حملت النتائج الأولية غير الرسمية للانتخابات العراقية التي أجريت الأحد 10/10/2021، مفاجآت غير متوقعة لكثير من المراقبين، فقد تصدر التيار الصدري قائمة الكيانات المشاركة، رغم إعلانه الانسحاب من المشاركة قبل أن يتراجع عن موقفه قبيل انطلاق الماراثون الانتخابي، فيما مُنيت التحالفات والفصائل الموالية لإيران بهزيمة هي الأشد قسوة منذ 2003 في ظل تمدد نفوذها الداخلي طيلة السنوات الماضية.
وأجريت تلك الانتخابات التي بلغت نسبة المشاركة فيها 41% وهي الأدنى منذ عام 2005 قبل عام تقريبًا من موعدها المقرر، وذلك في أعقاب الاحتجاجات الواسعة التي شهدها العراق منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 وأطاحت بالحكومة السابقة بقيادة عادل المهدي نهاية العام ذاته.
المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق أشارت إلى الانتهاء من عمليات الفرز اليدوي للصناديق في بعض المناطق التي شهدت مشاكل فنية حالت دون التصويت الإلكتروني، ستنتهي خلال أسبوع واحد، وسط تشكيك من بعض القوى الخاسرة في نزاهة العملية برمتها.
فوز التيار الصدري لم يكن مستغربًا في ظل أدائه السياسي خلال السنوات الأخيرة، فيما عزاه البعض إلى تفهمه لمزاج الشارع العراقي، بينما كانت الصدمة في الانهيار الكبير للقوى الشيعية والفصائل الموالية لطهران، الأمر الذي أثار الكثير من التخوفات إزاء التصعيد المحتمل لا سيما بعد رفض تلك القوى لخسارتها.. فلماذا هُزمت أذرع إيران رغم سيطرتها ميدانيًا على المشهد السياسي والعسكري؟ وما الرسالة التي يود الشارع العراقي أن يخبر بها نخبته الحاكمة ومنظومة أحزابه الكرتونية؟
هزيمة مدوية لحلفاء إيران
وفق النتائج المعلنة فإن تحالف “الفتح” بزعامة هادي العامر، الذي يضم ممثلين عن فصائل الحشد الشعبي المقرب من إيران (منظمة بدر وعصائب أهل الحق) وممثلين عن جماعات مسلحة شيعية حليفة لطهران حصل على 14 مقعدًا في هزيمة مدوية غير مسبوقة تاريخيًا.
اللافت أن هذا التحالف الذي حل ثانيًا في الانتخابات السابقة بـ47 مقعدًا، حصل على مقعد واحد فقط في ضواحي كربلاء، التي كانت بؤرة نجاحاته سابقًا، بخلاف أنه لم يحقق أي نتائج إيجابية تذكر في مدينة النجف مركز التشييع في العالم، الأمر ذاته في محافظات المثنى وذي قار.
من المفاجآت التي شهدتها تلك الانتخابات كذلك الهزيمة التي تلقاها تحالف “قوى الدولة” المشكل من رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي ورجل الدين زعيم “تيار الحكمة” عمار الحكيم
وفي المقابل استطاع التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر الحصول على 73 مقعدًا، متصدرًا خريطة النفوذ البرلماني الجديدة، تلاه تحالف “تقدم” الذي يتزعمه رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي بـ41 مقعدًا، فيما حل ثالثًا تحالف رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي “دولة القانون”، بواقع 37 مقعدًا، ثم الحزب الديمقراطي الحاكم في إقليم كردستان بـ32 مقعدًا وتحالف “عزم” بقيادة خميس الخنجر بـ15 مقعدًا.
التيار المدني هو الآخر لم يحقق ما كان متوقعًا منه في ضوء الشواهد الأخيرة، إذ حقق تكتل “امتداد” 10 مقاعد برلمانية، فيما نجح المستقلون في الحصول على 20 مقعدًا في رسالة تحمل الكثير من الدلالات عن المزاج العام للشارع العراقي.
من المفاجآت التي شهدتها تلك الانتخابات كذلك الهزيمة التي تلقاها تحالف “قوى الدولة” المشكل من رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي ورجل الدين زعيم “تيار الحكمة” عمار الحكيم، بحصوله على 5 مقاعد فقط، مقارنة بـ61 مقعدًا في البرلمان السابق.
وقد شهدت الانتخابات حالة ارتباك تهدد معايير النزاهة الخاصة بها، وذلك بعد إعلان المفوضية وجود أكثر من 12 ألف محطة انتخابية لم يتم احتساب أصواتها، بسبب ما وصفته بخلل فني، ما دفعها للبدء في عملية الفرز اليدوي.
