ترجمة وتحرير: نون بوست
في مجموعته الشعرية الأولى، التي سميت على اسم جدته الراحلة، جمع الكاتب والناشط الفلسطيني تكريما جريئا للمقاومين في الماضي والحاضر.
كان كل من محمد الكرد وشقيقته منى من بين الوجوه الفلسطينية التي ذاع صيتها على الإنترنت خلال الانتفاضة الأخيرة التي أشعلتها محاولات المستوطنين الإسرائيليين الاستيلاء على منازل الفلسطينيين في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة، بما في ذلك منزل عائلة الكرد.
وطلاقة التوأم البالغين من العمر 23 سنة في اللغتين العربية والإنجليزية، جنبا إلى جنب مع استخدامهما الماهر لمنصات التواصل الاجتماعي، من العوامل الرئيسية التي جعلتهما المصدر الأول للحصول على معلومات حول التوسع الإسرائيلي في القدس وشعارات التأثير المستمر للاستيطان بعد سبعة عقود من الطرد الأول للفلسطينيين من قبل القوات الصهيونية.
بالنسبة لمحمد، أدى تسليط الضوء على محنة العائلة أيضًا إلى إبراز أعماله كشاعر، كما ترسخت مؤهلاته ككاتب عندما عينته صحيفة “ذا نيشن” مراسلا لها في فلسطين في أيلول/ سبتمبر. وبدخوله قائمة أكثر 100 شخصية مؤثرة في 2021 لصحيفة التايم، وهو شرف تقاسمه مع أخته، يعتزم الكرد أن يودع السنة بمجموعته الشعرية الأولى بعنوان “رفقة”.
يستهل الشاعر مجموعته الشعرية بإهداء قال فيه ما يلي: “لأجل جدتي رفقة الكرد، وكل من لا يخافون”، ثم يحدد سياقها بتحية جريئة وصريحة لمن يقاوم في الماضي والحاضر.
يوضح الكرد لموقع “ميدل إيست آي” أن الشعر الفلسطيني، من خلال السياق الذي يتنزل فيه، غالبا ما يكون بطبيعته مشبعا بمواضيع الشجاعة والمقاومة والألم. يقول الكرد: “يجب أن يأتي وقت يُسمح لنا فيه بالاستمتاع بشيء يتجاوز ذلك. نحن نعيش في زمن الاستعمار. لا يوجد مكان حتى الآن لأدب ‘ما بعد الاستعمار’ بينما نعيش تحت الاحتلال”.
يعتبر الكاتب والشاعر مُنظّري ما بعد الاستعمار من بين الذين أثروا فيه لكن تواضعه يجبره على الابتعاد عندما يتعلق الأمر بإجراء مقارنات مباشرة. وبدلا من ذلك، يقول بتواضع إن أمله هو أن يحقق عمله غاية ويكون له تأثير. ويوضح أن الشخصية الأدبية التي تركت بصماتها في شخصيته ككاتب ومفكر هي راشد حسين، الكاتب الفلسطيني الراحل صاحب قصيدة “الله لاجئ”، وهي قصيدة ساخرة تكشف الحقيقة المرة لمحنة الفلسطينيين وردت فيها الأبيات التالية:
“أردتني عبدًا يُباعُ ويُشتَرى وأردتني يأسًا يعيشُ بلا دَدِ
وصرختَ: أنتَ بقيةٌ من أمةٍ منشورةٍ بينَ المغارِ قاقعُدِ”
يعتقد الكرد أن هذا الشاعر عرض على شعبه “اعتماد السخرية والتهكم كأداة سياسية”، ويضيف: “ربما كانت هذه هي القصيدة الأكثر تأثيرا بالنسبة لي في تربيتي لأنها جعلتني أفهم كيف يمكن أن تكون الكتابة أداة مؤثرة”. كما يعتبر فرانتز فانون وغسان كنفاني وأودري لورد من بين الشخصيات التي كان لها أثر في نفس محمد الكرد.
تهجير مستمر
على الرغم من أن تأثيرات بعض الأدباء حاضرة في شعر الكرد، إلا أن تجاربه الحياتية كفلسطيني وتجارب أسلافه المتمرسين هي التي توجه كتاباته. وتعتبر جدته الراحلة رفقة، التي توفيت في سنة 2020، مصدر إلهام مجموعته الأولى.
في مجموعة رفقة الشعرية، لا ينقل محمد الكرد تجربة جدته الشخصية في النكبة فحسب، بل ينقل أيضًا امتزاج روايتها مع القصة الأكبر للخسارة الفلسطينية. طُردت رفقة، التي وُلدت في حيفا، من منزلها وأصبحت لاجئة بين عشية وضحاها. ونظرا لاستمرار تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم ونضال الكرد ضد المستوطنين الإسرائيليين الذين يحاولون الاستيلاء على منزله في القدس، فإن الشاعر قد حُرم من امتياز الانفصال التاريخي عند سرد قصتها. يقول في ذلك:
“صباح يوم من أيام أيار/ مايو 1948 ذي السماء الحمراء/ يمكن أن يكون اليوم. دقوا الأبواب / وزعموا أن حياتنا ملكهم”.
