في عالم المال والأعمال، تسعى أغلب الشركات الكبرى للالتزام بالقيم الأخلاقية، لحماية وتدعيم علامتها التجارية، فتتعامل بحرص شديد للغاية مع كل ما يمكن تسميته انتهاكًا، سواء تعلق ذلك بحقوق العاملين لديها أم حتى حقوق الحيوان، فكل إساءة قد تضرب سمعتها في مقتل، لكن مع فلسطين الانتهاك والتعريض بالحقوق يبدو أنه أصبح مستساغًا.
انتهاكات الشركات الكبرى
على مدار السنوات الماضية، وعدد من الشركات متعددة الجنسيات تتخلص تدريجيًا من التزاماتها تجاه الأراضي المحتلة، التي أقرتها القوانين وأرفع المحاكم الغربية، على رأسها محكمة العدل الأوروبية، التي طالما ألزمت الشركات والمؤسسات الاقتصادية بعدم التواطؤ والمشاركة المباشرة أو غير المباشرة من خلال سلاسل التوريد في اقتصاد المستوطنين، خاصة أن الحكومات الأوروبية تساهم في بعض هذه المؤسسات المالية ولديها الفرصة كاملة للضغط من أجل إنفاذ القانون.
المحكمة العليا في الاتحاد الأوروبي أيضًا حاولت التصدي لهذه الظاهرة، وأقرت التزامات إضافية عام 2019 بضرورة تصنيف البضائع القادمة من المستوطنات الإسرائيلية والتأكيد أنها منتجة في الأراضي المحتلة، وهو قرار أدانته “إسرائيل” بشدة وحاولت التحايل عليه وإقناع الدول المختلفة بتجاهله.
في تفسير القرار أكدت المحكمة ضرورة التصدي لتضليل المستهلكين، فـ”إسرائيل” موجودة كقوة احتلال وليست ككيان ذي سيادة في جميع الأراضي التي احتلتها عام 1967 بما في ذلك القدس الشرقية ومرتفعات الجولان والضفة الغربية، وبالتالي الإيحاء للمستهلك أن المنتجات التي تصدر من هذه المناطق على أنها منتجات إسرائيلية تضليل وغش.
الاقتصاد الاستيطاني
بعد الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية في يونيو/حزيران 1967، سارعت الحكومة الإسرائيلية في إقامة المستوطنات بالأراضي الفلسطينية المحتلة ولضمان نموها أدارت نظامًا من مستويين في الضفة الغربية طورته مع الوقت حتى توفر معاملة تفضيلية للمستوطنين الإسرائيليين اليهود، في الوقت الذي فرضت شروطًا قاسيةً على الفلسطينيين.
أخضعت “إسرائيل” المستوطنيين للمحاكم الإسرائيلية والقانون المدني لمنحهم الحماية القانونية والحقوق والمزايا المختلفة من أرض وبنية تحتية ومياه وحوافز مالية لتشجيع نمو المستوطنات، في المقابل حرصت على مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتحاكم الفلسطينيين بالقانون العسكري الإسرائيلي.
بجانب هذه الخلطة المعقدة ولضمان الضغط الخارجي المكثف، خلقت مصالح عضوية للمئات من الشركات الدولية الداعمة لـ”إسرائيل” لتجنيدها في خدمة سياسات الاستيطان، وحققت أغراضها بالفعل، فقد ساعدت الشركات الدولية في بناء وتمويل وخدمة وتسويق مجتمعات المستوطنات بسبب انخفاض الإيجارات ومعدلات الضرائب والإعانات الحكومية والعمالة الرخيصة، وسياسة “إسرائيل” في التوسع بإقامة المزيد من المناطق الصناعية.
تعلم الشركات والمؤسسات الدولية جيدًا، أن “إسرائيل” تصادر الأراضي والمياه والموارد الطبيعية الأخرى لصالح المستوطنات
وقعت الشركات التي هرولت للحصول على المنافع الإسرائيلية تحت طائلة انتهاكات القانون الدولي، إذ تحظر اتفاقية جنيف الرابعة على سلطة الاحتلال نقل مواطنيها إلى الأراضي التي تحتلها أو نقل وتهجير سكان الأراضي المحتلة.
كما يحظر نظام روما الأساسي وهو المعاهدة التأسيسية للمحكمة الجنائية الدولية التهجير القسري لسكان منطقة محتلة، وما يزيد من قوة الحق الفلسطيني دوليًا، أن دولة فلسطين أصبحت عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية اعتبارًا من 13 من يونيو/حزيران 2014.
وتعلم الشركات والمؤسسات الدولية جيدًا، أن “إسرائيل” تصادر الأراضي والمياه والموارد الطبيعية الأخرى لصالح المستوطنات، وهذا ينتهك اتفاقية لاهاي التي تحظر على سلطة الاحتلال مصادرة موارد الأراضي التي تضع يدها عليها لمصلحتها الخاصة.
إرث ترامب
في 2020، نشر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قاعدة بيانات لـ112 مؤسسةً تجاريةً تعمل في المستوطنات الإسرائيلية تضخ استثمارات بمليارات الدولارات، وأغلب هذه المؤسسات من فرنسا وبلجيكا وأيرلندا وهولندا والنرويج وإسبانيا والمملكة المتحدة.
وليس غريبًا التوصل إلى حقائق الأمر، فقد انفتحت المؤسسات والشركات بشدة على الاقتصاد الاستيطاني في الفترة من 2018 وحتى عام 2020، خلال حقبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي كانت كارثية على القضية الفلسطينية والعالم.