المقلق في تلك المسألة أن رئيس المفوضية جليل عدنان كان قد أعلن أن النتائج المعلنة حتى الآن تمثل 94% من الأصوات، وأن المتبقي لا يتجاوز 6%، غير أن قياس عدد المحطات الانتخابية التي لم تفرز بعد (12288محطة) مقارنة بالعدد الإجمالي على مستوى الدولة (58 ألف محطة) تكون نسبة الأصوات التي لم تفرز 20% وليس 6% كما تم الإشارة إليه، في مفارقة ربما تعطي انطباعًا سلبيًا عن نزاهة العملية الانتخابية أو على الأقل حالة الارتباك الواضحة في إدارتها.
تهديد ورفض للهزيمة
جاءت حالة الارتباك تلك كهدية على طبق من ذهب للتيارات الشيعية، وكما كان متوقعًا، رفضت القوى الخاسرة الاعتراف بالنتائج الأولية للانتخابات، التي وصفها رئيس تحالف “الفتح” هادي العامر بأنها “مفبركة”، مضيفًا “سندافع عن أصوات مرشحينا وناخبينا بكل قوة”.
أما المسؤول الأمني لـ”كتائب حزب الله”، أبو علي العسكري، فوصف العملية الانتخابية بأنها “احتيال” و”التفاف”، داعيًا ما أسمًاهم “فصائل المقاومة” إلى “الاستعداد لمرحلة حساسة تحتاج إلى الحكمة والمراقبة الدقيقة”، معتبرًا أن النتائج استهداف لـ”الحشد الشعبي”.
الهزيمة التي منيت بها القوى الشيعية والفصائل الموالية لطهران فتحت باب التكهنات أمام قائمة مطولة من الأسباب والدوافع التي قادت إلى هذا الانهيار غير المسبوق، أبرزها عجرفة تلك القوى المسلحة في التعامل مع المحتجين في أكتوبر/تشرين الأول 2019 وما تلاها
ووفق ما نقلت “رويترز” عن قائد مليشيا موالية لإيران، لم تسمه، فقد حذر من لجوء الجماعات الشيعية المسلحة إلى العنف حال اعتبار تلك النتائج نهائية، مضيفًا: “سنستخدم الأطر القانونية في الوقت الحاليّ، وإذا لم تنجح، فسنضطر إلى النزول للشوارع والقيام بنفس الشيء الذي حدث لنا في أثناء الاحتجاجات؛ إحراق مباني الحزب” في إشارة إلى التيار الصدري.
هذا الرأي يتسق بصورة كبيرة مع البيان الصادر عما يعرف بـ”تنسيقية المقاومة العراقية”، التي تضم 11 فصيلًا مسلحًا حليفًا لإيران، التي وصفت الانتخابات بأنها باطلة وغير شرعية، مهددة بإجراءات تصعيدية حيال ما أسموه “مؤامرة تستهدف الحشد الشعبي”.
وفي تلك الأجواء الضبابية ترجح بعض الأصوات لجوء القوى الخاسرة إلى ممارسة كل أنواع الابتزاز والضغوط، بما لديها من قدرات تسليحية ترهيبية كبيرة، إما لتعديل النتائج الحالية وإعادة النظر فيها وإما تخصيص حصة مناسبة لها في التشكيل الحكومي الجديد، وهي الضغوط التي لم تختبر بعد حتى كتابة هذه السطور.
أسباب الخسارة المدوية
الهزيمة التي منيت بها القوى الشيعية والفصائل الموالية لطهران فتحت باب التكهنات أمام قائمة مطولة من الأسباب والدوافع التي قادت إلى هذا الانهيار غير المسبوق، أبرزها عجرفة تلك القوى المسلحة في التعامل مع المحتجين في أكتوبر/تشرين الأول 2019 وما تلاها، حيث كانت لغة العنف هي الأبرز حضورًا على الساحة، الأمر الذي كان له ارتداداته العكسية على الشارع العراقي حتى بين أنصار تلك القوى من المنتمين للمذهب الشيعي، وهو ما يفسر خسارة تحالف “الفتح” لأصوات المراكز الشيعية ككربلاء والنجف وغيرها.
ومن أبرز الأسباب التي دفعت العراقيين والأنصار معًا للعزوف عن المشاركة الانتخابية أو التصويت المعاكس كما يرى خبراء الانتخابات، الفجوة الكبيرة بين قادة القوى الشيعية والقاعدة الشعبية العريضة خلال السنوات الأخيرة، فقد أدى فقدان التواصل بين الطرفين إلى توسيع الهوًة ومن ثم كان لا بد من رسالة مباشرة (لإيران وحلفائها في الداخل) لإيصال صوت تلك القاعدة عبر الصناديق.