مثل آلام التجريد من الممتلكات المستمرة عبر الأجيال، يستمر أمل العودة الذي يعبر عنه الكرد من خلال رمزية المفتاح الفلسطيني. ويعبر عن ذلك جزء آخر من قصيدته: “سارت بثبات/ “سنعود بمجرد أن تهدأ الأمور” / وكانت مؤمنة / تحمل مفتاحها معها/ حتى تحول مفتاحها ورقبتها وذاكرتها/ إلى نفس اللون.
على الرغم من المواضيع المشتركة المتعلقة بالمرونة والتصميم على استعادة ما هو لهم، يختلف الاثنان في اختيار اللغة. فبينما تكتب ميسون بلغتها الأم العربية، يفضل محمد اللغة الإنجليزية.
منذ سنة 1956، تعيش عائلة رفقة في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة حيث منحتهم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين والحكومة الأردنية منزلًا. بعد احتلال إسرائيل للمدينة بأكملها سنة 1967، شنت مجموعات المستوطنين حملة لمصادرة منازل الفلسطينيين وأراضيهم في الحي.
كان منزل عائلة الكرد هو الخط الأمامي لهذه المحاولات لسنوات، وفي أحد مقاطع الفيديو التي انتشرت بسرعة كبيرة شوهدت شقيقة محمد، منى، وهي تواجه مستوطنا يحتج قائلا: “إذا لم أسرق منزلك، فسوف يسرقه شخص آخر”. ووقع تضمين هذه السخافات الصارخة في أبيات تسرد تجربة الأسرة:
“عاد الغزاة مرة أخرى/ ادعوا ملكيتهم للأرض/ بقبضات اليد/ ونار/ وأعذار/ ومعتقدات المختار والموعود/ كأن الله وكيل عقارات”.
كما تكشف هذه الأبيات عن تأثير والدة محمد، ميسون أبو دويح الكرد، وهي شاعرة مثله التي تقول في أحد أعمالها:
“أنا الشيخ جراح/ هناك رمح في خصري/ ورماح في ظهري/ مرونتي صرح/ أنا البوابة الشمالية للقدس”.
على الرغم من المواضيع المشتركة المتعلقة بالمرونة والتصميم على استعادة ما هو لهم، يختلف الاثنان في اختيار اللغة. فبينما تكتب ميسون بلغتها الأم العربية، يفضل محمد اللغة الإنجليزية.
الكتابة باللغة الإنجليزية
هناك منفعة تكمن وراء قرار محمد الكرد تفضيل الكتابة باللغة الإنجليزية، وهو أمر متجذر في رغبته المعلنة في أن يكون له “تأثير”. وصرح لموقع “ميدل إيست آي” قائلا “أشعر أن الشعب الفلسطيني يعاني من نقص كبير في التمثيل ويتم تمثيله بشكل خاطئ في اللغة الإنجليزية. يتم الحديث عنا كما لو أننا لم نكن موجودين هناك، كما يتم التحدث عنا دون أي وكالة سياسية”.
يقول الشاعر، دون ادعاء التحدث باسم جميع الفلسطينيين، إنه يشعر بالحاجة إلى الكتابة عن فلسطين بطريقة تكون وفية لما يطالب به الفلسطينيون. وهو يعتقد أن الأمر الأهم هو حاجة الفلسطينيين إلى تأسيس عهد جديد في الكتابة والخروج من دور الضحية والتركيز على إنسانيتهم من أجل كسب تعاطف الجمهور الدولي. ويجب ألا يقع عبء الاعتراف بإنسانيتهم على عاتقهم أبدًا.
ونوه الكرد قائلا “إذا كنت لا تستطيع رؤية الفلسطينيين كبشر، فإن المشكلة تكمن فيك. الأمر ليس بسبب افتقار الفلسطينيين للإنسانية – بل لأنك عنصري”. إن مجموعة “رفقة” الشعرية ليست عملا يهدف إلى جعل القارئ يشعر بالأسى تجاه الفلسطينيين، وإنما يصورهم كأصحاب إرادة لديهم القدرة على تحرير مستقبلهم.
حسب الكرد “إذا كنت بحاجة إلى إحضار أختي الصغيرة إلى هنا وإظهار بؤسها أو خوفها أو ذعرها من أجل كسب تعاطفكم مع الفلسطينيين، فحينها ستكون المشكلة في أنا”، مضيفا أن “القضية الرئيسية ليست الإنسانية أو انعدام وجودها، بل حقيقة أننا نتحدث باستمرار عن الضحايا ولا نجرؤ على توضيح من هم الأوغاد الذين يتسببون في موت هؤلاء الضحايا”.
تأثير الدين
تتلخص مهمة الكرد في تشجيع الفلسطينيين على الكتابة وفقا لشروط يضعونها بأنفسهم، وأحد جوانب هذا الدافع حاضر بوضوح في مجموعة “رفقة” ألا وهو التأثير الديني.
