عبر تاريخ البشرية، سافر الرجال والنساء عبر القارّات والمحيطات، بحثًا عن الفرص، أو هربًا من الحرب أو الاضطهاد، أو تمَّ نقلهم كعبيد، فكيف أثّر هؤلاء الأشخاص على الأماكن التي استقرّوا فيها والأراضي التي تركوها وراءهم؟ وكيف نقيس تبعات الهجرة، والتغييرات طويلة المدى التي تأثرت بها مجتمعات المهاجرين، والتحولات في المواقف الاجتماعية بمرور الوقت؟
الحقيقة أن الناس يهاجرون دائمًا، إما للبحث عن عمل أو ثروة أو حب أو حرية، وإما لأن شخصًا ما أجبرهم على ركوب قارب أو قطار أو طائرة، أو طردهم سيرًا على الأقدام. وهناك عدد قليل من الناس على هذا الكوكب اليوم يمكنهم تتبُّع شجرة عائلاتهم لبضع أجيال معدودة دون أن يصادفوا شخصًا مهاجرًا من نوع ما، فالهجرة جزء من الحياة مثل الزواج والولادة والموت.
متى بدأت الهجرة؟
لم يبدأ تاريخ الهجرة عندما غادر السوريون مخيمات اللاجئين بعد أبريل/ نيسان 2015، أو عندما خاطرَ الأفارقة بكل شيء للوصول إلى أوروبا، كما لم يبدأ مع الهجرات من المستعمرات الأوروبية السابقة إلى أوروبا في عقود ما بعد الحرب، وبالتأكيد لن تكون موجة الهجرة الكبرى إلى الولايات المتحدة وأوروبا -التي كان مصدرها أفغانستان بعد سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابل- نهاية التاريخ الحديث للهجرة.
انتشرت الحضارة اليونانية بسبب استعداد سكّانها للنزوح، في حين نمت الحضارة الرومانية بسبب استعداد سكانها لقبول الغرباء قبل الغزو الفارسي لليونان عام 480 قبل الميلاد، حيث قام الأثينيون بإجلاء حوالي 100 ألف من النساء والأطفال والشيوخ والعبيد في أسبوع واحد فقط إلى البيلوبونيز (شبه جزيرة تقع في جنوب اليونان) والجزر قبالة سواحل أتيكا.
انتشرت الحضارة اليونانية بسبب استعداد سكانها للنزوح، في حين نمت الحضارة الرومانية بسبب استعداد سكانها لقبول الغرباء، وهكذا كانت الهجرة أساسية لنمو واستدامة الحضارتَين.
عندما وصل الأثينيون الذين تمَّ إجلاؤهم إلى وجهتهم أخيرًا، لم تكن هناك خدمات طبية ولا مراكز استقبال ولا عمّال إغاثة ولا إمدادات من الملابس أو الفراش أو المياه النظيفة، وبعد عودتهم إلى منازلهم وجدوها محترقة، ليس مرة واحدة بل مرتَين، ولو كان الغزو الفارسي ناجحًا، لكانوا إما استُعبدوا وإما ذُبحوا.
على النقيض من ذلك، اعتمدَ النمو الديموغرافي السريع في روما على تدفُّق الأجانب، وكثير منهم من اللاجئين، فقد أنشأ رومولوس، أول ملوكها، ملجأً في كابيتولين هيل فرَّ إليه مجموعة مختلطة من الأحرار والعبيد من المجتمعات المجاورة المتلهِّفة لفرص جديدة، على حدّ تعبير المؤرِّخ تيتوس ليفيوس أو ليفي، أحد أشهر المؤرِّخين الرومان في كتابه “تاريخ روما المبكر”.
انتشرت الحضارة اليونانية بسبب استعداد سكّانها للنزوح، في حين نمت الحضارة الرومانية بسبب استعداد سكّانها لقبول الغرباء، وهكذا كانت الهجرة أساسية لنمو واستدامة الحضارتين: الاستعداد للهجرة والاستعداد للاستضافة، وهذا لا يقلّ أهمية عن نمو واستدامة المجتمعات الحديثة.
