مع قرب إكمال المفوضية العليا المستقلة للانتخابات عمليات العد والفرز الخاصة بنتائج الانتخابات، واتضاح ملامح الأوزان الانتخابية للتحالفات السياسية المشاركة فيها، حتى بدأت بعض هذه التحالفات ماراثون تشكيل الكتلة الكبرى في البرلمان، والبدء بعملية تشكيل الحكومة المقبلة، وبما أن العرف الدستوري الذي نشأ بعد عام 2006، المتضمن عملية تقسيم (طائفي سياسي) للمناصب السيادية الثلاث في العراق، فإن المكون الشيعي هو المعني بالأساس بعملية تشكيل الحكومة بعد كل انتخابات.
ورغم فوز التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر بالمرتبة الأولى، فإن تحالفات شيعية أخرى تبدو غير موافقة على هذا الاستحقاق الانتخابي، ويأتي في مقدمة هذه التحالفات ائتلاف دولة القانون الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، الذي يطمح لتشكيل الكتلة الكبرى والحكومة المقبلة، رغم رفض الصدر لذلك.
دخلت التحالفات الشيعية بصورة مستقلة في الانتخابات الأخيرة، وقسمت مرشحيها على العديد من الدوائر الانتخابية في عموم العراق، محكومة بنظام الدوائر الانتخابية المتعددة الذي أقرته مفوضية الانتخابات، وعلى عكس ما سارت عليه في الدورات الانتخابية الماضية، عندما كان العراق كله دائرة انتخابية واحدة، فكانت تدخل ضمن تحالفات واحدة سواءً بالائتلاف العراقي الموحد في انتخابات 2006 أو التحالف الوطني العراقي في انتخابات 2010، لتنقسم إلى تحالفات ثلاث كبرى في انتخابات 2014، وهي ائتلاف دولة القانون والتحالف الوطني والتيار الصدري، لتشكل بمجموعها الكتلة الكبرى في مرحلة ما بعد الانتخابات، وهي ذات الصورة التي جاءت عليها انتخابات 2018، بفارق جديد، وهو دخول تحالف الفتح الممثل السياسي للفصائل المسلحة إلى جانب التحالفات الشيعية الأخرى.
ومن أجل لملمة هذه التحالفات ضمن إطار تنسيقي يعمل على بلورة رؤية سياسية شيعية موحدة حيال عملية اختيار رئيس الوزراء، برز لنا الإطار التنسيقي الشيعي، الذي يتكون من قيادات سياسية شيعية تأخذ على عاتقها هذه المهمة.
يمكن القول إن الإشكال الرئيسي اليوم يتمثل بعدم اعتراف الإطار التنسيقي الشيعي بالاستحقاق الانتخابي للتيار الصدري، وذلك يتضح من تشكيك هذا الإطار بنزاهة هذه الانتخابات أولًا، وعدم أحقية التيار الصدري بتسمية رئيس الحكومة المقبلة ثانيًا، خصوصًا أن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أعلن مرارًا أن رئيس الوزراء المقبل سيكون “صدري قح” على حد تعبيره.
ودخلت على خط الأزمة هذه أيضًا، ضبابية الموقف السياسي للتحالفات السنية والكردية، التي تبدو أنها لم تتخذ قرارها النهائي بعد بهذا الخصوص، والسبب الرئيس في ذلك هو الخلافات الشيعية الشيعية بخصوص أحقية الجهة التي ستسمي رئيس الوزراء المقبل.
الانتخابات المبكرة كان ينظر إليها على أنها وسيلة فعالة للخروج من الأزمة السياسية التي رافقت المشهد السياسي
تتمثل العقدة السياسية بأن عملية تسمية رئيس الوزراء المقبل، لا تخضع لمسار العلاقات الشيعية الشيعية فقط، وإنما لمسار العلاقات الأمريكية الإيرانية أيضًا، ففي الوقت الذي جاء فيه قائد قوة القدس إسماعيل قآني للعراق الأسبوع الماضي، فإن العديد من التقارير الإخبارية بدأت تتحدث عن زيارة مرتقبة سيقوم بها المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط بريت ماكغورك للعراق، للتباحث بشأن نتائج الانتخابات وسير عملية تشكيل الحكومة المقبلة.
