تسير الأمور في السودان نحو تغييرات جذرية ربما تطيح بحكومة عبد الله حمدوك، في ظل تصاعد الضغوط والدعوات التي تطالب بتشكيل حكومة جديدة خارج إطار تحالف “الحرية والتغيير” التي في الغالب ستكون أكثر ولاءً للمكون العسكري في خطوة يصفها البعض بـ”الانقلاب على ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018″.
نجح جنرالات السودان في نصب فخ محكم لشركاء الحكم المدنيين، استغلوا فيه فشل الأخير في إدارة البلاد والتقوقع داخل حلبة صراع النزاعات الداخلية بعيدًا عن هموم المواطن ومشاكله، ما كان له أبلغ الأثر في تشويه صورتهم لدى الشارع الذي بدت إرهاصات الانقسام حيال السلطة الانتقالية الحاليّة تسيطر على ملامحه.
النزاع المكتوم بين العسكر والمدنيين، الذي خرج للعلن خلال الساعات الماضية، بعدما بات اللعب على المكشوف، يأتي قبل شهر واحد فقط من انتهاء رئاسة المكون العسكري لمجلس السلطة الانتقالي، ويفترض أن ينتقل بالتبعية إلى المكون المدني، بحسب الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019، في توقيت مثير للجدل، أثار الشكوك بشأن نوايا العسكريين في التخلي عن رئاسة المجلس.
رئيس الحكومة عبد الله حمدوك، الذي بدأ يستشرف مخطط الإطاحة به ورفاقه، خرج بالأمس في خطاب متلفز، يطالب بإنقاذ ما يمكن إنقاذه للحفاظ على مكتسبات الثورة وتعزيز مسار الانتقال الديمقراطي، وسط دعوات لتظاهرات في الـ21 من الشهر الحاليّ لمناصرة التطور الديمقراطي ودعم مدنية الدولة.. فهل ينجح حمدوك في الإفلات من المقصلة التي نصبها العسكريون؟
النزاع بين المكونين.. من السر للعلن
لم يكن العسكر والمدنيون على قلب رجل واحد يومًا ما، رغم التصريحات المتبادلة بشأن تشاركية الحكم والعمل معًا لأجل عبور المرحلة، فكل ما قيل في هذا الإطار ما كان إلا تسكينًا للشارع القلق، وتخديرًا للرأي العام المؤرق بتجارب الماضي، ليبقى النزاع أسير الخفاء والسرية قبل أن يخرج للنور.
كلا المكونين، العسكري والمدني، كان يسعى لتعزيز أركانه قدر الإمكان، فالأول الذي يملك القوة والأذرع النافذة في الدولة العميقة، وتربطه تشابكات معقدة مع تيارات المجتمع بشتى انتماءاتها، حاول منذ الوهلة الأولى فرض كلمته، حين استبق الأحداث وعزل الرئيس عمر البشير، حسب البيان الذي أعلنه وزير الدفاع السوداني السابق، عوض بن عوف، في 11 من أبريل/نيسان 2019.
أما المكون المدني الحاليّ وحاضنته الأم (قوى الحرية والتغيير) فلم يختلف كثيرًا عن الجنرالات، رغم قدومه في الأساس من رحم الثورة، غير أن محاولة الاستئثار بالحكم وإزاحة العديد من الكيانات الثورية الأخرى من المشهد، وانتهاجه الإستراتيجية الميكافيللية البرغماتية التي سمحت له بالارتماء في أحضان العسكر والأمريكان في آن واحد، قادته إلى ذات الإطار العسكري المشين.
حاول كلا الطرفين إيهام الشارع بالتنسيق والتناغم بينهما، غير أن الأيام تباعًا كشفت حجم النفور والصراع المكتوم، الذي بدأ يخرج للعلن مع قرب انتهاء فترة رئاسة العسكر للمجلس الانتقالي، كاشفين عن وجههم الحقيقي، مسقطين القناع المزيف الذي ارتدوه لأكثر من عامين ونصف تقريبًا، ساعدهم على ذلك محور الثورات المضادة التي تقوده بعض العواصم الخليجية، الذي وفر لهم الدعم المادي والسياسي.