أما السبب الثالث وربما كان الأكثر حضورًا فهو البعد التام عن هموم ومشاكل المواطن العراقي، والفشل في إيجاد حلول عاجلة للأزمات التي يعاني منه العراقيون، كهرباء وماء وأمن وأسعار وخدمات وخلافه، فيما كانت النخبة تكتفي بالشعارات الشعبوية الرنانة التي ملها الشارع بعد أن دفع ثمنها غاليًا على مدار سنوات طوال من الدماء التي لا تجف.
وفي الجهة الأخرى نجح التيار الصدري في استغلال هذا الإخفاق لتحسين تموضعه السياسي على المستوى الداخلي، مركزًا على القضايا المحلية في كل منطقة على حدة، رافعًا شعارات الاهتمام بالمواطن أولًا وأخيرًا، والارتقاء بشأن منظومة الخدمات المقدمة للعراقيين، متجنبًا قدر الإمكان الانزواء في دائرة الطائفية المقيتة.
ورغم لجوء مقتدى الصدر للشعارات الشعبوية هو الآخر لتعزيز نفوذه الداخلي لكنها الشعارات التي تغازل طموحات وإرادة العراقيين على شاكلة سيادة الدولة ورفض جميع التدخلات في الشأن العراقي، وفي المقدمة منها الإيرانية، وهو الذي طالب أكثر من مرة بنزع السلاح من الجماعات المسلحة وحصره بيد الدولة.
بين النزاهة والتشكيك
عطفًا على حالة الارتباك التي سادت العملية الانتخابية جراء تناقص التصريحات والبيانات الصادرة عن المفوضية العليا فإن العديد من القوى السياسية العراقية قد شككت في نتائج الانتخابات، مطالبة المفوضية بأعادة النظر فيها بصورة عاجلة.
تحالف العقد الوطني – الذي يضم الحشد الشعبي والحزب الإسلامي – أشار في بيان له إلى وجود خروقات عدة في الانتخابات أدت إلى هدر حقوق عدد من المرشحين وكشفت غياب الحياد والموضوعية، بحسب نص البيان الذي دعا الحكومة إلى اتخاذ موقف يحافظ على حقوق الشعب العراقي، مؤكدًا في الوقت ذاته أنه سيسلك كل السبل القانونية والأطر الديمقراطية لحماية حقوق الشعب والدفاع عنها.
أما ائتلاف الوطنية العراقي الذي يتزعمه إياد علاوي فحذر من أن الإصرار على هذه النتائج قد يُدخل البلد في فوضى وتعقيدات جديدة لا تحمد عقباها، حسب البيان الصادر عنه، واصفًا الانتخابات بالمشبوهة، وأنها أقصت العديد ممن نالوا الثقة الشعبية.
وفي الجهة الأخرى أكدت بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات العراقية، أنها لم تجد “تلاعبًا أو خروقات” خلال العملية، وأن كل ما رصدته لا يتعدى محاولة عناصر مسلحة خارج سلطة الدولة ترهيب المرشحين والناخبين على حد سواء من أجل التصويت لفئات بعينها.
الانتخابات الأخيرة أعادت تشكيل الخريطة السياسية للبلاد مرة أخرى، مفرزة 3 قوى رئيسية، سيكون لها تأثيرها في رسم المرحلة المقبلة
وخلال مؤتمر صحفي لها في بغداد قالت رئيسة البعثة، فيولا كرامون: “الانتخابات تمت إدارتها بشكل جيد، ولا يوجد تلاعب أو خروقات بها”، مضيفة “البعثة رصدت إقبالًا منخفضًا من الناخبين، وهذا يتلاءم مع نسبة المشاركة البالغة 41%،” لافتة إلى وجود “بعض العناصر المسلحة خارج سلطة الدولة (لم تسمهم) حاولت تخويف المرشحين وترهيبهم خلال الحملة الانتخابية، خصوصاً المرشحين من النساء، وهذا أثر بشكل سلبي على التنافس الانتخابي”.
زعيم التيار المنتصر، مقتدى الصدر، دعا جميع الأطراف التي اعترضت على هذه النتائج إلى ضبط النفس والالتزام بالطرق القانونية بشأن الاعتراض، مناشدًا إياها في تغريدة له على تويتر بالتحلي بالروح الوطنية وعدم اللجوء إلى ما لا تحمد عقباه، حسب تعبيره.
