رغم كون الحكومتان التونسيتان السابقتان بعد انتخابات 2019 من تكليف رئيس الجمهورية قيس سعيّد وليس من أحزاب الأغلبية البرلمانية (حركة النهضة)، إلا أنهما لم تصمدا بحكم الحزام السياسي الضروري للتزكية من الكتل داخل مجلس نواب الشعب، فانبرى رئيس الجمهورية للمضي قدمًا في قصّ جناحَي حكومتَي إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي حتى أسقطهما.
ولمّا أدرك الرئيس فشله في قيام حكومة موالية له، قام بإعلان الإجراءات الاستثنائية لضمان انصياع الحكومة الجديدة لأوامره في خرق للدستور الذي أجمع عليه كل التونسيين، وللتفرُّد بالحكم في تغييب تامٍّ لمؤسسة البرلمان، وفي سابقة بتونس والعالم، وفي ضرب للشرعية والمشروعية، ليقدّمَ مشروعًا بديلًا بحزام انقلابي عبر تعيين موظفين تحت إمرة الرئيس حتى لا يعصونه في شيء ويفعلون ما يؤمَرون، وذلك في تقاطُع مصالح مع المنظومة السابقة الموسومة بالفساد والنهب، والتي على أساسها قامت عليها الثورة التونسية التي ألهمت العالم العربي.
حزام انقلابي
جرّب رئيس الجمهورية قيس سعيّد تشكيل حكومة من طرفه (حكومة الرئيس) مرّتَين ولم يفلَحْ (بعد فشل حكومة الحبيب الجمني في نيل الثقة)، فكان الحصاد المرّ إثر تعيينه أولًا لإلياس الفخفاخ، الذي لم تكن حكومته أغلبية برلمانية، بقدر ما تشكّلت من الأذرع السياسية لقيس سعيّد.
ثم عيّن هشام المشيشي رئيسًا للحكومة فانسلخَ عنه لغياب الحزام السياسي لتزكيته برلمانيًّا التي ستشرّع ما ستنفّذه الحكومة، وهي الصلاحيات التنفيذية التي ستكون خارج صلاحيات رئيس الدولة المكلَّف تقريبًا بملفَّي الخارجية والدفاع فقط، بالتالي توسّعَ رئيس الجمهورية خارج حدود صلاحياته الدستورية، ليستولي على الدستور كله في 25 يوليو/ تموز المنقضي بعد أن باءت كل محاولات استقطاب رؤساء الحكومات.
وقد جاءت حكومة الرئيس الأخيرة (حكومة نجلاء بودن) بطعم انقلابي، من خلال تطعيمها بوزراء من تنسيقيات قيس سعيّد التي ساندته خلال الحملة الانتخابية للرئاسة، لتحلَّ محل الحزام السياسي البرلماني لكون الرئيس يفتقد إلى ذلك برلمانيًّا لأنه ترشّح بصفته مستقلًّا.
وبالتالي لا غرابة أن تضمَّ حكومة قيس سعيّد وزيرَين منسِّقَين من تنسيقياته الشبابية في كل من سوسة ومنوبة، وهما وزير الداخلية توفيق شرف الدين، ومالك الزاهي وزير الشؤون الاجتماعية ابن المنصف الزاهي، الأمين العام الأسبق لاتحاد الشغل، والذي كان مكلَّفًا بالوظيفة العمومية.