وشيئًا فشيئًا بدأ مخطط الانقلاب على مدنية الدولة ومكتسبات الثورة يكشف ملامحه، البداية كانت بالتراشق السياسي واللفظي بين المكونين، أسفر عن تعطيل عمل المجلس السيادي، مرورًا برفض العسكر التعامل مع المكون المدني، وصولًا إلى تحميل التيار المدني المسؤولية الكاملة عما وصلت إليه البلاد من انهيار على المستويات كافة.
وبعد التصريحات الوردية الإيجابية عن الالتزام بالوثيقة الدستورية ودعم الانتقال الديمقراطي، بدأ الحديث الآن عن ضرورة بقاء العسكر في السلطة قدر الإمكان حتى تصل الأمور إلى بر الأمان، والعزف على وتر عدم قدرة المدنيين على حمل شارة القيادة في ذلك التوقيت لما تفتقده من خبرات سياسية واتساع الهوة بينهم وبين الشارع المحتقن بسبب الفشل في التعاطي مع ملفاته الحياتية الحساسة.
المدنيون.. هدية على طبق من ذهب
تحميل الجنرالات وحدهم مسؤولية الانقلاب على الديمقراطية توجه غير موضوعي، يُبقي على الأزمة، إن لم يزدها تعقيدًا، ومن ثم فإن التشخيص الدقيق للوضعية الحاليّة يضع المدنيين في مرمى الإدانة والانتقاد كذلك، ويحملهم جزءًا من المسؤولية، بصرف النظر عن حجمها وحدود تأثيرها.
قلة الخبرات السياسية للحكومة المدنية وحاضنتها السياسية ربما يكون عاملًا مهمًا في الفشل، لكن العامل الأبرز حضورًا الذي أعطى العسكر قبلة الحياة مرة أخرى، الانقسام السياسي والتشرذم الذي مُنيت به قوى “الحرية والتغيير”، وهي آفة النخب السياسية عمومًا بعد ثورات الربيع العربي.
الانسحابات المتتالية لأحزاب وكيانات كبرى من التحالف مثل الحزب الشيوعي و”تجمع المهنيين السودانيين”، والتورط في مستنقع المحاصصة الحزبية في التشكيل الحكومي، فتح الباب على مصراعيه أمام الخلافات والانقسامات الحادة بين أعضاء المكون الواحد، ما تسبب في إجهاض مسيرته وشل حركته.
اعتماد التحالف المدني على الشارع غير المنظم فقط، كحاضنة سياسية في مواجهة نفوذ العسكر، في حقيقته بناء غير مكتمل، ومخالف لشروط ومعايير الترقي الممنهج، خاصة أن الشارع رغم ما يمثله من قوة، يعاني من قصر النفس والإرهاق السريع، الأمر الذي يجعل من السهل استئناسه تحت وقع الأزمات الاقتصادية، التي يملك الجنرالات أغلب مفاتيح حلها في الوقت الراهن، ومن ثم يمكن استغلال هذا المقوم المدني كمعول للهدم، وهو ما قد كان.
التشرذم والانقسام السياسي من جانب، واستعداء قطاع كبير من حلفاء وشركاء الثورة من جانب آخر، والفشل في التعاطي مع الملفات الحياتية ثالثًا، كل هذا سحب من رصيد المكون المدني شعبيًا، وهنا وجد العسكر فرصتهم السانحة للإجهاز على ما تبقى من هذا التيار، الذي يمثل – هكذا يفترض – تهديدًا صريحًا لنفوذ الجنرالات السياسي.
العسكر لا يرفضون الهدايا المجانية
رغم الضغوط والعراقيل التي وضعها العسكر في طريق الانتقال الديمقراطي للبلاد، ومنح المدنيين حقهم في إدارة المرحلة، فإن الهدايا المجانية التي قدمتها الحكومة وحلفها السياسي المنقسم على نفسه، ما كان يمكن على الإطلاق أن تُرفض من العسكر الطامح في الاستئثار بالسلطة، لكنه كان في انتظار الفرصة المواتية التي تسمح له بتنفيذ أجندته بعد القضاء على المنافس والخصم السياسي الوحيد عبر التشكيك في شرعيته شعبيًا.