يحرص الكرد على التأكيد على أن القضية الفلسطينية ليست قضية دينية ولم تكن قط كذلك، وإنما هي قضية استعمارية. ولكنه مع ذلك، يدرك القدرة الشفائية للإيمان (من أي نوع) بالنسبة للشعب الفلسطيني ويريد الدفاع عن المشهد الأدبي الذي غالبا ما يتم تحديده من خلال النظرة العلمانية للعالم والغياب التام للإيمان. ويكتب الكرد عن الله والقرآن ومعتقداته الروحية دون الشعور بالحاجة إلى الاختباء وراء الاستعارات والتحفظات.
في قصيدة “تهريب بيت لحم”، التي تعتبر من بين قصائده “المفضلة”، تحدث الكرد عن اللحظة التي طلبت فيها والدته منه قراءة آيات من القرآن عندما اقتربوا من نقاط التفتيش العسكرية. كان والده ينوي شراء الفاكهة وأغراض أخرى من مدينة بيت لحم المحتلة بالضفة الغربية وإخفاءها في سيارة العائلة بهدف تجنب الغرامات إذا ما عثر عليها الجنود الإسرائيليون.
استشهد الكرد بالآية التاسعة من سورة “يس” في قصيدته: “وجعلنا من بين أيديهم سدّا/ ومن خلفهم سدّا/ فأغشيناهم فهم لا يُبصرون”. عندما كان صبيا، كان محمد يعزو فشل جنود الاحتلال في العثور على ما اشتروه إلى الحماية التي توفرها هذه الآية.
ويوضح الكرد أن ما قاله في هذه القصيدة حقيقي، وقد ساعده ذلك حقًا عندما كان طفلا على الإيمان بأن لديه نوعا من القوة. وتابع حديثه قائلا: “أعتقد أن الدين لعب دورا بالغ الأهمية في مواساة الشعب الفلسطيني. فأنا لا أعتقد أن الشعب الفلسطيني كان سيتمكن من الصمود لولا الإيمان. نحن نموت باستمرار ونُقتل باستمرار. وأولئك الذين ينعون موتاهم بحاجة إلى إجابات. ويجب أن نكون قادرين على التمسك بفكرة أن أولئك الذين قُتلوا لم يموتوا عبثًا”.
الرقابة
يواجه الكتاب الفلسطينيون تحديا يتمثل في المساهمة في تجاوز معايير الخطاب المقبول. أما التحدي الآخر الذي يواجهونه فهو التمتع بحرية التحدث عن واقعهم اليومي دون أن يتم إسكاتهم.
يستشهد الكرد في خاتمة مجموعة “رفقة” بالراحل غسان كنفاني، الكاتب والمسؤول الفلسطيني في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي اغتيل على يد الموساد، وكذلك والدته التي يقول الكرد إنها واجهت رفضا متكررا لمضمون أعمالها. لذلك، فإن محاولات إسكاته هو وأخته ليست بالأمر الجديد، ويحدد الكرد ثلاثة أنماط للرقابة المسلطة على الفلسطينيين.
يتمثل النمط الأول في الرقابة التي تفرضها دولة إسرائيل، وهي النوع الأكثر وضوحا الذي يؤثر على الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال. اعتقلت القوات الإسرائيلية محمد ومنى في شهر حزيران/ يونيو 2021 بعد أن حظيت حملتهما لوقف عملية الاستيلاء الاستيطاني في حي الشيخ جراح باهتمام عالمي.
تعد الرقابة الذاتية بمثابة النوع الأقل وضوحا وربما الأكثر غموضا والتي غالبا ما ينغمس فيها الكتاب الفلسطينيون لتلبية احتياجات الجماهير الدولية. ويقول الكرد، واصفا هذه العقلية: “أرغب في تهدئة حدة لهجتي، وأختار كلماتي بعناية أكبر لأنه لدي فكرة راسخة بأن هذا الجمهور الذي أمامي قد لا يتقبل هذا الخطاب”.
بالنسبة للنمط الثالث من الرقابة فهو يتمثل حسب الكرد في انحياز بعض قطاعات الإعلام الدولي للصهيونية، ناهيك عن القيود التي نادرا ما تسمح للفلسطينيين بكتابة قصتهم على النحو الذي يرونه مناسبا ويعكس الواقع.
يوضح الكرد “تكتب تقريرا أو مقال رأي لصحيفة أمريكية معروفة فتدخل في جدال مع المحررين للسماح لك بتسمية الأشياء كما هي”. ولكن رغم سخطه، فإن الشاعر الشاب لا يرغب في السماح لأي عقبة باعتراض طريقه. وحيال هذا الشأن يقول: “ليست كل منصة إعلامية منصة جيدة. الحمد لله، أنا صريح بشأن هذا الأمر ولست خائفا من الخوض في نزاع حول هذا الموضوع”.
المصدر: ميدل إيست آي