في أكثر من مناسبة سابقة، شرحنا أن هناك استراتيجية اقتصاد سياسي تصف وتفسِّر وتتنبّأ بمعظم سلوك النظام المصري الحاكم، نظام ما بعد الـ 3 من يوليو/ تموز 2013، تجاه حركة المال وطريقة توزيعه في مشروعات بعينها داخل بنية المجتمع.
تقوم تلك الاستراتيجية على 4 مقومات رئيسية: التوسُّع في الاستدانة من الخارج بما يضمن ربط النظام المصري وبقائه مستقرًّا، بالجهات المانحة لهذه القروض؛ ثانيًا أن يشرف الجيش بنفسه على تنفيذ هذه المشاريع، بحيث تصبح المؤسسة العسكرية مرتبطة بنيويًّا بوجود السيسي، من خلال انغماسها في إدارة مئات المشاريع الكبرى بطول البلاد وعرضها، وتورُّط كبار قيادات المؤسسة في مصالح شخصية نتيجة للصلاحيات المطلقة الممنوحة لهم من الرئاسة.
ثم يتمُّ ضخّ تلك الأموال الواردة من الخارج في مشاريع كثيفة العمّال، غير إنتاجية قليلة الاستدامة، مثل قطاع المقاولات، بما يضمن إيجاد حلول عاجلة، بأي طريقة، لمشاكل البطالة وركود السوق، وصولًا إلى إظهار تلك المشاريع في أسرع وقت بصريًّا أمام الجمهور، حتى يُقال: إن مشاريع السيسي تتحدث عنه!
يقول السيسي في لقاءاته مع الوفود الأجنبية، إن التحديات التي تواجه منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك مصر، تختلف عن التحديات التي تواجه العالم الغربي المتقدم.
لهذه الأسباب، ووفقًا لهذه الاستراتيجية، فإنَّ السيسي لا يضخّ الأموال التي يحصل عليها من الخارج إلا في قطاعات محدَّدة ترتبط بهذه الرؤية، مثل: الإنشاءات، والطرق، وتحديث الجيش، والكهرباء، والبتروكيماويات؛ دون أي اهتمام حقيقيّ، حتى الآن، بتعظيم القطاعات الإنتاجية ومعالجة القصور في القدرة على جذب الاستثمار الخارجي، حتى شاع تصريح رسمي لوزير المالية المصري أن طريقة سدّ تلك الديون ستكون بمزيد من الاستدانة.
ويتبقّى لدينا إذًا قطاع تنطبق عليه تلك الاستراتيجية، ولكن مع ذلك إنَّ السيسي، الذي قال إنه لا يريد أن ينفق على أي بند لا يدرّ دخلًا، إلى درجة أنه لو يستطيع فرض ضريبة على طرفَي المكالمات الهاتفية سيفعل، لا يمانع في الإنفاق عليه ببذخ، لارتباطه بأهداف أخرى خارجية، وهو مجال الإسكان المدعوم.. فلمَ يفعل السيسي ذلك؟
استراتيجية مختلفة لحقوق الإنسان
يقول السيسي في لقاءاته مع الوفود الأجنبية، إن التحديات التي تواجه منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك مصر، تختلف عن التحديات التي تواجه العالم الغربي المتقدِّم؛ فبينما تطرح النخب في الخارج أسئلة دائمة عن الحريات السياسية والمجتمع المدني، فإنّ الناس في بلادنا لا يجدون أقلَّ المقومات الحياتية اللازمة للعيش، وبالتالي إن تلك الأسئلة غير مناسبة لظروفهم.
في هذا الصدد، شاعت مداخلة السيسي مع أحد الصحفيين، في حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ردًّا على سؤال بخصوص تردّي أوضاع حقوق الإنسان في مصر؛ فقال السيسي ما معناه: لماذا لا تسألون أيضًا عن حقوق الإنسان في السكن أو الحياة أو العمل أو التعليم، بدلًا من ذلك المفهوم الغربي الذي يقصر حقوق الإنسان على التجمعات السياسية؟
يردّ السيسي على الأوساط الغربية بأنه يقدِّم مفهومًا جديدًا لحقوق الإنسان، مفهومًا يتلاءم مع التحديات البسيطة لمنطقة تفتقد أدنى مقومات الحياة، وهو نقل المواطنين من العشوائيات الخطرة، التي كانوا يعيشون فيها، إلى مناطق حديثة أكثر رقيًّا.
ويبتزّ السيسي الأوساط الغربية، من الولايات المتحدة وأوروبا، حينما تطرح السؤال عن سوء أوضاع حقوق الإنسان في مصر، سياسيًّا وقانونيًّا ومدنيًّا، بأن طريقة حكمه، التي لا تعجبهم، نجحت في حماية بلادهم بشكل فعّال من مخاطر الإرهاب الإسلامي والهجرة غير الشرعية.
ويستدلّ على كون تلك الأوساط الغربية غير جادة في مزاعم الدفاع عن حقوق الإنسان، برفضها منح النظام المصري تقنيات متقدمة في مجالات الصناعة والتكنولوجيا تعدّ حكرًا على البيئة الأوروبية، من منطلق: إذا كان يهمّكم فعلًا حق الإنسان، فلم لا تساعدوننا بتقنيات تحسّن من جودة حياته؟ إذا لم تفعلوا، فالزموا الصمت حيال باقي الملفات.
