لم يُفاجأ السودانيون بالتقرير الذي أصدره موقع فيسبوك في الأيام الماضية، والذي كشفت فيه عن إزالتها لما يقارب الألف حساب شخصي ومجموعة وصفحة على فيسبوك وإنستغرام، بعد أن أوضحَ تقرير السلوك “غير الأصيل” لفيسبوك، أن هذا الكمّ الهائل من الحسابات تمَّ إنشاؤه بطريقة خادعة، واستُخدمَت للثناء على محمد حمدان دقلو (حميدتي) وقوات الدعم السريع، كما استُخدمَت لتشويه صورة الحكومة المدنية والمعارضين.
ذكر فيسبوك أن الآلة الإعلامية لحميدتي التي أزالها تتكون من 666 حسابًا وصفحة ومجموعة على موقعها الأساسي، فضلًا عن 116 صفحة و69 مجموعة و92 حسابًا على إنستغرام، مبيّنًا أن الشبكة المرتبطة بقوات الدعم السريع قدّمت نفسها ككيانات إخبارية مستقلة وصحفيين وطلاب مستقلين في السودان، واستهدفت الجماهير المحلية في هذا البلد.
هذا النشاط الدعائي المحموم لقائد الدعم السريع، قد يكون هدفه تبييض صورة حميدتي وغسلها من السمعة السيّئة التي ارتبطت به من سجلّ قواته السيّئ في حقوق الإنسان.
لم يصدُرْ أي تعليق من قوات الدعم السريع حول الخطوة التي اتخذها فيسبوك والتي شكّلت فضيحة مدوية لها، إذ كشفَ عملاق التواصل الاجتماعي عن حجم التزوير والخداع الذي تنتهجه قوات الدعم السريع من أجل الترويج لقائدها دقلو وأسرته التي تسيطر سيطرة تامة على هذه القوة، ويخشى كثيرون من تغلغلها وعدم خضوعها لسلطة الدولة أو القوات المسلحة، فولاء منسوبيها ينحصر فقط بقائدها حميدتي وشقيقه عبد الرحيم.
أثيرت العديد من التكهُّنات من قبل حول أهداف قائد الدعم السريع محمد حمدان (حميدتي) من وراء الانتشار الإعلامي الكبير، وإظهار نفسه كرجل برّ وإحسان يقدِّم التبرُّعات ويدعم الرياضيين والمعلمين وغيرهم.
يعتقد مراقبون أن هذا النشاط الدعائي المحموم لقائد قوات الدعم السريع، قد يكون هدفه تبييض صورة حميدتي وغسلها من السمعة السيّئة التي ارتبطت به من سجلّ قواته السيّئ في حقوق الإنسان إبّان حرب دارفور، ومشاركتها كمرتزقة في حرب اليمن، إلى جانب تورُّطها في مجزرة القيادة العامة التي كانت بمنزلة القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث لم تنجح كل محاولات شراء السمعة في محو الصورة الذهنية السيئة التي خلّفتها المجزرة.
شعبة إعلام إلكتروني للدعم السريع
أنشأت قوات الدعم السريع شعبةً للإعلام الإلكتروني في الأعوام التي سبقت الإطاحة بالرئيس المعزول البشير، الذي كان هو السبب في تأسيس هذه القوة، فلولاه لكان حميدتي شخصية نكرة غير معروفة، ولربما ظلّ إلى اليوم يعمل في تجارة الإبل والمواشي على حدود السودان وليبيا.
المهم، بعد الإطاحة بنظام البشير وسّعت قوات الدعم السريع من نشاطها الإعلامي، فأصبحت تمتلك منصّات تبثُّ دعايتها من روسيا، وكذلك من الخرطوم حيث تمَّ استقطاب عدد من عناصر جهاز أمن نظام البشير، وما يُعرَف بـ”كتيبة الجهاد الإلكتروني”، أرسلتهم إدارة الدعم السريع لأخذ دورات تدريبية عالية في التضليل الرقمي وبرمجيات القرصنة في وروسيا والصين وغيرهما، وفق صفحة وقناة “البعشوم” المتخصِّص في التسريبات عالية الدقة.