انعكاسات الهجرة على ديموغرافيا العالم
لم تتغير ظاهرة الهجرة كثيرًا مع مرور الوقت، فمنذ تأسيسها كدولة مستقلة في أواخر القرن الثامن عشر، كانت الولايات المتحدة موطنًا لملايين المهاجرين ووجهة أحلام لملايين آخرين، وكان للهجرة تأثير هائل على المدن الأمريكية من حيث تطورها الاقتصادي والسياسي والثقافة والديموغرافيا.
صاغت الهجرة السياسة الخارجية للولايات المتحدة بطرق مهمة ودائمة، فخلال الحرب الباردة شجّع انفتاح النظام السياسي الأمريكي والقوة الهائلة التي مارستها الولايات المتحدة في العالم، جنبًا إلى جنب مع اللاجئين الذي جاءوا عن طريق الهجرة؛ على تطوير جماعات ضغط سياسية خارجية منظَّمة في الشتات.
أحد الأمثلة البارزة على ذلك كان الكوبيون الذين فرّوا إلى الولايات المتحدة أثناء الثورة الكوبية عام 1959 أو بعد تولي النظام الشيوعي السلطة، فمع وصول إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان إلى السلطة، حثَّ مستشاره الأول للأمن القومي، ريتشارد ألين، مجموعة صغيرة من المحافظين الكوبيين الأمريكيين على إنشاء لوبي (جماعات ضغط) على النمط الأمريكي.
كان عمل العبيد الأفارقة والهنود المستأجرين والعمّال الصينيين أساسًا للبُنى التحتية والاقتصاديات في كثير من أنحاء العالم، من خلال بناء السكك الحديدية والطرق، ومن خلال الثروة الناتجة عن عملهم في المزارع.
أصبح أفراد المؤسسة الوطنية الكوبية الأمريكية (CANF)، التي تهدف إلى مساعدة أفراد الجالية الكوبية، من المشاركين المتميزين في صنع السياسات، فقد دافعوا عن مبادرات ريغان في كوبا وأمريكا الوسطى وأنغولا، وتلقّوا تمويلًا حكوميًّا لمشاريع الحيوانات الأليفة في كوبا، وساهموا في الحملات الانتخابية للسياسيين.
الهجرة القسرية كانت أيضًا بمنزلة أساس الكثير من التغيير الذي يمكن ملاحظته وقياسه، فقد تضمّنت العبودية عبر المحيط الأطلسي التهجير القسري للرجال والنساء والأطفال الأفارقة.
بالإضافة إلى ذلك، بعد إلغاء العبودية، أُجبر ما يقدَّر بنحو 3.5 مليون هندي على العبودية، وتمَّ ترحيلهم إلى المزارع الاستعمارية، وخاصة مزارع السكّر، في منطقة البحر الكاريبي وأفريقيا وأجزاء من المحيط الهادئ.
كان عمل العبيد الأفارقة والهنود المستأجرين والعمال الصينيين أساسًا للبُنى التحتية والاقتصاديات في كثير من أنحاء العالم، من خلال بناء السكك الحديدية والطرق، ومن خلال الثروة الناتجة عن عملهم في المزارع.
في حين شكّلت الهجرةُ الإمبراطوريات الأوروبية في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، ساعدت في نهاية المطاف على تفكيكها، فقد تشكّلت النضالات ضد الاستعمار ومن أجل حقوق الإنسان العالمية في القرن العشرين من خلال الهجرة، وبدأ العديد من قادة الحركات المناهِضة للاستعمار في آسيا وأفريقيا حياتهم السياسية كطلاب في جامعات أوروبية أو أمريكية، وبالمثل تشكّلت النضالات النسوية من قِبل المهاجرين.
على سبيل المثال، كان لدى كوامي نكروما (أول رئيس لغانا المستقلة)، وجومو كينياتا (أول رئيس كيني من سكان البلاد الأصليين) وجواهر لال نهرو (أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال) خبرات طلابية في بريطانيا، وكانت أساسًا للنضالات القومية التي قادوها في بلاهم ضد الاستعمار.
المزيد من الحدود يعني المزيد من المهاجرين
يمثّل اللاجئون واجهة الهجرة في وسائل الإعلام، لكن 90% من مجموع اللاجئين البالغ 247 مليون في العالم انتقلوا عبر الحدود طواعية، عادة لأسباب اقتصادية. على النقيض من ذلك، فإن الـ 10% المتبقية هم من اللاجئين وطالبي اللجوء الذين فرّوا إلى بلد آخر هربًا من الصراع والاضطهاد.
