دأب مفكرو السياسة ما بعد الحداثيين على تأكيد فكرة إمكانية وجود أكثر من تفسير صحيح أو فهم للظاهرة الواحدة، وأن الإنسان لا بد وأن يثور على النظام العام الذي يفرض فكرَة واحدة ومذهبا واحدا وأسلوبا واحدا في التعاطي مع الأشياء.
وبعد انحسار موجة اليسار العالمية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وتربّع “الوسط” على عرش الفكر والتنظير للنظام العالمي، وباتت العولمة السياسية (الديمقراطية) والاقتصادية (السوق الحر) قيماً تطمح اليها الشعوب والدول وتقيّم علَى أساسها التجارب، وأصبح العالم يشهد نظاما يفرض وجهة نظر واحدة بحيثُ يُعطى الواقف في الوسط سياسيا بصورة بديهية قيمة أكبر من الواقف في اليمين او اليسار.
وبالتالي بالنظر إلى رأي مفكري ما بعد الحداثة منذ سنين طويلة، فإن الأفكار السياسية التي ينتظر أن تعود لتأخذ مكانا في المشهد العام هي أفكار اليمين بكل درجاته واليسار بكل درجاته، وليس هناك اكثر من الأمثلة على نجاح اليمين في الانتخابات في عشرات الدول من الاخوان في مصر الى اليمين المتطرف في الاتحاد الاوروبي.
بالامس أعلنت نتائج الانتخابات النصفية لمجلسي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة الامريكية. وقد انتخب الأمريكان نوعية من النواب ربما لا يمكن ان تترشح أصلا للانتخابات في أي مكان آخر من العالم.
فقد اختار ناخبو ولاية ميريلاند للمجلس المحلي النائب مايكل بيروتا، وهو عضو في حركة “دعاة البنائية المسيحية”، ويدعو بيروتا إلى حكومة ثيوقراطية دينية (على نمط المملكة العربية السعودية ولكن بالاعتماد على الإنجيل)، إضافة الى الليبرالية الاقتصادية.
كما يعتقد بيروتا ان ولايته يجب ان تنفصل عن الولايات المتحدة الامريكية، وان حقوق الانسان غير موجودة فالاصل هو ان الله يمنح للإنسان حقوقه، ويرى كذلك ان الإجهاض والمثلية الجنسية أمور خاطئة.
يشارك بيروتا في آرائه عن المثليين غوردون كلينغينشميت الذي انتخبته ولاية كولورادو نائبا عنها، كما يرى كلينغينشميت أن ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش لهو إشارة على قرب ظهور عيسى عليه السلام.
ويرى النائب عن كولورادو كذلك ان برنامج الرعاية الصحية “أوباما كير Obama Care” – الذي يعارضه الجمهوريون بشدة – يُسبّب مرض السرطان!
وتظل مدرسة ما بعد الحداثة تشكل تحديا أساسيا للنظم الديمقراطية الغربية ولمن يَدْعُو الى تأسيس نظام على غرارها في أنها تدعو الى قبول كل الآراء في المجتمع لكنها تحرص في الوقت نفسه على المحافظة على فكرها السياسي قريبا من الوسط فتعمد الى قمع ما سواه.