وفي تلك الأجواء الداعمة لمخطط الانقلاب على الثورة، جاءت احتجاجات الشرق التي رغم أنها لم تكن المرة الأولى، فإن الحكومة لم تتعلم من الدرس وتجاهلت ما يحدث، مكتفية بإجراءات تسكينية ساهمت فيما بعد في تأجيج الولايات الشرقية حتى وصل الأمر إلى رفع شعار “إقالة الحكومة” كمطلب أساسي لإنهاء تلك الاحتجاجات التي تشل حركة التجارة في البلاد، نظرًا لما تمثله تلك المنطقة من أهمية إستراتيجية، إذ تتحكم في أكثر من 70% من حركة التجارة الخارجية لبلد يعاني من أوضاع اقتصادية متدنية.
طيلة عقود طويلة يعاني شرق السودان من تهميش وإهمال متعمد، لكن تسخين الأوضاع في الأيام الأخيرة وبتلك الصورة غير المسبوقة، كان مثار تساؤل وجدل في آن واحد، بل إن تصعيد المطالب والشروط إلى حد التمسك بإزاحة الحكومة الحاليّة وتعيين أخرى، بمواصفات تميل ناحية الأجندة العسكرية، لم يكن بالتطور العفوي، ما أثار الشكوك بأن ما حدث وما زال يحدث بفعل فاعل، لا سيما في ظل الصمت الغريب والتجاهل الفاضح للمؤسسات العسكرية والأمنية التي ارتأت لنفسها أن تقف موقف المتفرج دون أن تحرك ساكنًا إزاء تلك التطورات التي تهدد اقتصاد البلاد وتنذر بحرب أهلية وعزل العاصمة عن مرافئ الدولة البحرية.
لم يكد يستفق حمدوك وحكومته من ضربة الاحتجاجات الشرقية المستمرة حتى اليوم، حتى تلقوا ضربة جديدة، لكنها هذه المرة من المكون العسكري مباشرة دون وسطاء، وذلك حين دعا إلى توسيع الحاضنة السياسية عبر ما سمي بـ”الميثاق الجديد” عبر إدخال قوى منشقة عن قوى “الحرية والتغيير” للمشهد السياسي، هذا بخلاف ما قيل بشأن إصرار الجنرالات على إدخال قوى كانت حليفة للمؤتمر الوطني المنحل.
وبينما تتصاعد ألسنة الاحتجاجات والانتقادات السياسية إزاء أداء الحكومة بدأت تخرج العديد من الأصوات التي تطالب بحل الحكومة الحاليّة، بعض تلك المطالب صادرة عن أحزاب سياسية مدنية، هذا بخلاف الشارع الذي يعاني من حالة غليان جراء الوضع الاقتصادي المترهل والفوضى الأمنية والسياسية الراهنة.
لم يجد العسكر أفضل من تلك اللحظة لتنفيذ مخططهم الانقلابي، لتخرج التصريحات الرسمية الصادرة عن جنرالات المؤسسة العسكرية كاشفة عما في الصدور من نوايا مبيتة، فها هو المستشار الإعلامي لرئيس مجلس السيادة، الطاهر أبو هاجة، يعلق على مطالب حل الحكومة قائلًا: “الحكومة حلت نفسها عندما حلت الحبل الذي يربطها بالشعب فصار في حلٍ عنها وإن لم نصدر القرار الصعب اليوم فسيكون عصيًا غدًا حتى القرار الأصعب”.
خيوط اللعبة تجلت بصورة أوضح خلال اليومين الماضيين، حين طالب رئيس مجلس السيادة من حمدوك تجميد عمل لجنة إزالة التمكين (أحد أقوى أسلحة الثورة في القضاء على نظام الإنقاذ) وذلك بعد ساعات قليلة من الخطاب الذي ألقاه البرهان أمام كبار ضباط الجيش بأكاديمية نميري العسكرية، الأربعاء 13 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، وقُوبل بحماس شديد من الضباط الذين طالبوه بإجراء إصلاحات عاجلة لوقف تدهور الأوضاع بالبلاد، حينها أذرف الجنرال دموعه.