وقد تمّت محاكمة مالك في قضية سليمان الإرهابية (وردَ اسمه في قائمة الموقوفين في قضايا الإرهاب في التعليق رقم 624)، التي حدثت زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
ومع ذلك الوزير متهرِّب ماليًّا من صندوق الضمان الاجتماعي، فكيف يكون ذلك ورئيس الجمهورية اتَّكأ على عامل مقاومة الفساد للتعسُّف في تأويل الفصل 80 من الدستور؟ وهل هي بادرة حسن نية ومغازلة لاتحاد الشغل بتوزير أحد أبناء الأمناء العامين السابقين؟
الأغرب من ذلك أن يقول الرئيس دائمًا إنه أخّرَ الإفصاح عن الحكومة للنظر في نظافة الأشخاص، وهو الذي رفضَ تمرير حكومة المشيشي المعدَّلة بحُجّة وجود وزراء فاسدين فيها، ليأتي بحكومة نجلاء بودن بأسماء مشمولة بالعفو التشريعي، وهي التهمة التي ردّدها رئيس الجمهورية وأنصاره بتعلّة إسقاط الدولة وإغراقها بالوظيفة العمومية، والرفع من كتلة الأجور وإرهاق الموازنة العامة.
إن تعيين بعض الأسماء من تنسيقيات الرئيس قد يعكس سياسة التخبُّط والعجلة، فقيس سعيّد لم يكن ليعلن حكومته، خاصة أن الفترة الاستثنائية مستمرّة إلى أجل غير مُسمّى، فالمسارعة في تسمية أعضاء الحكومة، وأداؤهم اليمين الدستورية بعد ساعات فقط من إعلان التركيبة الحكومية، قد حدثا بسبب الضغوط الكبيرة التي لم تنفكّ الإدارة الأمريكية تمارسها على قصر قرطاج.
فقد حدد الأمريكيون منتصف الشهر الجاري كتاريخ لعقد جلسة بمجلس الشيوخ (الكونغرس) حول الوضع السياسي بالبلاد التونسية، وتناوُل وضع الديمقراطية فيها، ناهيك عن الخطوات المستقبلية على مستوى السياسة الأمريكية، ومعلوم قلق إدارة بايدن الذي عبّرت عنه باستمرار الإجراءات الاستثنائية المتّخذة دون رؤية واضحة.
القول إن كتلة داعمي الرئيس متجانسة كلامٌ مبالغٌ فيه، فقد انفضَّ مِن دعمه كثيرون بعد عدم تحقُّق وعود مكافحة الفساد وضرب الفاسدين وتفكيك منظومتهم
تلك الرؤية كان من الضروري أن تكون معلومة ومعلنة على رؤوس الأشهاد، حتى لا تكون هناك مؤاخذة على الخطر الداهم والجاثم الذي تذرّع به الرئيس للقيام بالانقلاب، بل لا نعلم إلى حد الآن ما هذا الخطر تحديدًا، وكيف سيواجه الخطر الذي يقول تارة إنه يكمن في البرلمان والبرلمانيين، وكأن الخطر قد زال بغلق البرلمان وسجن بعض البرلمانيين، وتارة أخرى في الواقفين ضده الذين تدرّج في وصفهم من الخونة إلى المخمورين والحشرات فالشياطين.
بل إن الخطر الحقيقي المحدق بالجميع هو استمرار الوضع على هذا المستوى من الغموض، دون تسقيف زمني للإجراءات الاستثنائية، فهناك مكامن الخطر على جميع المستويات، كما أقرّت مجموعة دول السبع والكونغرس الأمريكي ومفوضية الاتحاد الأوروبي الذين استشعروا خطورة القفز على المستوى التشريعي.
هذا ناهيك عن الصورة السيّئة التي باتت عليها البلاد في ظل غياب الاستقرار السياسي مع إعلان تأجيل القمة الفرنكفونية بجزيرة جرية، فضلًا عن غياب الاستقرار الاقتصادي بعد المؤشر السيّئ لترقيم وكالة الائتمان السيادي “موديز” لتونس، وبالتالي هزّ ثقة المانحين الدوليين والمستثمرين على حد سواء.
