ولد أدب الرحلات في عالمنا العربي والإسلامي من رحم التجارة والاستكشاف والسياسة، فقد تمددت الدولة الإسلامية لبقاع شاسعة في القرن الأول والثاني الهجري، فاحتك العرب مع أقوام وبلدان لم يكونوا ليطلعوا عليها بهذا الشكل المريح والمتصل لولا اتساع رقعة دولتهم لتصل من جنوب فرنسا غربًا حتى مشارف الصين شرقًا، فاتحة بذلك الباب على مصراعيه لطرق التجارة والسفر والاستكشاف.
فيما يتعلق بالتجارة عن طريق البحر وقصص الأسفار للبحارة العرب والفرس مع بلاد الهند وأرخبيل الملايو والصين، فإن أولئك التجار العرب ساروا على التقاليد القديمة لمنطقة جنوب العراق وسواحل الخليج العربي منذ العهود البابلية.
لكن التدوين لهذه الرحلات التجارية والاستكشافية لم يتم حتى وقت متأخر نسبيًا، وتعتبر “رحلة السيرافي” التي دونت في القرن الثالث الهجري من أقدم المخطوطات التي وصلتنا عن أدب الرحلات العربي رغم وجود رحالة سبقوا سليمان السيرافي كالرحالة أبو عبيدة عبد الله بن القاسم العماني والنضر بن ميمون الذي عاش بالبصرة وانطلق منها للصين، لكننا لم نعرف أي تفاصيل عن رحلاتهم، لكن رحلة السيرافي وثقت لتكون وثيقة مهمة جدًا في أدب الرحلات العربي.. فما هذه الرحلة؟ ومن هو السيرافي؟
من هو السيرافي؟
في القرن الثالث الهجري قرر التاجر سليمان السيرافي أن يروي تفاصيل رحلته التي خاضها في بلاد السند والهند والصين، فأقدم المؤرخ الجغرافي أبو زيد السيرافي – وهو شخص مختلف عن سليمان متخصص بالجغرافيا – على توثيقها لاحقًا وترتيبها ومحص روايتها وأضاف إليها معلومات كثيرة عن الصين تلقاها من رفيق سليمان في السفر وهو ابن وهب القرشي البصري وأطلق على الكتاب عنوان “أخبار الصين والهند”.
نحن لا نعرف الكثير عن سليمان السيرافي غير أنه رحالة وتاجر عربي عراقي ولد بسيراف ثم انتقل للعيش في البصرة ولقب بالسيرافي نسبة لسيراف وهو ميناء مشهور في العصر العباسي ودون وصفًا لرحلاته للصين والهند سنة 237 هجرية.
كتاب رحلة السيرافي دليل عملي لكل التجار العرب الراغبين بالتجارة مع الصين عبر البحر
وقد محّص ما ورد عنه وتابع خطواته على ضوء الخرائط الحديثة المستشرق الفرنسي فيرن، فوجدها من حيث الدقة والأمانة العلمية بمكانة تذكر له، يقول: “هو خير مثال للتجار العرب والفرس الذين توجهوا إلى الصين”.
المخطوطة الفريدة لهذا الكتاب محفوظة بمكتبة باريس الأهلية، لكن عبث الناسخ بهذه المخطوطة أربك المطلعين عليها، فقد وضع لها مقدمة لا تتفق مع محتوى الكتاب، وزاد الطين بلة أن اختار لها عنوانًا بعيدًا جدًا عن المضمون وهو “سلسلة التواريخ”.
على كل حال، تم طباعة الكتاب مترجمًا للفرنسية عام 1811 ميلاديًا ويحمل ذات العنوان الذي وضعه الناسخ، وطبعه بالعربية تحت عنوان “رحلة السيرافي” المجمع الثقافي في أبو ظبي 1999.
أهمية رحلة السيرافي
يمكن القول إن كتاب رحلة السيرافي دليل عملي لكل التجار العرب الراغبين بالتجارة مع الصين عبر البحر، فهو يوثق الطريق البحري من البصرة أقصى جنوب العراق لسيراف مسقط رأس سليمان وصولًا لمسقط في أقصى الخليج العربي ومنها إلى الجزر والبحار والبلدان الواقعة على الطريق وصولًا إلى الصين.