كشف “البعشوم” -في الجزء الأول من تغطيته لشبكة الدعاية التابعة للدعم السريع- أبرز الحسابات والشخصيات التي تقود النشاط الدعائي لحميدتي والدعم السريع على موقع فيسبوك، من خلال حسابات مجموعات أو أشخاص وعدد من الصفحات الوهمية التي تنتحلُ صفة الصفحات المستقلة، بينما اتّضح أن معظمها يروِّج لأنشطة معارِضة للحكومة المدنية، مثل صفحة “سودان لايف نيوز” التي نشرت خبرًا عن إغلاق طريق التحدي شمال البلاد بواسطة كيان قَبَلي مناهض للحكومة المدنية، وفق تحقيق فيسبوك.
وبطبيعة الحال كان الهدف الأول من الشبكة الإعلامية -التي تمَّ إزالتها-، هو الدعاية والترويج لأنشطة وتصريحات قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو.
وقبل إنشاء الشبكة الدعائية للدعم السريع، قامت شعبة الإعلام الإلكتروني بإطلاق صفحات رسمية للقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، فالصفحة الرسمية لقوات الدعم السريع على فيسبوك حازت على إعجاب أكثر من 300 ألف شخص، وتُحظى بمتابعة أكثر من 600 ألف، بينما تقلّ الأرقام كثيرًا على تويتر إذ يتابع صفحة الدعم السريع هناك نحو 12 ألف شخص فقط، أما الصفحات الشخصية لحميدتي فيتابعها كثيرون لكن يُعتقد أن معظمهم عبارة عن حسابات وهمية.
خوارزمية فيسبوك تستطيع اكتشاف الحسابات المزيفة
قال مدير القسم التقني لصحيفة “مداميك” الإلكترونية، محمد المجتبى: إن موقع فيسبوك يقوم بإزالة وحظر الحسابات أو الصفحات لعدة أسباب، من بينها تعرُّض الحساب للتبليغ من جهات كثيرة أو تسجيله نشاطات دخول مريبة مثل استخدام جهاز جديد غير مصرّح له، أو لملاحظة فيسبوك لأنماط مشابهة لنشاطات الفايروسات، أو استخدام الأسماء المزيَّفة، وإرسال الكثير من طلبات الصداقة، إلى جانب النشر المتكرِّر للمحتوى نفسه في أكثر من مكان، أو استخدام أكثر من حساب فيسبوك واحد، ففيسبوك يستطيع معرفة البصمة الرقمية للجهاز المستخدَم.
وأشار المجتبى إلى أن مهندسي فيسبوك تحدثوا عن الخوارزمية المستخدَمة (SybilEdge) للكشف عن الحسابات المزيفة، التي تقوم بمتابعة الحسابات بدءًا من عملية تسجيل الحساب الجديد، فالحسابات المزيَّفة تجري عملية متابعة لحسابات حقيقية وبصورة كبيرة “عن طريق إرسال طلبات صداقة وبصورة عشوائية”، والمرحلة الثالثة هي مرحلة الـ Spam أو النشر لمحتوى محدَّد بصورة ثابتة، قد يحمل خطاب كراهية أو إشاعات أو محاولة تشويه مجموعة ما.
تأثير كبير
من المعروف أن أعدادًا كبيرة من السودانيين تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مكثّف، خاصة فيسبوك، لدرجة تفوق فيها تأثير هذا الأخير على وسائل الإعلام التقليدية في السودان، وقد أكّد الكثير من التطورات تأثيره الكبير في أحداث حاسمة، كما تبيّن في ثورة ديسمبر/ كانون الأول عام 2018، حيث كانت منشورات تجمُّع المهنيين السودانيين تجد اهتمامًا مذهلًا فور ظهورها على موقعَي فيسبوك وتويتر، رغم أن تجمُّع المهنيين كان جسمًا مجهولًا آنذاك، لكن مجرد أن يُنشر على صفحته بيان أو دعوة لموكب ما، سرعان ما يتفاعل الآلاف من الشباب معه في دقائق معدودة.