التقاطع مع “السيستم”
بعيدًا عن الشرعية، يدّعي أنصار قيس سعيّد المشروعية للرئيس، وهي “تفويضه” في مظاهرات 25 يوليو/ تموز الماضي بحجّة أن الشعب راضٍ عنه حتى لو جاء بشكل غير شرعي، رافضين الأعراف القانونية والدستورية مثل الاستفتاء أو إجراء انتخابات مبكّرة، وهما الوسيلتان الوحيدتان التي يمكن أن يبقى فيهما رئيس في السلطة أو يغادرها، فالمشروعية الثورية ليست فعلًا دائمًا بقدر ما هي فعل تاريخي متباعِد زمنيًّا ومكانيًّا.
وفي المشروعية أيضًا، فإن القول بكون كتلة داعمي الرئيس متجانسة كلامٌ مبالغٌ فيه، فقد انفضَّ مِن دعمه كثيرون بعد عدم تحقُّق وعود مكافحة الفساد وضرب الفاسدين وتفكيك منظومتهم، ومسيرة 25 سبتمبر/ أيلول الماضي التي حضرها بضع عشرات أحرقوا خلالها دستور البلاد خير دليل، لأسباب موضوعية ربما منها بوادر لظهور منظومة جديدة هي أقرب إلى منظومة “السيستم” القديمة أو الدولة العميقة، أي العودة إلى الاستبداد.
هذه المنظومة مهّدت لها رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، من خلال ترذيل المشهد النيابي وتشويهه حتى يسأم عامة الناس المؤسسة التشريعية، وهو ما اتّخذه أنصار الرئيس في ما بعد مطلبًا خلال مظاهرات تنادي بحلّ البرلمان.
أقرّت عبير موسي بعظمة لسانها أن رئيس الجمهورية عيّن رئيسة لوزرائه تجمعية للنخاع، وكانت تحضر جميع اجتماعات حزب التجمع المنحلّ، كما أن ثُلثَي وزرائه ينتمون أيضًا إلى التجمع الدستوري، حزب الرئيس المخلوع بن علي.
وهنا يمكن الحديث عن تقاطُع أو تحالُف أداء منظومة الثورة المضادة مع منظومة الانقلاب في غلق البرلمان، وترك الدولة من دون مجلس تشريعي في سابقة تاريخية.
بل إن قيس سعيّد لم يُقدِمْ على حلّ البرلمان واكتفى بتعطيله، لأنه يدرك أن حلَّ مجلس نواب الشعب يتطلّب انتخابات مبكرة وفق الدستور، ثم لجأ إلى تحصين نفسه من أية طعون بالمرسوم 117، أو ما يمكن تسميته بالدستور الصغير للانقلاب.
كل ذلك جاء بدعم من المنظومة القديمة ممثَّلة في كتلة رئيسة الحزب الدستوري عبير موسي (التي قالت مؤخرًا إن الرئيس اشتغل معها)، لدورها في إعادة تشغيل ما يُسمّى بـ”الماكينة” للاشتغال على استئصال المشهد الديمقراطي، سواء داخل البلاد أو على المستوى الدولي.
كذلك أقرّت عبير موسي بعظمة لسانها أن رئيس الجمهورية عيّن رئيسة لوزرائه تجمعية للنخاع، وكانت تحضر جميع اجتماعات حزب التجمع المنحلّ، كما أن ثُلثَي وزرائه ينتمون أيضًا إلى التجمع الدستوري، حزب الرئيس المخلوع ابن علي.
هذا التساوق في المواقف بين الانقلاب والمنظومة القديمة يبدو ظرفيًّا، فرئيس الجمهورية يؤمن بانتهاء زمن الديمقراطية النيابية القاعدية والمجالسية إلى زمن “الكومونات” أو المحليات، التي سيتمّ تصعيدها إلى الجهويات ثم عن طريق القرعة إلى مجلس النواب، دون أن ينتخَبوا انتخابًا مباشرًا من عامة الشعب.