استفاقة متأخرة
استشعر حمدوك أن مسرحية الإطاحة به باتت في فصولها الأخيرة، لذا كان التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، آملًا في قلب الطاولة في الأمتار الأخيرة من سباق النفوذ المحتدم بينه وبين العسكر، موجهًا دعوة عامة لكل شركاء الثورة من الأحزاب والكيانات والمنظمات، بشتى أيديولوجياتها، لإنهاء الخلاف وتوسيع قاعدة الانتقال، معلنًا عن خريطة طريق مع الأطراف السياسية لحل ما وصفه “بأسوأ وأخطر” أزمة سياسية تهدد الانتقال السياسي على مدى عامين.
رئيس الحكومة في خطابه المتلفز أمس الجمعة 15 من أكتوبر/تشرين الأول، كشف أن محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في أواخر سبتمبر/أيلول الماضي كانت “الباب الذي دخلت منه الفتنة، وخرجت كل الخلافات والاتهامات المُخبأة من كل الأطراف من مكمنها، وهكذا نوشك أن نضع مصير بلادنا وشعبنا وثورتنا في مهب الريح”.
كما وصف الصراع الحاليّ بأنه ليس بين العسكريين والمدنيين، لكن بين أولئك الذين يؤمنون بالانتقال نحو الديمقراطية والقيادة المدنية ومن لا يؤمنون بذلك، مضيفًا “هو صراع لست محايدًا فيه أو وسيطًا.. موقفي بوضوح وصرامة، هو الانحياز الكامل للانتقال المدني الديمقراطي”، موضحًا أنه “ليس محايدًا أو وسيطًا في الصراع الحاليّ بين المدنيين والعسكريين وموقفي بوضوح وصرامة هو الانحياز الكامل للانتقال المدني الديمقراطي ولإكمال مهام ثورة ديسمبر/كانون الأول”.
حمدوك لفت إلى أنه تحدث إلى كلا الجانبين، العسكريين والمدنيين، وقدم لهما خريطة طريق دعت إلى إنهاء التصعيد واتخاذ القرارات الأحادية والعودة إلى حكومة فاعلة، مشددًا على أهمية تشكيل مجلس تشريعي انتقالي وإصلاح الجيش وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، معلنًا أن حكومته تُجري اتصالات لترتيب مؤتمر عالمي لمعالجة أزمات شرق السودان.
يحاول رئيس الحكومة الانتقالية تبريد الأجواء نسبيًا مع المكون العسكري في الوقت الراهن (نحترم المؤسسة العسكرية ونقدر دورها ولا نحملها أوزار المحاولات الانقلابية)، نظرًا لعلو موجة الهجوم التي يتعرض لها، لكنه في الوقت ذاته بدأ في مغازلة الشارع مرة أخرى (نؤكد أن الشعب السوداني قادر على اجتياز كل المحن ليخرج منها أكثر قوة) رغم اتساع الهوة بينهما في أعقاب تجاهل آلامه والاكتفاء بملفات ليست على قائمة أولويات محدودي ومتوسطي الدخل في البلاد.
الرهان على الشعب في تلك الأثناء رهان محفوف بالمخاطر بعدما نجح العسكر – بمساعدة المدنيين – في تعميق هوة الخلاف بين القوى الثورية المشاركة في السلطة حاليًّا والمواطنين، ومع ذلك يصر البعض على الارتكان لهذا الخيار الوحيد، كما أشار عضو لجنة إزالة التمكين وجدي صالح بقوله: “لا مكان للحياد والوطن على المحك ولا رهان إلا على الشعب”.
الخناق يضيق على حمدوك ساعة تلو الأخرى، وسط إصرار عسكري واضح على الإطاحة به وتعيين حكومة موالية للجنرالات، حتى إن كانت ذا سمت مدني ظاهري، الأمر الذي يضع رئيس الحكومة ورفاقه في سباق مع الزمن لتفويت الفرصة لإعادة عقارب الزمن مرة أخرى لما قبل 19 من ديسمبر/كانون الأول 2018.. فهل تنجح جهود الإنقاذ؟