وصف السيرافي المسافات بين الموانئ وطرق التزود بالمياه الصالحة للشرب التي كانت أحد أهم متطلبات السفر الذي كان يستمر لأربعة أشهر من مسقط للصين، ولم يقتصر سليمان في وصفه على ذكر المراحل وتقدير المسافات بالأيام وأحيانًا الفراسخ، بل ترك أيضًا وصفًا حيًا للسواحل والجزر والموانئ المختلفة والمدن وسكانها والمحاصيل والمنتجات وسلع التجارة.
إن رحلة السيرافي تعاظمت أهميتها نتيجة تدوينها، حتى جعلت المستشرقين الفرنسيين يقتبسون منها ويعاودون دراستها لندرة المصادر التي تحدثت عن بلاد الصين في تلك الفترة الزمنية، فقد استوقف هذا الأثر أنظار كبار المستشرقين في القرن الثامن عشر، فظهرت له منذ عام 1718م ترجمة فرنسية، وكانت هذه الترجمة مدعاة إلى اختلاسها وإضافة أشياء من بعض المغامرين ونسبتها إلى أنفسهم.
يعود الفضل في دراسة هذه الرحلة وتحقيق نصوصها إلى المستشرق الفرنسي رينو، ثم جاء بعده المستشرق الفرنسي أيضًا فيرن وأعاد تحقيقها وترجمها بمنهجيّة تذكر له.
مما ذكره السيرافي في رحلته
أورد السيرافي عددًا كبيرًا من الشوارد والنوادر المتعلقة بالصين تحديدًا وبلاد السند والهند أيضًا، وقد ذكر قصة لقاء صاحبه ابن وهب القرشي البصري مع ملك الصين وكيف صنف ملك الصين ملوك الأرض، الأمر الذي يعطينا تصورًا لواقع القوى العالمية في ذلك الزمان.
فبعد أن أكرم ملك الصين ابن وهب عندما علم أنه من أحفاد نبي العرب، سأله وقال: “أخبرنا: كيف أزال العرب ملك العجم؟”، فقال له ابن وهب: “بالله جل ذكره وبما كانت العجم عليه من عبادة النيران والسجود للشمس وللقمر من دون الله”، فقال له: “لقد غلبت العرب على أجل الممالك وأوسعها ريفًا وأكثرها أموالًا وأعقلها رجالًا وأبعدها صوتًا، ثم قال له: فما منزلة سائر الملوك عندكم؟ فقال ما لي بهم علم.
فقال للترجمان: “قل له إنا نعدّ الملوك خمسة؛ فأوسعهم ملكًا الذي يملك العراق (يقصد الخليفة العباسي في بغداد بذلك الوقت) لأنه في وسط الدنيا، والملوك محدقة به، ونجد اسمه عندنا ملك الملوك، وبعده ملكنا هذا ونجده عندنا ملك الناس لأنه لا أحد من الملوك أسوس منا ولا أضبط لملكة من ضبطنا لملكنا، ولا رعية من الرعايا أطوع لملوكها من رعيتنا، فنحن ملوك الناس، ومن بعدنا ملك السّباع وهو ملك الترك الذي يلينا، وبعدهم ملك الفيلة وهو ملك الهند، ونجد عندنا ملك الحكمة لأن أصلها منهم، وبعده ملك الروم، وهو عندنا ملك الرّجال، لأنه ليس في الأرض أتم خلقًا من رجاله ولا أحسن وجوهًا، فهؤلاء أعيان الملوك، والباقون دونهم”.
رحلة السيرافي تعاظمت أهميتها نتيجة تدوينها، حتى جعلت المستشرقين الفرنسيين يقتبسون منها ويعاودون دراستها لندرة المصادر التي تحدثت عن بلاد الصين في تلك الفترة الزمنية
ومن عجائب ما ذكره السيرافي عن لقاء ابن وهب بملك الصين أن الأخير أمر بإخراج رسوم للأنبياء ليختبر هل يميز صورة النبي محمد من بين صور الأنبياء عليهم السلام، وإليكم تفاصيل الحوار كما نقله السيرافي عن لسان أبي وهب نصًا:
“رأيت في الدرج صور الأنبياء فحركت شفتي بالصلاة عليهم، ولم يكن عنده أني أعرفهم، فقال للترجمان: سله عن تحريك شفته، فسألني، فقلت: أصلي على الأنبياء فقال من أين عرفتهم، فقلت مما صوّر من أمرهم، هذا نوح في السفينة ينجو بمن معه لمّا أمر الله جل ذكره الماء فغمر الأرض كلها ممن فيها وسلّمه ومن معه، فضحك وقال: أما نوح فقد صدقت في تسميته، وأما غرق الأرض كلها فلا نعرفه وإنّما أخذ الطوفان قطعةً من الأرض ولم يصل إلى أرضنا ولا أرض الهند.
