وفقًا لبحث أجراه عالم الاجتماع النرويجي وخبير دراسات الرجال أويستن غولفاغ هولتر، هناك علاقة مباشرة بين حالة المساواة بين الجنسَين في بلد ما ورفاهية الرجل، وتُقاس الرفاهية بعوامل مثل الصحة العقلية والخصوبة والقابلية للانتحار. الرجال والنساء أيضًا في بلدان أكثر مساواة بين الجنسَين، أقل عرضة للطلاق أو الاكتئاب أو الموت نتيجة العنف.
ويجادل البعض بأن المعدل المرتفع للانتحار الكامل للرجال، أي محاولة الانتحار التي تفضي إلى الموت، يمكن إرجاعه إلى تقديس مبادئ الذكورة السامة، ما يجعل الرجال أقل عرضة لطلب المساعدة عند مواجهة المشاكل النفسية والعاطفية.
فقد وجد الباحثون أنه في حين أن عدة عوامل، مثل تكلفة رعاية الصحة العقلية على سبيل المثال، تمنع الرجال من الوصول إلى الدعم النفسي، إلا أن هناك سببًا آخر: الذكورة السامة، أو الصور النمطية الضارة حول ما يعنيه أن تكون رجلًا.
لا يمكن الجزم بأن التعامل مع مفهوم الذكورة بمرونة أكبر يساعد الرجال العاطلين عن العمل بالحصول على وظيفة مثلًا، أو حل أي مشكلة حياتية أخرى تؤدّي إلى الضغط النفسي، ولكنه يساعدهم على التعامل مع الضغط بهذه الحالة بشكل أفضل.
فالحياة خارج الأطر الضيقة التي يفرضها المجتمع الأبوي على الرجال، تعطيهم طيفًا أوسع من الأدوار التي يمكنهم تأديتها، مثل قيامهم بدور تقديم الرعاية لعائلاتهم بدلًا من كونهم مجرد مورد مادي.
تظهر الأبحاث أن المجتمعات ذات المستويات المنخفضة من المساواة بين الجنسَين هي المجتمعات التي لديها أعلى معدلات لانتحار الذكور، وأن الفجوة بين الجنسَين في الانتحار أصغر في الدول التي تتمتع بمساواة أعلى بين الجنسَين.
وتشكّل حقيقة أن ذروة عدد حالات الانتحار تكون خلال الأزمات المالية، المثال الأكبر على خطورة أفكار الذكورية السامة التي يفرضها المجتمع على الرجال، فعلى سبيل المثال أدت الأوضاع السياسية والاقتصادية غير المستقرّة التي يعيشها لبنان منذ سنوات إلى ارتفاع معدلات انتحار الذكور.
فقد أظهرت دراسة لبنانية أعدّها فريق من الأطباء النفسيين، أن شخصًا ينهي حياته كل يومَين ونصف، وفي حين أن معدلات الانتحار لكل من النساء والرجال ترتفع في أوقات الانكماش الاقتصادي، فإن الزيادة تميل إلى أن تكون أكثر حدة بالنسبة إلى الرجال، حيث أن نسبة الرجال من ضحايا الانتحار في لبنان بلغت 66%، فيما النساء 34%.
الجدير بالذكر أنه تُظهر الأبحاث أن المجتمعات ذات المستويات المنخفضة من المساواة بين الجنسَين هي المجتمعات التي لديها أعلى معدلات لانتحار الذكور، وأن الفجوة بين الجنسَين في الانتحار أصغر في الدول التي تتمتع بمساواة أعلى بين الجنسَين.
وفي دراسة أخرى أجراها عالما الاجتماع آرون ريفز وديفيد ستاكلر، تُظهر أنه في البلدان ذات المستويات العالية من المساواة بين الجنسَين مثل السويد والنمسا، اختفت العلاقة بين ارتفاع معدلات البطالة والانتحار لدى الرجال تمامًا.
الذكورة السامة
رغم إخضاع المرأة لمعايير مجتمعية مستحيلة ومؤذية، فإن المعايير الخاصة بالرجال سامة أيضًا، فمنذ الطفولة لا يُشجَّع الرجال على إظهار المشاعر أو التعبير عنها، ويُنظَر إلى موضوع التعبير عن المشاعر على أنه صفة أنثوية، مثل القول للطفل عندما يبكي: “الرجال لا يبكون”.
