الصورة: الفيزيائي البريطاني، بيتر هيجز، الذي تنبأ بوجود جسيم هيجز، يهنئ فابيولا جيانوتّي بعد تقديمها لنتائج تفيد باكتشاف الجسيم في سِرن عام 2012.
أعلن مجلس سيرن (CERN)، المنظمة الأوربية للبحوث النووية في جنيفا بسويسرا، أن الفيزيائية الإيطالية فابيولا جيانوتّي ستتولى مهام المدير العام للمنظمة في يناير 2016، ولمدة خمس سنوات، في سابقة هي الأولى من نوعها لامرأة في مجال فيزياء الجسيمات.
كانت فابيولا جيانوتي، البالغة من العمر 52 عامًا، قد جذبت الأنظار عام 2012 لدورها في اكتشاف جُسَيم بوزون هيجز (Higgs Boson)، الذي تنبأ بوجوده الفيزيائيون النظريون لسنوات، بعد تجربة باستخدام مصادم الهادرونات الكبير (LHC)، المصادم الأكبر في العالم (يبلغ قطره 27 كيلومتر تحت الأرض).
تعمل المصادمات عبر إطلاق جسيمات في مسارات طويلة وتسريعها بطاقات عالية حتى تصل للسرعات المطلوبة، ثم تتم عملية اصطدامها ببعضها البعض لتنتج جسيمات من أنواع أخرى لوقت قصير، يقل عن الثانية الواحدة، ويمكن للجهاز الكشف عنها، وهو ما يؤكد أو ينفي النظريات الكثيرة التي يعج بها مجال الفيزياء فيما يخص ماهية الجسيمات الأساسية — دون النووية — المشكلة للمادة والطاقة في الكون.
تعمل فابيولا بسيرن منذ عام 1987، بُعَيد حصولها على درجة الدكتوراه في الفيزياء التجريبية دون النووية من جامعة ميلان، وستحل محل المدير الحالي، رولف هويَر، الذي قاد المركز في فترة حرجة بعد بدء تشغيل مصادم الهادرونات الكبير، والذي سُيعاد تشغيله في ربيع العام المقبل بضعف قوته السابقة.
في عام 2009 ترأست فابيولا المشروع التعاوني أطلس، واحد من فريقَين من علماء من عشرات البلدان عملا في سِيرن، لتحليل بيانات مصادم الهادرونات الكبير، والتقاط الخيوط المؤدية لجسيم هيجز، وهو ما نجحوا فيه في النهاية، وأدى لحصول الفيزيائي البريطاني بيتر هيجز، وزميله البلجيكي فرانسوا إنجلر، على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2013، بعد ثبوت تنبؤهما باكتشاف الجسيم تجريبيًا، وكان الفيزيائيان قد عملا بشكل منفصل في الستينيات وطرحا فكرة وجود جُسيَم يقوم بإضفاء خاصية الكُتلة على المادة في الكون.
كان الهدف الرئيسي من المصادم هو اكتشاف جسيم هيجز، أما وقد تمت تلك المهمة وبسرعة إبان بنائه وتشغيله، فسيتم توجيهه الآن لأهداف أخرى منها محاكاة على مستوى الجسيمات للظروف الشديدة التي شهدها الكون بُعَيد الانفجار الكبير الذي أدى لظهور الكون، وهو ما سيتيح للعلماء اختبار النظريات القائمة في علم الكون فيما يخص كيفية نشوء المادة وتشكّل الجسيمات بشكلها الحالي، وماهية الطاقة المظلمة التي تشكل 70٪ من الكون، والمادة المُظلمة التي تشكل حوالي 25٪ (نحن وكل المادة المرئية حولنا لا نشكل سوى 5٪ من الكون!)
سيتسنى لفابيولا إذن أن تقود المركز وهو يمر عبر مرحلة مثيرة من تاريخه، وقد قالت بعد إعلان توليها المنصب: “إنه لشرف كبير، ومسؤولية كبيرة، أن يتم اختياري مديرة لسِرن. سِرن هي معقل من معاقل الامتياز العلمي في العالم، وواحدة من مصادر فخرنا وإلهامنا كفيزيائيين من شتى أنحاء العالم، وهي مركز رئيسي للتكنولوجيا والإبداع، ومثال حي على التعاون العلمي العالمي. هذه التوليفة هي ما يجعلها مكانًا فريدًا. سأفعل كل ما بوسعي للحفاظ على امتياز سِرن في كل المستويات، وبمساعدة الجميع هنا، بما فيهم مجلس سِرن، وطاقم العاملين، وكافة مستخدميها حول العالم.”
بدوره، قال رولف هوَير، المدير الحالي: “فابيولا اختيار ممتاز. لقد كان شرفًا لي أن نعمل سويًا لسنوات، وأنا أتطلع إلى استمرار العمل معها العام المقبل قبل أن تنتقل لها قيادة سِرن، والتي أثق أنها ستكون بأيدٍ أمينة”، في حين قال نايجل لوكيَر، مدير معمل فرمي لاب في ولاية إلينوي الأمريكية (مركز لتسريع الجسيمات ولكن أصغر من مصادم الهادرونات الكبير): “فابيولا عالمة رائعة، وقادت أطلس لاكتشاف عظيم، وهي معروفة جيدًا في شتى أنحاء العالم، وتعى أن فيزياء الطاقة العالية هو بالأساس مجهود عالمي تقع سِرن بالقلب منه”، بينما قال زميلها جويدو تونللي، المتحدث باسم مجموعة سي إم إس، المنافسة لأطلس: “منهج فابيولا في الإدارة يعتمد على الاستماع للجميع جيدًا، والنظر طويلًا وبتأني في التفاصيل، ورُغم أن أطلس وسي إم إس كانا متنافسين، إلا أننا حافظنا على صداقة وثيقة طوال رحلة البحث عن هيجز.”
أضافت فابيولا في المؤتمر الصحفي أن استغلال مصادم الهادرونات بشكل كامل للوصول إلى أعلى الطاقات بتكلفة معقولة سيكون الأولوية الأهم والهدف الأساسي بالنسبة لها، وأنه سيكون على سِرن بشكل عام أن تنظر لما بعد المصادم نفسه، والاستمرار في تطوير تكنولوجيا المصادمات في المستقبل.
كان البحث عن فرصة في عالم الموسيقى واحدًا من أحلام فابيولا في يوم من الأيام، وهي عازفة بيانو محترفة وحاصلة على دبلومة في الموسيقى من كلية الكونسرفاتوريو الموسيقية في ميلان، قبل أن تتجه للفيزياء والتي حصلت بفضلها على العديد من الجوائز المرموقة، بيد أن قيادة سِرن ستكون بالقطع هي الجائزة الأهم لها، والمحطة الفاصلة في مسارها العلمي.