لا شكّ أن ما وصلت إليه تونس اليوم من لحظة تاريخية خطيرة وحساسة جدًّا، يتحمل مسؤوليتها كل العاملين السياسيين وعلى رأسهم الأحزاب والمنظمات الوطنية، ثم الرئيس قيس سعيّد لأنه فاقمَ الوضع أكثر بخروجه عن الدستور وتهديده للمسار الديمقراطي، وخلقه فجوة خطيرة مع المانحين والدائنين الدوليين.
ولكن التجاذبات وتبادل الاتهامات الآن لا تجدي نفعًا ولن تصلح الأمر، بل على الجميع إعمال العقل وتغليب الحكمة ونكران الذات من أجل إنقاذ الوطن من الإفلاس الاقتصادي، بعد أن أفلسَ سياسيًّا واجتماعيًّا.
مهمّة جماعية
هذه المهمة لا يقدر عليها الفرقاء السياسيون اليوم لوحدهم، وهم الذين اعتادوا التدخُّلات الأجنبية والاستشارات وأحيانًا الأوامر من السفارات الكبرى.
على الجميع الآن الخضوع طوعًا أو كرهًا للأمر الواقع وإكراهات المرحلة الراهنة، وإلا فـ”الكومسيون” الدولي سوف يتدخّل بقوة في تونس قريبًا جدًّا -كما تدخّلَ من قبل في فترة ما قبل الاستعمار- ويفرض الأمر الواقع بكل الطرق، من أجل حماية أمواله ومصالحه المنوطة بأمن واستقرار تونس السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بعد أن وصلنا إلى مفترق طرق مظلم إثر التصنيف الأخير لـ”موديز” للاقتصاد التونسي في الصنف C.
بَيدَ أنّ البون شاسع وكبير بين الواقع والمأمول، فأغلب الطيف السياسي اليوم يعارض بشدة سياسة قيس سعيّد المتّسمة بالهروب من الأزمات الأساسية إلى خلق أزمات أخرى شعبوية وثانوية مع الخصوم والأعداء “المجهولين”، الذين لا يفوّتُ فرصة إلا وتحدّثَ عنهم ورماهم بشتى التُّهم والنعوت، وهو يقصد تحديدًا معارضيه المجاهرين برفض الانقلاب وتوابعه من قرارات ومراسيم لا دستورية فاقمت وما زالت تفاقم أزمة البلاد من يوم لآخر.
لماذا التخوين؟
لا يفوِّت أنصار الرئيس سعيّد، وهُم أساسًا من روّاد المنصات الاجتماعية وخاصة فيسبوك، فرصةً إلا وتوجّهوا فيها بكل عبارات التخوين والترذيل والشيطنة لكل من عارض “الرئيس” وأفعاله وقراراته، وكان الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي آخر هذه الأهداف بعد تعرُّضه لحملة نالت من عرضه، بل وصل الحد إلى الدعوة لحرق منزله.
كل ذلك بسبب مجاهرته بمعارضة سعيّد وانقلابه على الدستور والمسار الديمقراطي في البلاد، وكل ذلك في جوٍّ من التحريض على الحقد والكراهية من كل الأطراف وفي كل الاتجاهات، ما يغذّي مشاعر التعصُّب والغضب، ويزيد من تنامي العنف اللفظي وحتى المادي أحيانًا.
بعد استعماله أبشع النعوت في توصيف معارضيه.. يجب مقاضاة #قيس_سعيد ??.. تابع ?#يسقط_الانقلاب #تونس_تنتفض pic.twitter.com/Zh6jIv11UR
— قناة الحوار الفضائية (@alhiwarchannel) October 10, 2021
في كل مرة يخرج فيها الرئيس سعيّد إلى الشاشة إلا وانتظرته فئة كبيرة من الشعب التونسي، كي يقوم بدوره الدستوري الحقيقي وهو توحيد التونسيين وتقليص فجوة الخلاف والاختلاف السياسي بين مختلف الفرقاء، إلا أن الرجل للأسف ما انفكَّ كل مرة يزيد في جرعات التهديد والاتهام لأطراف مجهولة يأبى تحديدها وتسميتها، ويكتفي فقط برميها بالمسؤولية في تدهور الأوضاع واتجاهها نحو الأسوأ مع الوعيد بمحاسبتها في كل مرة.