لهذا، فإن تركيز المستشارين المقرّبين من حميدتي كان على فيسبوك للترويج لقوات الدعم السريع وقائدها، لأنهم يدركون سطوة وقوة عملاق التواصل الاجتماعي، فكثيرًا ما يؤدّي تداول تسريب أو موضوع ما على شبكته بكثافة إلى اتخاذ قرارات حكومية عاجلة استجابةً لضغط هذا الموقع، وآخر دليل على ذلك هو إلغاء مجلس السيادة السوداني دعوة كان يريد توجيهها إلى البعثات الدبلوماسية في البلاد لحضور حفل التوقيع على ميثاق سياسي جديد، بعدما تسرّبَ على نطاقٍ واسعٍ الخطاب الموجّه من مجلس السيادة إلى وزارة الخارجية لطلب توجيه الدعوة إلى البعثات الدبلوماسية.
فيسبوك فكّك من قبل شبكات دعاية روسية تستهدف السودان
بحسب تقرير مرصد ستانفورد للإنترنت، التابع لجامعة ستانفورد الأمريكية، فإن الشبكات الروسية التي كشفت عنها تقارير فيسبوك لشهر أكتوبر/ تشرين الأول 2019 قد استهدفت عددًا من الدول الإفريقية منها ليبيا والسودان وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وكشف التقرير الذي ترجمته منصة “بيم ريبورتس” الاستقصائية، أن الشبكات منسوبة إلى كيانات مرتبطة برجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين الذي يُعرَف بطبّاخ بوتين، إلى جانب وكالة أبحاث الإنترنت الروسية، بما في ذلك مجموعة “فاغنر”، وهي منظمة روسية عسكرية ذات سمعة سيئة عالميًّا.
بالنسبة إلى السودان، تمّت إزالة عدد من الصفحات التي تمَّ إنشاء معظمها في الفترة ما بين أغسطس/ آب وأكتوبر/ تشرين الأول 2018، أي قبل ثورة ديسمبر/ كانون الأول، وكان الكثير منها ينشر بنشاط اعتبارًا من أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وبدأ في توسيع وجوده ليشمل منصات التواصل الاجتماعي الأخرى مثل تويتر.
وكانت هذه الصفحات داعمة بصورة عامة للحكومات المختلفة حسب الوضع السياسي الراهن، وأشهر هذه الصفحات “راديو إفريقيا”، وهي الأكبر، حيث كان يبلغ عدد متابعيها حوالي 356.560 متابعًا، إلى جانب “خرطوم ستار” التي كان يزيد متابعوها عن 230 ألفًا.
صانع المحتوى المؤثِّر في السودان، “البعشوم“، وهو متخصِّص في التسريبات العسكرية، يجزم بأن شبكات الدعاية للدعم السريع التي أغلقها موقع فيسبوك، أشرفَ على إنشائها القوني شقيق حميدتي الذي يدير شركة تعمل في مجال الأمن السيبراني، مقرّها حي المنشية واسمها “جي إس كي”.
وكشفَ “البعشوم” أن إنشاء هذه الشبكة الدعائية تمَّ عام 2019 بمساعدة من خبراء روس ومترجمين يتحدثون اللهجة الشامية، موضّحًا أن تدريب القائمين على الصفحات تمَّ في شقة سكنية بحي الخرطوم 2 بالقرب من فندق الزهرة، وشملَ التدريب كذلك الذين يقومون بتضخيم المحتوى من مشاركة للمنشورات وتعليقات إيجابية لصالح الدعم السريع وحميدتي.
إلى أين يتّجه مستشارو حميدتي للدعاية بعد تفكيك شبكتهم على فيسبوك؟
بحسب تقرير “البعشوم”، فإن الشبكة الدعائية للدعم السريع لم يتمَّ تفكيكها بالكامل، فقد لفتَ إلى أن بعض الصفحات لا تزال تنشط في الدعاية والتضليل، مثل “حماة الشعب” و”من أجل وطني” و”أخبار العاصمة” وغيرها.
