يمر الأردن في الآونة الأخيرة بمنعطف خطير على جميع المستويات، ربما يقوض جهود المملكة في فرض الاستقرار، ويهدد مساعيها لتقديم صورة مشرقة عن الوضع العام في المملكة التي تعاني من أزمات طاحنة على المسارين، السياسي والاقتصادي، وربما الأمني بين الحين والآخر، وسط التحديات الإقليمية الجسام التي تواجهها مؤخرًا.
وفي خضم تلك الخيوط المتشابكة تتعرض البلاد لانتقادات لاذعة بشأن سجلها الحقوقي المشين والانتهاكات السلطوية التي أثارت حفيظة واستهجان العديد من المنظمات الحقوقية في الداخل والخارج، في ضوء تشريع بعض القوانين واللوائح التي قوبلت باستياء شديد لما تحمله من تكريس لتلك الوضعية الحقوقية المتدنية.
ونتاجًا لتلك الانتكاسة الحقوقية تصاعدت المخاوف بشأن انعكاس التهاوي الواضح في هذا الملف على المنح والمساعدات التي تتلقاها عمّان من دول عدة أبرزها الولايات المتحدة، بخلاف التداعيات السلبية المتوقعة على مظلة الاستقرار والأمن الداخلي، وهو ما يمكن قراءته في ردة فعل الشارع الأردني حيال العديد من المسائل في الآونة الأخيرة منها مسائل حقوقية بحتة.
وضع حقوقي متردٍ
تعاني المملكة من تراجع حاد في المؤشرات الحقوقية وفق التقارير الإقليمية والدولية، ففي مارس/آذار الماضي طالبت المفوضية السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشليه، الحكومة الأردنية بالسماح بالعمل النقابي وفتح الباب أمام الحريات والتعبير عن الرأي، مدينة تضييق الخناق الممارس على حرية التعبير والتجمع في البلاد.
وفي تقرير المفوضية السنوي لهذا العام، تراجع الأردن ليصبح “دولة غير حرة” وفق سلم الحريات المدنية والحقوقية، وذلك بعدما كان مصنفًا ضمن الدول الحرة جزئيًا العام الماضي 2020، وهو العام الذي شهد إجراء الانتخابات العامة التاسعة عشر للبرلمان الوطني، هذا في الوقت الذي أقحمت فيه عمّان نفسها في أزمات داخلية كان لها دورها في هذا التراجع.
إزاء التراجع الواضح في الوضعية الحقوقية الداخلية تصاعدت مخاوف الربط بين منظومة الدعم والمنح الأجنبية من جانب، ومعدل الإنجاز في هذا الملف من جانب آخر
وفي مؤشر الديمقراطية للعام الحاليّ، تراجعت عمّان في مؤشرات تقييم وضع الحريات، فقد حصلت على 3.8 نقطة من عشر نقاط في المؤشر العام الموقع من قبل 118 من بين 167 دولة بينها 164 دولة عضوًا في الأمم المتحدة، فيما صنف تقرير صادر عن وحدة الاستخبارات في مجلة “إيكونومست” الأردن كـ”نظام سلطوي” رغم وجود الأحزاب والنقابات والبرلمان.
ونتيجة لهذا التراجع الحاد، أطلق نشطاء أردنيون حملة إلكترونية لحث الحكومة على احترام حقوق المواطن، تزامنًا مع جدل بشأن التشريعات الجديدة المعدلة التي تتضمن تقييدًا للحريات الصحافية وحق التعبير عن الرأي، وفي المقابل قلل وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، من شأن تلك المؤشرات، زاعمًا أن أداء بلاده لا يزال أفضل من معظم دول المنطقة على حد تعبيره، مضيفًا “نعلم أن الأردن ليس السويد، لكننا نعلم أيضًا أننا من بين أفضل الدول القليلة جدًا عندما يتعلق الأمر بحرية التعبير في الشرق الأوسط”.
الأوضاع ازدادت تفاقمًا بعد نشر تسريبات “باندورا” التي كشفت ممارسات عاهل البلاد، الملك عبد الله الثاني، غير الأخلاقية، بشأن اللجوء إلى ملاذات آمنة لإخفاء ثرواته العقارية الضخمة، عبر شركات وهمية مملوكة له، في وقت يواجه فيه الشعب الأردني أوضاعًا معيشية صعبة، ما وضع الملك في مرمى الانتقادات الحقوقية الدولية.
مخاوف بشأن مستقبل الدعم الخارجي
التقرير الذي نشرته مجلة “إيكونومست” وصنف الأردن كـ”نظام سلطوي” أشار إلى ممارسة مجموعات ضغط أمريكية من بينها “مشروع ديمقراطية الشرق الأوسط”، وهي مجموعة مناصرة مقرها واشنطن، ضغوطات عدة على الإدارة الأمريكية لربط المساعدات للأردن بالإصلاح السياسي.