أدّى هذا إلى استسهال مثل تلك الخطابات والعبارات الجارحة والمحقّرة لدى عامة الشعب، وخاصة أنصاره الذين باتوا يتوجّهون بها لكل من عارضهم وخالفهم الرأي، بل حتى من ينقل خبرًا سيئًا عن أوضاع البلاد في مواقع التواصل الاجتماعي.
الأسوأ منذ الاستقلال!
تعيش تونس اليوم أسوأ فتراتها منذ الاستقلال دون شك، ولكن الخطير في الأمر أكثر هو أن مؤسسة رئاسة الجمهورية تغذّي هذه الحالة يومًا بعد يوم، حتى بعد أن استحوذ قيس سعيّد على كل السلطات ونصّب نفسه “ملكًا” على البلاد.
لم يتوقف الأمر على الخصوم السياسيين والمعارضين من الشخصيات الوطنية والأحزاب، بل انتقلت “صواريخ” الرئيس نحو الخارج، لينتقدَ بعبارات هازئة وكالات التصنيف الاقتصادي العالمية، والامتعاض الخارجي من الأوضاع في تونس الذي عبّرت عنه بعض الدول الكبرى، لا سيما الدول المانحة منها، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي استقبلَ سفيرها مؤخّرًا وعبّر له عن استياء تونس من مناقشة أوضاعها في الكونغرس ومجموعة السبع وغيرهما.
بعد زيارة أميركية.. الدول السبع الكبرى تدعو إلى عودة #تونس إلى النظام الدستوري pic.twitter.com/5GpeXWphHc
— شبكة رصد (@RassdNewsN) September 7, 2021
ويؤكد في كل مرة أنهم ليسوا أساتذة لتونس، ولا يمكن لهم التدخُّل في شؤونها الداخلية، وذلك عندما تنادي هذه الأطراف الخارجية بالعودة إلى المسار الدستوري والديمقراطي رغم تشكيل الحكومة برئاسة نجلاء بودن، والتي لا يتوقَّع منها الشيء الكثير مقارنة بحجم التحديات وصعوبة المهمة، لا سيما أمام قلة خبرة عدد منهم وعدم نيلهم رضاء الشارع التونسي أو بعض نُخَبه على الأقل.
خلاصة الحالة التونسية الراهنة بكل أسف، أن البلاد تسير في تقهقر ملحوظ على كافة المستويات، أهمها وعلى رأسها المستوى الاقتصادي.
وبعد التصنيف الأخير لـ”موديز”، يُنتظر أن تدخل البلاد مرحلة الخطر الكبير، الذي سوف تكون له انعكاسات أكبر اجتماعيًّا، ما قد يساهم في موجات جديدة من الغضب والاحتقان، لا سيما بعد الارتفاع غير المسبوق في الأسعار والتراجُع الملحوظ في المقدرة الشرائية للتونسيين.
يتطلب ذلك اعترافًا صريحًا بالأزمة وابتعادًا سريعًا عن التجاذبات السياسية والحسابات الضيّقة، والاعتكاف جديًّا للوصول إلى حلٍّ سريع يجنّب البلاد الأسوأ الذي بات يتهدّدها في كل لحظة في ظل الوضع السياسي الحالي.
وذلك من دون شكّ يتطلب الكف الفوري عن سياسة الهروب إلى المجهول، وتجاهل الواقع المرّ، ورمي المسؤولية فقط على المعارضين والمخالفين.