جغرافيًّا، إن ما يقارب نصف اللاجئين في العالم، البالغ عددهم 26.4 مليون لاجئ بحسب تقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، موجودون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما يعكس النمط السائد للهروب إلى بلد مجاور، لكن الارتفاع الأخير في عدد الوافدين إلى أوروبا استقطب اهتمام العالم في هذه القضية.
في جميع أنحاء العالم، هناك ما يقدَّر بنحو 281 مليون مهاجر حتى عام 2020، بحسب الأمم المتحدة، ويشكّلون حوالي 3.6% من سكان العالم. لم تتغير هذه النسبة كثيرًا في الـ 100 عام الماضية، ولكن مع تضاعُف عدد سكان العالم 4 مرات، تضاعفَ عدد المهاجرين أيضًا.
ومنذ أوائل القرن العشرين، زاد عدد البلدان من 50 إلى أكثر من 200 دولة بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي، ويعني هذا أن زيادة الحدود بين الدول تسبِّب في مزيد من المهاجرين.
توسّعت فرص الدراسة في الخارج بشكل كبير، فقد كان هناك أكثر من 4.8 ملايين طالب دولي عام 2016، مقارنة بـ 2 مليون طالب عام 2000
يوجد حوالي 20 مليون لاجئ معترَف بهم رسميًّا في جميع أنحاء العالم، 86% منهم تستضيفهم دول مجاورة، بزيادة قدرها 70% عن الأعداد المذكورة منذ 10 سنوات.
في حين أدّت النزاعات وعدم الاستقرار إلى زيادة عدد الأشخاص الذين أُجبروا على ترك منازلهم، فإن اللاجئين يشكّلون حوالي عُشر السكان المهاجرين فقط.
ويمثّل العمل السبب الرئيسي لانتقال الأشخاص من بلد إلى بلد آخر، وقد سهّل انخفاض تكلفة السفر القيام بذلك، ومكّن الإنترنت المسافرين من تحديد وجهاتهم والتواصل مع ذويهم.
من ناحية أخرى، توسّعت فرص الدراسة في الخارج بشكل كبير، فقد كان هناك أكثر من 4.8 ملايين طالب دولي عام 2016، مقارنة بـ 2 مليون طالب عام 2000، بحسب بيانات الهجرة، ومن المتوقع أن يؤدي تغيُّر المناخ ونقص المياه وسوء المحاصيل إلى دفع المزيد من الناس إلى ترك منازلهم في المستقبل.
هل تشكّل الهجرة عبئًا على دول العالم؟
لقد غيّر المهاجرون العالم بالتأكيد عندما شرعت الإمبراطوريات الأوروبية في مشاريعها الاستعمارية، وبالتوازي طوَّروا نظريات عنصرية زائفة أسّسَ عليها المستعمرون الحق في استعباد الآخرين وتعليمهم وحكمهم بل قتلهم.
أدَّت الهجرة، سواء أكانت قسرية أم طوعية، إلى تحولات واسعة النطاق في التركيبة السكانية وتكوين مجتمعات ساهمت في ثقافة وأفكار وثروات البلدان التي استقرّوا فيها، وخلقت عالم العولمة المألوف لنا اليوم.
يجادل البعض بأن المهاجرين يتدفّقون عبر الحدود، ويسرقون الوظائف، ويدمِّرون الاقتصاد، ويشكّلون عبئًا على دافعي الضرائب، ويهدِّدون ثقافة السكان الأصليين. ويقول آخرون عكس ذلك، فالهجرة تعزِّز النمو الاقتصادي، وتلبّي النقص في المهارات، وتساعد في خلق مجتمع أكثر ديناميكية.
ومع تصاعُد الخلافات حول الهجرة في العديد من البلدان الكبرى، يُقال إن المهاجرين يوفِّرون فوائد اقتصادية كبيرة، ويمكن أن يزيد الاندماج الفعّال للمهاجرين من تلك الفوائد.