إن عدم وجود مصدر للتنفيس عن المشاعر السلبية يحظى بقبول اجتماعي لدى الذكور، أدّى إلى دفع أجيال من الرجال للجوء إلى آليات غير صحية للتكيُّف مع الضغوط، مثل إدمان الكحول والمخدرات، فمن المرجّح أن يتعرض الرجال لهذه النتائج أكثر من النساء.
كما أظهرت الأبحاث أن خوفَ الرجل من أن يُنظَر إليه على أنه “ضعيف” متأصّلٌ في داخله بعمق، لدرجة أنه قد يعوِّض إحساسه بالنقص أو “الضعف” أمام أقرانه بشكل مفرط وخطير، ووفقًا لهذه الأبحاث من الممكن أن يكون هناك عواقب وخيمة عند شعور الرجل بتهديد صورته الذكورية، فالرجال الذين لا يرون أنفسهم “ذكورًا” لديهم احتمالية أكبر للتحول إلى متحرّشين، أو التصرف بعدوانية اتجاه النساء.
الأب المحبّ الذي يرعى أطفاله في المنزل وتدعمه زوجته ماديًّا حتى يجد عملًا مناسبًا له، عادة ما يواجه استياء المجتمع منه باعتباره “ليس رجلًا” في أجزاء كثيرة حول العالم.
الأفكار التقليدية عن طبيعة الذكورة، مثل وجوب أن يكون الرجل صارمًا وتنافسيًّا وعدوانيًّا وغير عاطفي، يمكن أن تتسبّب في معاناة طويلة الأمد للأولاد والرجال، ووفقًا لإحصاءات رسمية من المرجّح أن يشارك الأولاد والرجال في سلوكيات خطرة، مثل الانضمام إلى العصابات أو تعاطي المخدرات.
كما أن متوسِّط العمر المتوقع لدى الذكور أقصر من النساء، ومعدل الانتحار أعلى، حيث تشير هذه الحقائق المؤسفة إلى أن الرجال والفتيان بحاجة أيضًا إلى عالم خالٍ من الضغوط المفروضة على الأفراد على أساس الجنس.
في عالم يتمتّع به جميع الناس بفرص متكافئة ومعاملة عادلة، يتمتع الفتيان والرجال بحرّية التعبير عن أنفسهم وأن يكونوا كما يريدون دون قيود صارمة أو خوف من تنمُّر أقرانهم الذكور. على سبيل المثال، الأب المحبّ الذي يرعى أطفاله في المنزل وتدعمه زوجته ماديًّا حتى يجد عملًا مناسبًا له، عادة ما يواجه استياء المجتمع منه باعتباره “ليس رجلًا” في أجزاء كثيرة حول العالم.
تنشيط الاقتصاد وإطلاق العنان للإمكانات البشرية
أدّى اندماج المرأة في القوى العاملة في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية إلى مكاسب هائلة على مستوى الاقتصاد، وبالنظر إلى أن السيدات يشكّلن ما يقارب نصف القوى العاملة، فإن اندماجهن كان له آثار مضاعفة إيجابية هائلة في جميع الصناعات.
وفقًا لمجلة “ذي إيكونوميست“، يعدّ تمكين المرأة مهنيًّا أحد أهم العوامل المحددة لشكل العالم الصناعي، بحيث أن زيادة مشاركتها في سوق العمل يعزز الإنتاج المحلي، وبحسب دراسة الأمم المتحدة فإنّ البلدان التي تحتل مرتبة أعلى على مقياس المساواة بين الجنسَين، هي في الواقع أكثر سعادة وثراء أيضًا.
والخلاصة هي أن النظام الأبوي يؤذي الرجال أيضًا من خلال فصلهم عن عواطفهم، وتصوير طلب الدعم على أنه صفة أنثوية تدلُّ على الضعف، وبالتالي خنق الرجال ضمن حدود ضيقة رسّختها الأعراف والتقاليد حول معنى الذكورة، وإجبارهم بطريقة ما على التنافس بين بعضهم وإثبات رجولتهم من خلال التخلي عن شخصيتهم وإنكار إنسانيتهم، بالإضافة إلى تحمُّل عواقب هذه السلوكيات وما قد تأتي به من مضارّ للصحة والمجتمع.