شجع نهج ترامب ما يقرب من 672 مؤسسةً ماليةً أوروبيةً ضخمةً، بما في ذلك البنوك وشركات التأمين وصناديق المعاشات التقاعدية على العمل بنشاط مع المستوطنات الإسرائيلية، وحصلت هذه المؤسسات على ما يقرب من 114 مليار دولار في شكل قروض واكتتابات.
توسع في اقتصادات المستوطنات مؤسسات ذائعة الصيت مثل: BNP Paribas وDeutsche Bank وHSBC وBarclays، واستحوذ بنك بي إن بي باريبا على 14% من قيمة القروض المشاركة في مشروع الاستيطان بقروض بلغت 8.97 مليار.
وصل مكتب حقوق الإنسان لهذه الأرقام وأسماء المؤسسات، لكن الاستثمارات الحصرية وعدد المساهمين لا يزال مجهولًا في الجزء الأكبر منه، إذ تخفي الكثير من الشركات المساهمة أصول منتجاتها، ولا تفصح عن مكان صنعها من أجل الوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي دون إشكاليات أخلاقية أو قانونية.
يرصد تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش الطريقة التي تربح بها الشركات والبنوك من سوق الإسكان في المستوطنات غير القانونية على الأراضي المصادرة من الفلسطينيين، إذ تساهم القروض في عمليات التمويل والبناء والتأجير والإقراض والبيع والتأجير للشركات لخلق أسواق وإسكان قابل للحياة.
تستفيد البنوك من ادعاءات “إسرائيل” في المحافل الدولية بأنها ليست ملتزمة بقوانين حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، إذ تزعم أن اتفاقية جنيف الرابعة التي ترفض ترحيل أو نقل سكانها إلى الأراضي التي تحتلها لا ينطبق على عمليات النقل الطوعية، باعتبار أنها تقدم حزم منافع تستفيد منها الشركات ولا تجبرهم على ذلك، وكذلك لا تجبر الإسرائيليين على الذهاب قسرًا للمستوطنات، وهذا تحايل على القانون والاتفاقية.
الخلاف بخصوص تفسير الاتفاقات الدولية الذي تفتعله “إسرائيل” لتضييع الوقت، تستغله الشركات وتلعب دورًا حيويًا في استدامة المستوطنات عبر التوسع في تقديم الخدمات بجميع أنواعها للمستوطنين، ودفع التنمية الاقتصادية من خلال توفير فرص العمل، فتساهم بنحو 42% من القوة العاملة بوظائف في القطاعين العام أو الخاص.
خسائر الاقتصاد الفلسطيني
بحسب تقديرات البنك الدولي، يخسر الاقتصاد الفلسطيني 3.4 مليار دولار سنويًا بسبب ارتفاع معدلات البطالة وتقليص الأجور في مناطق الضفة الغربية من الشركات العاملة في المستوطنات، حيث يتضرر المزارعون في المنطقة ج بشكل خاص من سياسات “إسرائيل” غير القانونية للأراضي والمياه، ما يتسبب في فقدان الكثيرين لسبل عيشهم التقليدية، ولا يتبقى أمامهم إلا العمل في المستوطنات.
لكن الشركات التي تحاول إرضاء المستوطنين، تستغل الفلسطينيين أسوأ استغلال، وتعتبرهم مصدرًا ثابتًا للعمالة الرخيصة، وتؤكد التقارير أن نصف المؤسسات العاملة على الأقل تدفع للعمال الفلسطينيين أقل من الحد الأدنى لأجر الساعة في “إسرائيل” البالغ 23 شيكل (5.75 دولار).
يتقاضى معظم العمال الفلسطينيين من 8 إلى 16 شيكلًا في الساعة (2 إلى 4 دولارات)، دون إجازة أو أيام مرضية أو مزايا اجتماعية أخرى، كما تضع الشركات للنساء الفلسطينيات مستوى أقل في أجر الساعة من 6 إلى 10 شيكلات (1.50 دولار إلى 2.50 دولار).
ضغوط ولكن
مع تولي جو بايدن الحكم في أمريكا، أصبحت الشركات الداعمة للمستوطنات تتوخى الحذر في التوسع بأنشطتها، لا سيما أن بايدن أثار علنًا خلال اجتماعه الأخير مع نفتالي بينيت رئيس الوزراء الإسرائيلي قضية المستوطنات، وحاول الأخير المراوغة للهروب من أي التزام قانوني أو أخلاقي، وأكد أن البناء سيكون فقط لما أسماه الاحتياجات الناشئة عن “النمو الطبيعي”.
لكن احتياجات النمو الطبيعي التي تحدث عنها بينت كان قد أنهى ترتيباتها قبل الذهاب للولايات المتحدة حتى لا يتعرض لأي ضغط متوقع، وأعطى قرارًا بتواصل البناء في المنطقة الحساسة E1 بالقرب من القدس التي قد تمنع لاحقًا التواصل الجغرافي بين الشمال والجنوب في الضفة الغربية.
كما وافق على بناء 2000 وحدة سكنية جديدة في المستوطنات الإسرائيلية ونحو 1000 وحدة سكنية جديدة في القرى الفلسطينية، ولن يستطيع بايدن الاعتراض لاحقًا، حيث يسدد بينت فاتورة نتنياهو الذي يجلس متربصًا بمزيد من التطرف للعودة لمنصبه.
ولن يبقى أمام بايدن الذي يسعى إلى حل الدولتين إلا اللعب على منضدة رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد والاكتفاء بالمطالبة بضبط النفس خاصة أنه لا ضغط حقيقي من أي جهة أخرى لإيقاف العدوان الإسرائيلي المستمر على الأراضي الفلسطينية.