ومع ذلك، يردّ السيسي على تلك الأوساط الغربية بأنه يقدِّم مفهومًا جديدًا لحقوق الإنسان، مفهومًا يتلاءم مع التحديات البسيطة لمنطقة تفتقد أدنى مقومات الحياة، وهو نقل المواطنين من العشوائيات الخطرة، التي كانوا يعيشون فيها، إلى مناطق حديثة أكثر رقيًّا، فيكون المنطق: أليست تلك حقوق إنسان أيضًا؟ لمَ لا ترون ما يفعله النظام المصري في هذا الصدد؟
زياراته إلى أوروبا
اعتمدَ السيسي بتلك الطريقة المراوِغة في كل زياراته ولقاءاته الصحفية بالخارج، على ردود جاهزة محفوظة: تريدون حقوق إنسان؟ حقوق الإنسان التي تريدونها سوف تؤدي في بلادنا إلى فوضى وعدم استقرار وفراغ يتكاثر فيه الإسلاميون، ونظريات يسارية فارغة لن تنجح في سدّ رمق مئات الآلاف الذين سيركبون البحر في أي لحظة ويغرِقون مدنكم الراقية بالفقر والتخلُّف.
وقد طوّر السيسي نقده الموجّه إلى المفهوم الغربي لحقوق الإنسان بالهجوم بدلًا من الدفاع، إذ لم يعد يكتفي بالتعريض بالتعنُّت الغربي في مجال نقل التكنولوجيا، متسائلًا: لمَ توجد لديكم رغبة مبطنة لتشويه حكّام منطقتنا وتصويرهم كأشخاص أشرار مستبدّين، بينما الحقيقة غير ذلك؟ بنصّ كلام السيسي.
تقوم تلك الطريقة التي يتبنّاها السيسي في الحوارات المعلنة مع الأوساط الغربية حول ملف حقوق الإنسان على عدة مقومات، هي: ابتزاز أوروبا بعواقب الهجوم على نظامه العسكري الحاكم للبلاد، والتشكيك في نوايا تلك الجهات الناقدة للأوضاع المتردية في مصر، وشراء صمت الدول الكبرى بمشاريع ضخمة تُسنَد إليها في مجالات محدَّدة في مصر، وترويج نظرية جديدة عن حقوق الإنسان التي تختلف عن المعايير الغربية.
اتصالًا بتلك النظرية، يركّز السيسي في حواراته مع الأوساط الغربية على زوايا نظر محدَّدة للحالة المصرية، من بينها أن الحق في الحياة الذي سيصبح مهدَّدًا حال سقوط نظامه وصعود الإسلاميين أو اليساريين إلى الحكم، أهم من الحقوق السياسية والمدنية، والادّعاء بأن القوام الأكبر من المجتمع المصري من الشباب، فلو كانت تلك الفئة غير راضية عمّا يقوم به، لثارَتْ ضده كما ثارت على من قبله.
حياة كريمة
تفسِّر تلك الاستراتيجية التي يتبنّاها السيسي، ومعادلة الاقتصاد السياسي التي تؤطرُ سلوكه، إقبالَهُ الشديد مؤخّرًا على تدشين مشاريع عملاقة جديدة، من حيث التكلفة وحجم الجهد المبذول، تحت لافتة أنها مشاريع لم تقم بها أي دولة أخرى في العالم من أجل شعبها، وهو مفهوم حقوق الإنسان الحقيقي، لا المفهوم الغربي.
على رأس تلك المشاريع التي تخدم أغراض السيسي في هذا الصدد، يأتي مشروعا “حياة كريمة” الذي يستهدف، وفقًا لدعاية النظام المصري، تحسين حياة 60 مليون مصري يعيشون في الريف على كافة المستويات بقيمة 600 مليار جنيه خلال 3 سنوات فقط، ومشروع “سكن كل المصريين” الذي يستهدف حصر الأراضي الفضاء في عواصم المحافظات لبناء آلاف الوحدات السكنية المدعومة.
بات السيسي حريصًا أيضًا على تدشين “لوبيات” من الدول الغربية اليمينية، التي ترى في السياسات القمعية حلًّا لمشكلات العالم الثالث.
قبل ساعات من كتابة هذه السطور، كان السيسي يتفقّد الأعمال الجارية في أحد المشاريع المشابهة، مشروع نقل بعض سكّان العشوائيات إلى أماكن أكثر رقيًّا غرب القاهرة، وهي المناسبات التي تشهد استدعاء صُوَر “قبل وبعد”: كيف كان المواطنون يعيشون في أوضاع اجتماعية صعبة، قبل أن ينتشلهم السيسي منها في ضوء استراتيجيته الجديدة لحقوق الإنسان.
ما استجدَّ مؤخرًا أن السيسي بات حريصًا أيضًا على تدشين “لوبيات” من الدول الغربية اليمينية، التي ترى في السياسات القمعية حلًّا لمشكلات العالم الثالث، وتتّخذُ مواقف أكثر تشدُّدًا من المهاجرين، لتسويق استراتيجيته الغريبة تلك في أوروبا، تمامًا كما حدث في قمة فيشغراد الأخيرة بين مصر ورباعي شرق أوروبا.. فهل ينجح السيسي في تلك المساعي؟