على مصبّ نهر الفرات في الخليج العربي، كانت سيرتها الأولى، مدينة بيضوية الشكل، مساحتها لا تتجاوز 240 فدّانًا، في عام 2100 ق.م كانت عاصمة للدولة السومرية (4500-1900 ق.م) إحدى أقدم الحضارات في العالم، ورغم تلك السنين التي مرّت ما زالت تحتفظ ببريقها التاريخي ورونقها الحضاري.
مدينة أور التاريخية، تلك البقعة الراسخة في جذور الحضارة الإنسانية، والتي تقع اليوم على بُعد بضعة كيلومترات عن مدينة الناصرية جنوب العراق، وعلى بعد 100 ميل شمال البصرة، فرضت نفسها خلال الأيام الأخيرة كقِبلة للسائحين الباحثين عن دُرَر الحضارة ولآلئ التاريخ التي تزيّن خاصرة العالم القديم.
تلك المدينة الأثرية الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، والتي طالما عانت من إهمال وتهميش أهالَ عليها غبار النسيان عقودًا تلو العقود، يبدو أنها على موعد مع استعادة توهُّجها مرة أخرى، وتسليط الضوء عليها بعد خفوت دام طويلًا، وذلك في أعقاب الزيارة التاريخية لبابا الفاتيكان، البابا فرانسيس.
في 5 مارس/ آذار الماضي اختصَّ البابا، على هامش جولته السريعة للعراق، مدينة أور بالزيارة، لما تحتلّه من مكانة مقدَّسة، ففيها ولد النبي إبراهيم أبو الأنبياء عام 2000 ق.م، كما تحتوي على برج الزقورة، معبد الإلهة إنّيانا آلهة القمر حسب ما ورد في الميثولوجيا السومرية، هذا بخلاف عشرات المقابر الملكية.. فماذا نعرف عن تلك المدينة التاريخية؟
عاصمة الحضارة السومرية
يعود التأريخ السياسي لشهرة مدينة أور لعام 2120 ق.م، حين ساهمَ حكّامها في نهضة المملكة السومرية، عبر دعم ملك الوركاء أوتو حيكال في أول عصيان واسع النطاق على الحكام القَبَليين، في محاولة للتخلُّص من حكمهم وترسيخ أركان السومريين.
وكان من بين من دعموا حيكال، الملك أور نمو، أول وأعظم حكّام مدينة أور والذي كان له دور كبير في هزيمة القَبَليين، ليبدأ العصر السومري الحديث، وبعد أقلّ من عقدَين فقط كانت أور عاصمة الدولة السومرية في أوج قوتها ونموها، وهو العصر الذهبي لتلك المدينة التاريخية العريقة.
وتحت حكم أسرة أور الثالثة (2111-2003 ق.م)، حيث حكمَ المدينة 5 ملوك عظام، أكثرهم شهرة وتأثيرًا أور نمو (2111-2094 ق.م)، ازدهرت مدينة أور بصورة غير مسبوقة، واستطاعت فتح العديد من المدن المجاورة، فيما حقّقت المدينة نجاحات على كافة المستويات.
ذهب بعض المؤرِّخين إلى أن المدينة كان يسكنها بداية الأمر مجموعة من العبيد والمزراعين، حين كانت مستوطنات زراعية، لكن مع مرور الوقت تحولت إلى بقعة متطورة على أحدث النظم المعمارية والسكانية المعروفة آنذاك، بل أصبحت قِبلة التطوير لكثير من العصرنة والتحديث في تلك الحقبة التاريخية التي كانت تتميز بالثراء الثقافي والحضاري.
وضع الملك أور اللبنة الأولى لنظام زراعي متطوِّر، حيث أوصى بشقِّ قنوات للري لإيصال مياه نهرَي دجلة والفرات إلى الأراضي الزراعية، وصيانة القديم منها، كما أدخل العديد من المحاصيل والمزروعات الجديدة التي ساهمت في إثراء الحياة الاقتصادية للمدينة.
وشيئًا فشيئًا تغيّرت ملامح المدينة من حيث العمارة وطقوس الحياة، من المباني القائمة على الطوب اللبن إلى الطوب المحروق، ومن الانزواء داخل مهن الزراعة إلى آفاق أخرى من التجارة والعمل، ومن التهميش إلى التمركز، حيث اختارها السكان مقرًّا لبناء معابد آلهتهم ثم مقابر لملوكهم فيما بعد.
وخلال فترة حكمه، وضعَ الملك أور نمو الأُسُس الأوّلية لبناء حضارة بلاده العريقة، فكان تحصين المدينة من جهاتها الثلاث (الجهة الرابعة كانت تطلُّ على نهر الفرات حينها)، كما وضعَ أول نظام لترسيم الحدود في التاريخ، من خلال وضع الحدود الفاصلة بين المدن والأقاليم التي كانت تعاني من فوضى الخلط خلال حكم القَبَليين.
