لم يكن غريبًا على اللبنانيين ما حصل في الساعات الأخيرة بالعاصمة بيروت، إذ إنهم عاشوا حالات من التوتر المماثل أو أشد من ذلك حتى، فالبلد المقسَّم بين رجالات الأحزاب والطوائف ضحية نزاعات مستمرة لا نهاية لها، كما أنه بات جاهزًا للانفجار الكبير وتكرار الحوادث المأساوية التي كانت تحصل زمن الحرب الأهلية في ثمانينيات القرن الماضي، التي جعلت البلاد كومة من الركام والأشلاء.
لم يكن مستغربًا أيضًا من اللبنانيين أنَّ من خلقَ التوتر يوم أمس هو حزب الله، وهنا لا يمكن نفي مسؤولية بقية الأحزاب الأخرى عن الضحايا الذين قُتلوا وجُرحوا في هذا الحادث، لكن السلاح الذي يمتلكه حزب الله هو الأكبر وعناصره هم الأكثر ويبدو أن مشاكله هي الغالبة في هذا البلد، وبالطبع لم تكن هذه المرة الأولى التي ينزل عناصر الحزب إلى الشوارع بسلاحهم ليخوضوا معاركهم بين منازل المدنيين الآمنين.
يتصرّف حزب الله كأنه هو الحاكم الفعلي للبنان، فعندما تتعارض الأحداث مع أجندته وسياساته يرسل عناصره بسلاحهم ليبدأوا “احتجاجهم السلمي” كما يروِّجون، ليصبح سلاح الحزب، الذي من المفترض أنه ضمن محور المقاومة والممانعة ضد الاحتلال الإسرائيلي، متواجدًا على أكثر من جبهة، حتى بات أقلّه متواجدًا على الحدود مع الكيان، فقوات الحزب باتت في سوريا منذ 10 سنوات وليس واضحًا متى ستنسحب، وكذا السلاح المنتشر على جبهة لبنان الداخلية.
الاعتصام
منذ تأسّسَ حزب الله في لبنان وهو يعمل على الاستيلاء على مفاصل الدولة وفرض سيطرته، حيث إنه أكبر أداة مزروعة في المنطقة منذ تأسيسه، وفي سبيل التعطيل المستمر وفرض السيطرة قام الحزب بتفجير عدد من الأحداث في البلاد خلال سنوات خلت، بعض هذه الأحداث غيّر وجه لبنان نهائيًّا، منها ما هو عسكري ومنها ما هو سياسي، وفي هذا التقرير نذكر أبرز الأحداث التي قامَ بها في البلاد.
لعلّ الاعتصام الذي بدأه الحزب مع حليفَيه حركة أمل والتيار الوطني الحر عام 2006، كان حدثًا كبيرًا في مسيرة تعطيل الدولة، وإن كانت الحركة الاحتجاجية هي محاولة للضغط على إقالة حكومة فؤاد السنيورة، إلا أنها استمرت 18 شهرًا ليتمَّ فكّ الاعتصام مع اتفاق الدوحة 21 مايو/ أيار 2008، حيث كلّف هذا الاعتصام لبنان خسائر قدّرها الخبراء بـ 10 ملايين دولار يوميًّا.
وفي بداية الاعتصام الذي قاده حزب الله، نُصب ما يقارب 600 خيمة حول مقرّ رئاسة الحكومة في بيروت، أتى ذلك بعد استقالة وزراء الحزب وحركة أمل من حكومة السنيورة، كما أرفق اعتصامه بإضراب احتجاجي في يناير/ كانون الثاني 2007 وتحوّل إلى مواجهات في الشارع انتهت بتدخُّل الجيش، وأدى الاعتصام إلى إقفال الكثير من المؤسسات التجارية التي بدورها صرفت موظفيها.
اغتصاب الدولة
تُعتبَر أحداث 7 مايو/ أيار أكبر اعتداء على الدولة اللبنانية من قبل حزب الله، ذلك أنه عملَ على “اغتصاب السلطة بقوة السلاح”، والوصف هنا للسياسي اللبناني فارس سعيد، وتعدّ هذه الأحداث التي وقعت عام 2008 الأشد خطورة وعنفًا منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990.
وقد بدأت القصة في أبريل/ نيسان من العام ذاته، حين اكتشفت القوات الألمانية في اليونيفيل كاميرا مراقبة على أحد مدرّجات مطار رفيق الحريري، وتمَّ إخبار الحكومة بذلك.