ومن ثم فإن هذا يضع مزيدًا من التحديات عن فرص التوصل لقاعدة توافق يمكن أن تحتكم إليها الأطراف الداخلية والخارجية بخصوص الحكومة المقبلة، فمن المتوقع أن تكون هناك تحفظات على العديد من الأسماء التي يمكن أن تطرح على طاولة النقاش.
ورغم إصدار الإطار التنسيقي الشيعي بيانًا عن نجاح المالكي بجمع عدد نواب وصل إلى 93 نائبًا، بعد انضمام كتل سياسية من المكون الشيعي، وأخرى من المكون المسيحي، بالإضافة إلى مستقلين، إلى جانب مساعٍ للتفاوض مع التيار الصدري للانضمام لقوى الإطار التنسيقي من أجل تشكيل الكتلة الكبرى، فإن التيار الصدري يبدو غير مهتم بخطوة الإطار التنسيقي الشيعي الأخيرة، وذلك عبر تعيين أعضاء التيار الصدري حسن العذاري وحاكم الزاملي ونصار الربيعي ونبيل الطرفي، للتفاوض مع الكتل والتحالفات الأخرى لتشكيل الكتلة الكبرى في البرلمان.
فضلًا عن تصريح الصدر الأخير الذي أشار فيه بوضوح إلى تمسكه بالاستحقاق الدستوري للتيار في تشكيل الحكومة، وتأكيده أن الحكومة المقبلة ستكون حكومة عراقية لا شرقية ولا غربية، وأن العبث بالسلم الأهلي خطوة غير موفقة من الآخرين.
يدرك الصدر أن لجوء الخاسرين وتحديدًا الفصائل المسلحة إلى التهديد باستخدام العنف المسلح
إن الانتخابات المبكرة كان ينظر إليها على أنها وسيلة فعالة للخروج من الأزمة السياسية التي رافقت المشهد السياسي منذ احتجاجات تشرين في أكتوبر/تشرين الأول 2019، من أجل إعادة تجديد شرعية النظام السياسي التي تضررت كثيرًا بعد سلسلة من عمليات الاغتيال والإخفاء القسري التي مورست بحق الناشطين والمحتجين، إلا أن الخاسرين في الانتخابات الأخيرة يبدو أنهم يفضلون شرعية وجودهم على شرعية النظام، ولذلك بدأوا يشككون بالعملية الانتخابية التي صاغوا قانونها واشتركوا فيها.
الأكثر من ذلك، بدأت شبكة العلاقات التي تضررت خلال الفترة الماضية، تنظر إلى المالكي على أنه خيار يمكن المراهنة عليه خلال الفترة المقبلة، في إعادة ضبط التوازن الداخلي مع التيار الصدري وصعود قوى الاحتجاج، خصوصًا أن أغلب المراهنين على المالكي ينظرون إليه على أنه يمكن أن يعيد تشكيل الدور الأمريكي في العراق، بناءً على شبكة العلاقات التي يمتلكها مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، ويمكن أن يؤسس لحالة وفاق أمريكي إيراني في العراق، تخفف الضغط على الفصائل المسلحة من جهة، وتُريح جهود إيران في المنطقة عبر العراق من جهة أخرى.
إجمالًا يدرك الصدر أن لجوء الخاسرين وتحديدًا الفصائل المسلحة إلى التهديد باستخدام العنف المسلح، من أجل تأكيد وجودهم بعيدًا عن الاستحقاق الانتخابي، يمكن أن يمهد الطريق لتكرار المشهد اللبناني في العراق أيضًا، ورغم مقاومته حتى الآن للضغوط التي تفرضها عليه القوى الشيعية الأخرى للتنازل عن استحقاقه الانتخابي في تشكيل الحكومة، أو على الأقل التشاور معهم في عملية اختيار رئيس الوزراء المقبل، فإنه من الصعب جدًا استقراء الخطوات المستقبلية له، فيما لو تصاعدت هذه الضغوط، وعلى الأرجح قد نكون أمام حكومة “تسوية سياسية أو حكومة هدنة” تخفف من الاحتقان السياسي الحاليّ، وتبعد شبح الاقتتال الشيعي الشيعي الذي بدأت تراهن عليه الكثير من التحالفات الخاسرة لإعادة تأكيد وجودها في العملية السياسية العراقية.