وعلى المستوى السياسي وضعَ عدة أنظمة للحكم، كما حدّدَ اختصاصات وصلاحيات حكّام المدن، وحلَّ الخلافات والمنازعات المتعلقة بالأحياز البيئية المتعلقة بالأراضي ومصادر المياه، وساهمَ في التقريب بين أطياف وتيارات المجتمع والتنسيق بينها على أُسُس المواطنة الحقيقية.
اقتصاديًّا.. وضعَ اللبنة الأولى لنظام زراعي متطوِّر، حيث أوصى بشقِّ قنوات للري لإيصال مياه نهرَي دجلة والفرات إلى الأراضي الزراعية، وصيانة القديم منها، كما أدخلَ العديد من المحاصيل والمزروعات الجديدة التي ساهمت في إثراء الحياة الاقتصادية للمدينة.
كما سنَّ حزمة من التشريعات القانونية هي الأولى من نوعها في تاريخ بلاد ما بين النهرَين والشرق الأدنى القديم، وشملَت تنظيم العلاقة بين الشعب والمعبد والقصر الملكي، كما وضعَ أُسُس الشفافية والنزاهة من خلال قوانين تمنع المسؤولين وكبار الموظفين من استغلال مناصبهم في تحقيق الثراء على حساب الشعب.
مكانة تاريخية وأثرية مقدَّسة
اكتسبت أور قدسيتها التاريخية ممّا احتضنته من معابد الآلهة وأجيال كاملة من الكهنة الذين كانوا في خدمة تلك الآلهة، يؤدّون لهم الطقوس ويوفِّرون لتماثيلهم جميع المتطلبات التي كانوا يحتاجون إليها، حسبما أشار الباحث التاريخي خزعل الماجدي في كتابه “الدين السومري“.
التصميم الأوّلي للمدينة كان بيضوي الشكل، ومحاطة بأسوار سمكها 27 مترًا لكنها هُدمت أثناء هجوم جيش العلاميين للمدينة عام 2006 ق.م، فيما بنى الملك نبوخذ نصر سورًا ضخمًا داخل المجمع الديني للمدينة عام 1500 ق.م.
وتحتضن المدينة عشرات المواقع الأثرية التاريخية، منها مبنى الزقورة، هذا البرج الذي خُصِّص كمعبد للآلهة إنّيانا، آلهة القمر، ويعود تاريخ بنائه إلى عصر سلالة أور الثالثة (2112-2004 ق.م) على يد الملك أور نيمو، وأكملها بعده ابنه الملك شولكي (2095-2047 ق.م)، فيما تعهّد ملوك بلاد الرافدين فيما بعد بتطويرها على مرِّ العصور.
تشتهر المدينة باحتضانها عشرات المصاطب الأثرية التي أسّسها ملوك أسرة أور الثالثة داخل المجمع الديني، هذا بخلاف المقابر التاريخية للملوك والكهنة وكبار رجالات الدولة، والتي تتميز بنظام معماري فريد من نوعه.
عالِم الآثار المعروف، ماكس مالوان، وخلال رحلته إلى العراق برفقة زوجته، الروائية الإنجليزية أغاثا كريستي، وصفَ زقورة أور بأنها ظاهرة فريدة في البلاد ولا يوجد لها شبيه في أي مكان في العالم، وذلك بسبب اللون الأحمر القاني، بجانب تكوينها البنائي الذي استُخدمَ فيه الآجُرّ وبسبب الترتيب المستنبَط ببراعة المبنى كله على سلالمه الثلاثة المؤلَّفة كل منها من 100 درجة.
كما تشير العديد من الأوراق التاريخية إلى أن مدينة أور ذُكرت بكتاب العهد القديم باسم “أور الكلدانية”، كونها موطن نبي الله إبراهيم عليه السلام، التي نشأ فيها وهاجر منها مع زوجته وولده، وقد تباينت الروايات حول تاريخ ميلاد نبي الله، لكنها انحصرت في الفترة من 2324 إلى 1850 ق.م.
كما تشتهر المدينة باحتضانها عشرات المصاطب الأثرية التي أسّسها ملوك أسرة أور الثالثة داخل المجمع الديني، هذا بخلاف المقابر التاريخية للملوك والكهنة وكبار رجالات الدولة، والتي تتميّز بنظام معماري فريد من نوعه، وقد تحولت فيما بعد إلى مزارات للسائحين.
وتميزت أور خلال عصر النهضة السومرية بالمعابد ذات العمارة والتصميم الذي يجمع بين العمق الهندسي والبُعد الديني، حيث يتكون المعبد من مدخل كبير ذي أبراج ورَدَهات مسقوفة، مزوَّد بمزارات داخلية ينتهي في آخره إلى التمثال الديني.