في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أسّسَ المهاجرون شركات مثل Google وIntel وeBay وYahoo. في الواقع، يمثّل المهاجرون المهرة أكثر من نصف الشركات الناشئة في وادي السيليكون، وأكثر من نصف براءات الاختراع، رغم أنهم يشكّلون أقل من 15% من السكان.
وفي حين ينظرُ البعض إلى التكاليف الاقتصادية والاجتماعية المحلية وقصيرة المدى، خلصَ بحث للبنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو إلى أن “المهاجرين يوسّعون القدرة الإنتاجية للاقتصاد من خلال تحفيز الاستثمار وتعزيز التخصُّص، ما ينتج عنه مكاسب في الكفاءة، ويعزّز الدخل لكل عامل”.
تُظهِرُ الدراسات أن الخدمات الاجتماعية التي يتلقّاها المهاجرون يتمُّ دفع ثمنها إلى حد كبير من خلال مساهماتهم الضريبية، ووفقًا للبنك الدولي فإن زيادة الهجرة بهامش يساوي 3% من القوة العاملة في البلدان المتقدمة، من شأنه أن يخلق مكاسب اقتصادية عالمية قدرها 356 مليار دولار.
في الواقع، يشكّل المهاجرون نسبة ضئيلة من سكان العالم، لكن أبحاث معهد ماكينزي العالمي وجدت أنهم يساهمون بما يقارب الـ 10% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. وفي عام 2015 ساهمَ المهاجرون بنحو 6.7 تريليونات دولار في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما ساهموا بحوالي 3 تريليونات دولار أكثر ممّا كانوا ينتجون في بلدانهم الأصلية، وتستحوذ الدول المتقدِّمة على أكثر من 90% من هذه العائدات.
كلما زاد اختلاط الشعوب، ازدهرت مدن العالم ثقافيًّا واقتصاديًّا، ويصبح الجواب البسيط عن سؤال “كيف غيّر المهاجرون العالم؟” هو أن المهاجرين صنعوا العالم
حدثَ ذلك نتيجة انتقال حوالي نصف المهاجرين على مستوى العالم من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة، حيث غالبًا ما يملأون النقص المهني الرئيسي، حيث إن المهاجرين من عام 2000 إلى عام 2014، ساهمَ يشكّلون نسبة 40% إلى 80% من نمو القوى العاملة في البلدان الرئيسية التي يقصدونها.
ويؤدّي نقل المزيد من العمالة إلى أماكن ذات إنتاجية أعلى إلى تعزيز الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويشير هذا إلى أن المهاجرين من مختلف مستويات المهارة ساهموا في هذا التأثير، سواء من خلال الابتكار وريادة الأعمال أو من خلال تحرير المواطنين للعمل ذي القيمة الأعلى.
يتوقع بعض الاقتصاديين أنه إذا كانت الحدود مفتوحة تمامًا، وتمَّ السماح للعمّال بالذهاب إلى حيث يحلو لهم، فإن ذلك سيؤدي إلى مكاسب تصل إلى 39 تريليون دولار للاقتصاد العالمي على مدار 25 عامًا.
في المقابل، وجدت بعض التحليلات أن الزيادة في الوافدين الجدد أدّت إلى انخفاض أجور السكّان الأصليين، رغم أن الآثار كانت صغيرة، كذلك يسلّطُ نقّاد الهجرة الضوء على جرائم معيَّنة ارتكبها الوافدون الجدد، لكن الأبحاث تتحدى فكرة أن الهجرة تؤدي إلى المزيد من الفوضى.
في الولايات المتحدة، خلصَ عدد من الدراسات إلى أن المهاجرين يرتكبون جرائم بمعدلات أقل من الأمريكيين المولودين في الولايات المتحدة، وفي ألمانيا تراجعت الجريمة بنسبة 10% وسط تدفُّق المهاجرين، بحسب تقرير لصحيفة “بلومبرغ” الأمريكية.
في النهاية، يمكن القول إنه كلما زادَ اختلاط الشعوب، ازدهرت مدن العالم ثقافيًّا واقتصاديًّا، ويصبح الجواب البسيط عن سؤال “كيف غيّر المهاجرون العالم؟” هو أن المهاجرين صنعوا العالم، وإذا كانوا يلعبون مثل هذا الدور الحيوي، فلماذا هناك الكثير من القلق؟