قال ابن وهب: فتهيّبت الرد عليه وإقامة الحجة لعلمي بدفعه ذلك، ثم قلت: هذا موسى وعصاه وبنو إسرائيل، فقال: نعم على قلة البلد الذي كان به وفساد قومه عليه، فقلت: وهذا عيسى على حمار والحواريون معه، فقال: لقد كان قصير المدة إنما كان أمره يزيد على ثلاثين شهرًا شيئًا يسيرًا وعدّد من أمر سائر الأنبياء ما اقتصرنا على ذكر بعضه، وزعم أنه رأى فوق كل صورة لنبي كتابة طويلة قدر أن فيها ذكر أسمائهم ومواقع بلدانهم وأسباب نبؤاتهم، ثم قال: رأيت صورة النبي صلى الله عليه وسلم على جمل وأصحابه محدقون به على إبلهم في أرجلهم نعال عربية وفي أوساطهم مساويك مشدودة، فبكيت، فقال للترجمان: سله عن بكائه فقلت هذا نبينا وسيدنا وابن عمي عليه السلام، فقال: صدقت لقد ملك هو وقومه أجل الممالك إلا أنه لم يعاين ما ملك وإنما عاينه من بعده”.
وغريب ما ذكر سليمان التاجر أن هناك ديوانًا في الصين خاص بالزواني وكيف أن أي امرأة تريد امتهان البغاء تكتب نسبها وحليتها وموضع منزلها وتثبت في ديوان الزواني، وتجعل في عنقها خيطًا فيه خاتم من نحاس مطبوع بخاتم الملك ويدفع إليها منشور يذكر فيه دخولها في جملة الزواني وأن عليها لبيت المال في كل سنة كذا وكذا فلسًا، وأن من تزوجها فعليه القتل، فتؤدي في كل سنة ما عليها ويزول الإنكار عنها!
يعدّ سليمان السيرافي أول مؤلِّف غير صيني أشار إلى الشاي
ووصف السيرافي أن البحار متصلة من الصين حتى الشام، استدل على هذه المقولة بأن بقايا السفن العربية المدمرة في بحار الصين كان يحملها الماء لتدور الأرض وتقذف في سواحل الشام وهذا ما حمله على هذا الاستنتاج.
ويعدّ سليمان السيرافي أول مؤلِّف غير صيني أشار إلى الشاي وذلك حين ذكر أن ملك الصين يحتفظ لنفسه بالدخل الناتج من محاجر الملح، ثم من نوع من العشب يشربه الصينيون مع الماء الساخن، وهو يبيع منه الشيء الوفير، ويسميه أهل الصين (ساخ).
ولم يختم السيرافي كتاب رحلاته بما أورده عن السند والهند والصين والبحار، وإنما أكمل تفاصيل ثانية عن البحر الأحمر وميناء مدينة جدة الذي كان يفضل أغلب التجار العرب إنزال بضائعهم فيه لتقل لمصر عن طريق قوارب خاصة تعرف طرق السير في البحر الأحمر الذي اعتبره السيرافي بحرًا موحشًا لا يمكن السير فيه ليلًا لكثرة الشعب المرجانية والصخور على ضفافه.
كما تطرق السيرافي للمدن الواقعة تحت حكم الزنكيين في ذلك الزمان، بدايةً من حلب وحماة وحمص ودمشق وبانياس وبصرى وعمان وبعلبك، وختامًا بحران، ولم يسهب في ذكرها بل اقتصر على تدوين حجم كل مدينة وأبوابها.
ختامًا.. فإن أعظم ما يمكن تعلمه من رحلة السيرافي هو أهمية التدوين الذي يجعل الرحلة خالدة وفائدتها غزيرة ليس فقط للمعاصرين وإنما للذين من بعدهم، فكلمات السيرافي التي دونها عن الصين تعتبر من أعظم المصادر الأجنبية للدارسين في علم الصينيات التي أرخت تفاصيل كثيرة في وقت لم يكتب فيه إلا القليل عن تلك البلدان.