وصلت الأخبار إلى الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، ليخرج ويعلن عن الأمر في مؤتمر صحفي عرض فيه خرائط الشبكة التجسُّسية الخاصة بحزب الله في لبنان، وشنَّ جنبلاط هجومًا على الحزب وأمينه العام حسن نصر الله معتبرًا أن رئيس جهاز أمن المطار مخترَق، إثر ذلك اجتمعت الحكومة لساعات قبل أن تصدر مقررات تتضمن طبيعة التعامل مع الحدث.
وكانت أهم تلك القرارات اعتبار شبكة الاتصالات التابعة لحزب الله غير شرعية وغير قانونية، وتشكّل اعتداء على سيادة الدولة والمال العام، كما قررت الحكومة إطلاق الملاحقات الجزائية بحقّ كل من يثبت ضلوعه في العملية، أفرادًا كانوا أو أحزابًا أو هيئات أو شركات.
بعد مقررات الحكومة اندفعت مواكب الحزب العسكرية من ثكناتها باتجاه وسط العاصمة بيروت، ووصلت إلى مطار رفيق الحريري حيث تمَّ إقفاله وقطع الطرق المؤدية إليه، واستولت بعض المجموعات على مراكز تيار المستقبل التابعة لسعد الحريري وقامت بإحراقها، وخلت العاصمة بيروت من أي وجود للقوى الأمنية الرسمية، بالتزامن مع انسحاب الجيش اللبناني والانتشار خارج العاصمة، ونتج عن اقتحام حزب الله لبيروت حينها 71 قتيلًا وعشرات الجرحى، بالإضافة إلى دمار في الممتلكات وخسائر اقتصادية كبيرة.
الاعتداء على حراك تشرين
في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2019 اندلعت في لبنان ثورة شعبية طالبت بإنهاء نظام الحكم القائم على المحاصصة الطائفية، وقامت الاحتجاجات ردًّا على قرارات اقتصادية بفرض ضرائب جديدة، وللمطالبة بمكافحة الفساد، قبل أن يتطور الحراك للمطالبة بإسقاط النظام بكل رموزه وعلى رأسهم ميشيل عون وصهره جبران باسيل، إضافة إلى حسن نصر الله زعيم ميليشيا حزب الله، والنخب الحاكمة الأخرى.
الهتافات ضدّ حسن نصر الله لم ترُقْ للحزب، فبدأ أنصاره ومسلّحوه بالهجوم على الكثير من التظاهرات، كما أنهم حاولوا اقتحام ساحة رياض الصلح التي يعتصم فيها المتظاهرون اللبنانيون أكثر من مرة، إلى ذلك حاول حسن نصر الله في خطاباته خلال حراك تشرين أن يصفَ المظاهرات بالمؤامرة الأجنبية، وكان في البداية رافضًا لاستقالة حكومة الحريري لكنه في الخطابات التالية بدأ يخفِّف من حدة لهجته تجاه الحراك.
أما على الأرض فكان أنصاره يعتدون يوميًّا على المظاهرات والاعتصامات، في إشارة لما قاله نصر الله في أحد خطاباته بأنه “لم يأتِ زمان على المقاومة في لبنان وكانت فيه بمثل هذه القوة، وحزب الله لم يتصرّف بأيٍّ من أوراق قوته حتى الآن”، ما اعتبره المراقبون تهديدًا مبطنًا بجهوزيته لحرب داخل لبنان.
آخر التوترات
آخر الأحداث والتوترات التي حصلت في لبنان بسبب حزب الله كانت أمس الخميس، حيث أعلن الصليب الأحمر اللبناني اليوم الجمعة ارتفاع حصيلة قتلى اشتباكات بيروت إلى 7، إضافة إلى 32 جريحًا بعضهم في حالة حرجة.
وقع هؤلاء الضحايا أثناء مواجهات مسلحة في منطقة الطيونة، الواقعة بين منطقة الشياح ذات الأغلبية الشيعية ومنطقة عين الرمانة ذات الأغلبية المسيحية، واستمرت تلك المواجهات نحو 5 ساعات.
بدأت الأحداث بإطلاق نار كثيف خلال تظاهرة نظّمها مؤيدون لميليشيا حزب الله وحركة أمل، تنديدًا بقرارات المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار، وتأتي هذه المظاهرات بعدما قال حسن نصر الله إن “المحقق العدلي القاضي طارق البيطار في انفجار مرفأ بيروت مسيَّس، ولن يصل إلى الحقيقة في تحقيق الانفجار”.
إلى ذلك، يبدو أن الأحداث التي جرت بالأمس لن تكون الأخيرة في ظل تمادي حزب الله على السلطة، واعتباره أن لبنان ساحة له يستطيع فعل ما يشاء بها، وفي ظل الانقسام الكبير يبقى الخاسر الأكبر هو الشعب اللبناني الذي يقدِّم الضحايا في الاشتباكات التي تجري بين الفرقاء.