ولفت الصدر إلى أن الخلافات السياسية على صناديق الاقتراع وتأخير إعلان النتائج والضغط على مفوضية الانتخابات ستكون أولى نتائجها السلبية تضرر الشعب وليس الكتل السياسية، مشددًا على ضرورة العمل من أجل تلبية طموحات العراقيين السياسية والاقتصادية والأمنية.
اختبار صعب
من المتوقع أن تشهد المرحلة القادمة المزيد من التصعيد سواء بين القوى الشيعية بعضها البعض أو بينها وبين القوى السياسية الفائزة في الماراثون الانتخابي، وهو ما يضع التيار الصدري وزعيمه في اختبار غاية في الصعوبة، إذ يجد نفسه بين خيارين لا ثالث لهما.
الأول: أن يفي بوعوده السابقة بشأن تشكيل حكومة ذات أغلبية وطنية، وأن يبعد قدر الإمكان عن سياسة الطائفية والمحاصصة التي يدفع العراقيون ثمنها غاليًا جدًا طيلة العقود الماضية، وأن يكون الانتصار في النهاية للخبرات والكفاءات الوطنية من غير القوى الشيعية، وهنا عليه أن يتحمل ردة الفعل المحتمل أن تكون قاسية من تلك القوى المدعومة من طهران.
الثاني: أن يعيد السردية المعتادة قديمًا، حيث انتهاج نفس الحكومات السابقة الخاضعة للإطار الطائفي الضيق، حتى إن أدخل عليها بعض الاختلافات الهامشية المتعلقة بالتوزيع الإثني، لكنها في النهاية لن تخرج عن العقلية التقليدية في محاولة لامتصاص غضب الجماعات المسلحة والزعم بتجنيب البلاد الولوج في مستنقع الفوضى أكثر مما هي عليه الأن.
وبصرف النظر عن نسب كل احتمال في فرض نفسه على المشهد خلال الأيام القادمة، لكن الانتخابات الأخيرة أعادت تشكيل الخريطة السياسية للبلاد مرة أخرى، مفرزة 3 قوى رئيسية، سيكون لها تأثيرها في رسم المرحلة المقبلة، (التيار الصدري، تحالف “تقدم” الفائز الأكبر بين القوى السنية، والحزب الديمقراطي الكردستاني، ممثلا عن القوى الكردية).
وعليه فإن تلك القوى الثلاثة٠ ستكون العمود الفقري للحكومة القادمة، إن لم تنجح الضغوط الممارسة من التيارات الشيعية في تغيير ملامح المشهد الحاليّ، لكن يبقى السؤال: من سيقود تلك القوى؟ ربما يكون من المبكر الإجابة عن هذا السؤال، لكن بحسب المحلل السياسي المقيم في واشنطن، نزار حيدر، فإن التيار الصدري لن يرشح اسمًا لشغل منصب رئيس الحكومة رغم تصدره نتائج الانتخابات، مرجحًا أن يتم الإبقاء على اسم مصطفى الكاظمي مرشحًا محتملًا للمنصب.
ويعزو حيدر هذا الاختيار في حواره مع ” DW عربية” إلى أن “القوى الدولية والإقليمية تؤيد الكاظمي، سواء العواصم الأوروبية أم واشنطن أم العواصم الخليجية” هذا بخلاف العلاقات الشخصية القوية التي تجمع بين الصدر والكاظمي، فالأخير كان السبب الأبرز وراء عدول زعيم التيار الصدري عن قراره بعدم المشاركة في الانتخابات.
وفي الأخير.. فإن حزمة من الرسائل بعث بها العراقيون من خلال تلك الانتخابات، سواء من شارك أم قاطع، فمن اختار المشاركة نجح في إيصال رسالة قاسية لإيران وحلفائها والأحزاب السياسية الكرتونية برمتها، مفادها الكفر بالسياسات المتبعة وضرورة إعادة النظر فيها، بجانب تسليط الضوء على ضرورة الاهتمام أكثر بقضايا الشعب وهمومه بدلًا من الشعارات الجوفاء التي تخدم أجندات بعينها.
أما المقاطعون فكانت رسالتهم واضحة، حيث استحالة التغيير عن طريق صناديق الاقتراع التي باتت محل شك وفقدان ثقة لدى شريحة كبيرة من الشارع، وأن المنظومة الفاسدة التي تسيطر على المشهد والقوى الداعمة لها من الخارج هي من تختار الحكومات وتضع السياسات، ومن ثم لا قيمة لإجراء انتخابات تهدف لتجميل الصورة وإضفاء الشرعية على وضعية فاسدة.