زيارة البابا.. العودة للأضواء
في 5 مارس/ آذار الماضي زارَ بابا الفاتيكان مدينة أور على هامش زيارته للعراق التي استمرَّت لعدة أيام، لتُسلَّط الأضواء مرة أخرى على تلك البقعة الساحرة تاريخيًّا بعد سنوات من التهميش والتجاهل، في ظل الظروف الصعبة التي تواجهها بلاد الرافدين طيلة السنوات الماضية.
عشرات التقارير الوثائقية قدّمتها وسائل الإعلام العراقية والدولية حول المدينة الأثرية قبيل وأثناء زيارة البابا، وضعتها على رادار الاهتمام الدولي، وفي أعقاب الزيارة توافد عشرات السياح الأجانب إلى محافظة ذي قار (360 كيلومترًا جنوب بغداد) من أجل زيارة أور ومواقعها الأثرية، لتبدأ مرحلة جديدة من إنعاش السياحة الدينية في البلاد.
ويعدّ العراق واحدًا من أكثر البلدان انتعاشًا في سياحته الدينية، لما يمتلكه من مزارات سياحية دينية عريقة ومتنوِّعة، حيث يستقبل سنويًّا نحو 5 ملايين زائر من خارج البلاد (باستثناء عام 2020 والشهور الستة الأولى من عام 2021 بسبب جائحة كورونا) رغم الظروف الأمنية والسياسية التي يشهدها.
وتتعدّد جنسيات السياح القادمين لزيارة الأماكن والمراقد الدينية في بغداد وسامراء والنجف وكربلاء وبابل، أبرزهم من إيران والكويت والبحرين والسعودية وباكستان وتركيا وأذربيجان، ويدخلون عبر مطارات بغداد والنجف والبصرة وعبر المنافذ البرّية في محافظات واسط وميسان والبصرة وديالى، التي لها حدود مشتركة مع إيران والكويت، بحسب إحصاءات هيئة السياحة العراقية.
جهود الإنعاش
التعطُّش الإنساني لإعادة توهُّج أور واستعادتها لمكانتها التاريخية، دفعَ الحكومة العراقية إلى إعادة النظر في الموقف العام حيال تلك المدينة، التي فرضت نفسها كقِبلة للسياحة الدينية في وقت تعاني فيه البلاد من أزمات اقتصادية طاحنة.
وبالفعل جاءت الاستجابة لهذا التوجه الجديد، حيث اتخذت بغداد العديد من الإجراءات والتسهيلات لتعزيز السياحة الأجنبية لتلك البقعة التي تحتضنُ أقدم حضارات العالم، منها منح مواطني 36 دولة في العالم (أميركا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، فنلندا، النمسا، سويسرا، كندا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، السويد، الدنمارك، اليونان، بولندا وإيرلندا، فضلاً عن روسيا، الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، قبرص، التشيك، إستونيا، المجر، لاتفيا، ليتوانيا، لوكسمبورغ، مالطا، البرتغال، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، نيوزيلندا وأستراليا) تسهيلات دخول البلاد دون تلك التعقيدات التقليدية التي كانت تواجه كل من يفكّر في زيارة البلاد.
تشير العديد من التقارير إلى اعتزام بعض شركات السياحة العالمية إقامة عشرات الرحلات السياحية إلى أور، يتزامن ذلك مع طفرة نوعية في مستوى الفندقة، فنادق وخدمات، وخطط يتمّ دراستها حاليًّا لتوفير مقومات الجذب لاستعادة المدينة سابق عهدها.
ورغم أن الموسم السياحي في العراق يبدأ في أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام، إلا أن الموسم هذا العام بدأ مبكّرًا، إذ زارَ أور خلال أسبوعَي الزيارة الباباوية (منذ بداية وحتى منتصف سبتمبر/ أيلول) أكثر من 100 سائح من أمريكا وبريطانيا والسويد ولبنان والكويت.
ومن أكثر المعالم الأثرية التي تحتلُّ الصدارة في جدول أعمال الزائرين للمدينة، الزقورة وقصر شروكي والمقبرة الملكية وبيت النبي إبراهيم، فضلاً عن كورنيش الناصرية ليتمتّعوا بأكل السمك المسكوف، هذا بخلاف أهور الجبايش، وغيرها من المواقع الأثرية الموجودة في محافظة ذي قار.
وتشير العديد من التقارير إلى اعتزام بعض شركات السياحة العالمية إقامة عشرات الرحلات السياحية إلى أور، يتزامن ذلك مع طفرة نوعية في مستوى الفندقة، فنادق وخدمات، وخطط يتمُّ دراستها حاليًّا لتوفير مقومات الجذب لاستعادة المدينة سابق عهدها، حين كانت بقعة لا تهدأ من كثرة روادها وصخب الزوار.