إلا أن المنظومة الاستبداية تسعى إلى العودة إلى النظام الرئاسي الاستبدادي بمعارضة مشوَّهة أو معارضة “الديكور”، كما كان يُطلق عليها زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، أما بقية المنظمات كاتحاد الشغل فهي تدعم الرئيس إلى حد تحقيق مصالحها.
شبح المخلوع
شكلًا ومضمونًا ظهرَ أول مجلس وزاري لقيس سعيّد على طريقة النظام المخلوع نفسها، لغة خشبية تدعو إلى ضرورة “رفع التحديات” في كلام مرسَل متماهٍ مع مصطلحات بن علي، وحرصَ الرئيس بعد انعقاد المجلس الوزاري على الإمعان في إهانة المؤسسة البرلمانية في يوم تنصيب الحكومة نفسه، حيث عوض تمريرها على البرلمان قام قيس سعيّد بإقالة مستشاري ديوان رئيس البرلمان ومسؤوليه.
ورغم تسويق رئيس الجمهورية لصورة المرأة كأول تونسية ترأس حكومة، فهي تعدّ إهانة لها كونها على رأس انقلاب دستوري كما رأى ذلك كثيرون، ثم ليست هذه أول رئيس حكومة يكلِّفها قيس سعيد، فلماذا لم يَختَر امرأة خلال المرة الأولى عندما اختار إلياس الفخفاخ والمرة الثانية عند اختياره هشام المشيشي؟
لذلك يبدو أن العملية متاجرة ومغازلة ليس أكثر، كما فعل الرئيس السابق الباجي قايد السبسي مع فارق التوظيف بين شعبوية قيس سعيّد والخزان الانتخابي للباجي، مع فارق الخبرة والحنكة والظرفية الزمنية أيضًا.
وفق كل ذلك، تعدّ نجلاء بودن شخصية تكنوقراطية مختارة من أجل تحسين الوضع الاقتصادي المالي والصحّي والاجتماعي، بينما غير معروف احتكاكها بالبيئة السياسية والاقتصادية، ما قد يجعلها مجرد منفِّذة أوامر أو موظفة سامية لدى الحاكم بأمره، لا تتحرك إلا في نطاق ما أعطاها قيس.
هذه الهواجس لم تغب عن الداخل والخارج، إذ بعد يوم من إعلان تشكيلة حكومة نجلاء بودن رحّب بيان باسم المتحدث بوزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، بوجود 10 وزيرات من بين 25 وزيرًا، لكنه شدّد على الأهم وهما أمران: معالجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ثم التأكيد على المسار الذي يجب أن يكون دون إقصاء (يشمل الجميع)، والعودة إلى النظام الدستوري التي بحسب البيان يجب أن تكون “سريعة”.
وأكثر من ذلك كانت لهجة مسؤول العلاقات الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، حيث قال إن “تعيين رئيسة حكومة لا يعني تجاهل ضرورة العودة إلى السلطات الدستورية المقرَّرة” والفصل بين السُّلط.
وتفاديًا لصراع الجبهات وكثرة الاستقطاب، يستوجب إيجاد أرضية مشترَكة نحو تعديل سياسة الأمر الواقع للانقلاب، وتحويل المسار الانقلابي إلى برنامج إصلاحي وطريق لتصحيح مسار حقيقي، لا كما يدّعي أنصار الرئيس الذي باتَ بعضهم يتحدث عن التأسيس لمسار جديد، وهو في جوهره ليس إلا عودة إلى القديم للبناء عليه.
وعليه يبدو أن تونس حاليًّا لم تتجاوز مرحلة الوصاية الانقلابية رغم محاولات ذرّ الرماد في العيون بإعلان عن الحكومة، وذاك لن تهدأ خواطر كثيرين ما لم يتمَّ تسقيف المرحلة الاستثنائية، حينها يمكن أن نعتبرها مرحلة انتقالية جديدة، على أن يتمَّ تنظيم انتخابات عامة بحكومة غير معنية بالمشاركة فيها، حتى تحظى بالمصداقية والنزاهة.