وعلى الأرحج سيلجأ فريق الإعلام الإلكتروني، التابع لقوات الدعم السريع، إلى إنشاء صفحات جديدة على منصة فيسبوك، إلى جانب الصفحات التي لا تزال تنشط في الترويج لدقلو الذي يبدو أنه مصمِّم على تلميع صورته بشتّى الطرق، من رعاية الأندية الرياضية وتقديم الدعم للمعلمين وطلاب الخلاوي.
هذا إلى جانب تقديم نفسه كشخص بسيط يشعر بهموم الناس ومعاناتهم من الأزمة الاقتصادية، رغم الرفاهية والدَّعَة التي يعيش فيهما، بفضل ملايين الدولارات التي اكتنزها في بنوك دبي من تهريب ذهب السودان إلى الإمارات، كما ذكر تحقيق وكالة “رويترز” للأنباء، فضلًا عن الأموال التي تحصل عليها قوات الدعم السريع من الشركات الأخرى والأموال التي يدفعها “الكفيل” السعودي الإماراتي مقابل المشاركة في حرب اليمن.
هي معركة كسر العظم، ولعلّ حميدتي ومستشاريه يعوِّلون على إغداق الأموال للفئات الضعيفة في المجتمع السوداني، والترويج لهذه “المكرمات” على منصاتهم الدعائية، مثل تبرُّع حميدتي للمعلمين، حيث أثار تبرُّعه بمبلغ 100 ألف جنيه للمعلمين المشاركين في كنترول الشهادة السودانية جدلًا واسعًا، بعد أن اعتبرت قيادية نقابية أن قبول المعلمين مكافأة حميدتي “خيانة لدم الشهيد أحمد الخير ودم شهداء فضّ الاعتصام الذين ضحّوا بشبابهم الغضّ”.
كاميرون هادسون: “أشعر أن خبر إزالة فيسبوك لمئات الحسابات الداعمة لحميدتي لم يحظَ باهتمام كبير رغم أهميته. معظم الحسابات الـ 600 التي أزالها فيسبوك استُخدمت لتلميع صورة حميدتي وتشويه سمعة الحكومة المدنية والمعارضة”.
ولكن يبقى السؤال المحيّر في تجاهُل الحكومة السودانية ووزارة الإعلام تحديدًا لتحقيق فيسوك، وإزالته شبكة الدعاية التابعة للدعم السريع، خصوصًا أن وزارة الإعلام كانت تشتكي من كثرة المنصات الإلكترونية التي تنشر “الأخبار الكاذبة وخطاب الكراهية”، وفق تصريح وكيل الوزارة رشيد يعقوب.
فالشاهد أن تحقيق فيسبوك أثبتَ أن منصات قوات الدعم السريع كانت تروِّج لقطع الطرقات القومية بواسطة المحتجّين، بل تدعو الجماهير إلى الخروج ضد الحكومة المدنية بقيادة عبد الله حمدوك.
صمت الحكومة السودانية، وكذلك تجاهُل معظم الصحف السودانية الورقية لتحقيق فيسبوك الذي فضحَ قوات الدعم السريع، أثارا تساؤل كبير المحلِّلين في المجلس الأطلنطي كاميرون هادسون، وهو دبلوماسي أمريكي سابق، علّق على الموضوع قائلًا: “أشعر أن خبر إزالة فيسبوك لمئات الحسابات الداعمة لحميدتي لم يحظَ باهتمام كبير رغم أهميته. معظم الحسابات الـ 600 التي أزالها فيسبوك استُخدمَت لتلميع صورة حميدتي وتشويه سمعة الحكومة المدنية والمعارضة”.
I feel like it has received far too little attention that the RSF had 600+ Facebook accounts removed as inauthentic last month in #Sudan, most of which were used to burnish Hemedti’s image and denigrate the opposition and civilian government.https://t.co/X9uqiMWzAz
— Cameron Hudson (@_hudsonc) October 13, 2021
فما السرّ في صمت الحكومة السودانية والإعلام السوداني عن هذا الأمر؟ هل هو الخوف من حميدتي ونفوذه المتعاظم؟ أم أن بعض القيادات والإعلاميين يدينون بالولاء له؟