وفي السياق ذاته طالبت مجموعة “بيندر” الحقوقية، التي لها وجود كبير بين أوساط صانعي القرار في واشنطن، الإدارة الأمريكية الجديدة بفرض شروط صارمة وحاسمة على عمّان في مقابل الحصول على المنح والدعم الأمريكي، ومن بين تلك الشروط ضرورة إجراء إصلاحات اقتصادية وحقوقية وسياسية في البلاد.
ورغم تأكيد واشنطن على أهمية تحالفها مع عمّان كما جاء على لسان الخارجية الأمريكية في ردها على تلك الدعوات، بأن “المساعدات للأردن تصب في مصلحة الأمن القومي المباشر للولايات المتحدة”، واصفة المملكة بأنها “حليف لا يقدر بثمن”، فإن استمرار وحجم تلك الضغوط لا شك أنها سيكون لها تأثيرها مستقبلًا على هذا الملف الحيوي بالنسبة للأردنيين.
بحسب المرصد العمالي الأردني فقد شهدت البلاد أكثر من 145 احتجاجًا عماليًا خلال 2020
وإزاء التراجع الواضح في الوضعية الحقوقية الداخلية تصاعدت مخاوف الربط بين منظومة الدعم والمنح من جانب، ومعدل الإنجاز في هذا الملف من جانب آخر، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تهديد واضح للمنظومة الاقتصادية الأردنية، لاسيما أن المملكة ثاني أكبر متلق للمساعدات الأمريكية في المنطقة بعد “إسرائيل”.
يذكر أن واشنطن كانت قد أكدت لعمّان حصولها على 1.3 مليار دولار لمدة خمس سنوات بدءًا من 2018، وفي عام 2021، خصصت 1.7 مليار دولار، بما في ذلك 845 مليون دولار لدعم الميزانية بشكل مباشر، هذا بخلاف مذكرة تفاهم جديدة على وشك التوقيع تقر تقديم الولايات المتحدة لـ 6.5 مليار دولار للمملكة خلال السنوات القادمة، فيما بلغ إجمالي ما قدمته أمريكا للأردن من مساعدات منذ عام 1951 أكثر من 20 مليار دولار، وذلك حسب الموقع الرسمي للسفارة الأمريكية في عمّان.
تهديد الاستقرار الداخلي
لا يمكن قراءة التردي الحقوقي بمعزل عن تداعياته على خريطة الاستقرار الداخلي، فالأول سبب رئيسي في تهديد الآخر، إن لم يكن على المدى القريب فالبعيد هو الأرجح، فالغضب الناجم عن الانتهاكات الحقوقية سيقود حتمًا إلى شحن حالة الاحتقان التي مع مرور الوقت تتطور من الحالة النفسية إلى السلوكيات والممارسات الحياتية وهو ما قد يذهب في نهاية المطاف إلى وضع مفاهيم الاستقرار والتماسك المجتمعي في اختبار صعب قد لا يمكن تجاوزه دون خسائر فادحة.
العديد من التقديرات المحلية تشير إلى أن المملكة – خلال الفترة القادمة – باتت مرشحة لاندلاع احتجاجات شعبية مشحونة بالغضب من تردي الحريات والأوضاع المعيشية الصعبة، خاصة في ظل تصاعد معدلات الفقر والبطالة والتضخم بصورة غير مسبوقة، وما تلى ذلك من تغيير جذري في منظومة التناسق المجتمعي.
الأعوام الثلاث الأخيرة شهدت فيها المملكة موجات احتجاجية عارمة، ربما كان شعارها الأبرز الوضعية الاقتصادية الصعبة، لكن في الحقيقة هناك قائمة مطولة من الدوافع التي قادت الأردنيين للنزول إلى الشارع رغم القيود والتضييقات الأمنية المفروضة، على رأسها تردي مستوى الحريات، وبحسب المرصد العمالي الأردني فقد شهدت البلاد أكثر من 145 احتجاجًا عماليًا خلال 2020.
القلق من فقدان السيطرة على الوضع الداخلي والولوج في أتون من الفوضى تجاوز الداخل الأردني إلى الكيان المحتل، فقد حذر “مركز أبحاث الأمن القومي” في تل أبيب من تداعيات بالغة الخطورة على الأمن الإسرائيلي جراء التحديات التي تهدد استقرار نظام الحكم في الأردن.
المركز الإسرائيلي يرى أن التهديدات التي تقوض الاستقرار في المملكة ربما يكون لها تأثيرات مباشرة على الأمن الإسرائيلي، وستؤثر بالتبعية على مكانة تل أبيب في التوازن الإستراتيجي الإقليمي، وعليه فقد أوصى بضرورة تطوير الحوار مع السلطة الأردنية وهو ما يفسر رسائل التودد التي يرسل بها رئيس حكومة الاحتلال، نفتالي بينيت، منذ توليه منصبه للأردن.
ومن هنا فإن التحديات التي تواجه المملكة على المستويين الاقتصادي والأمني ومن ثم السياسي، ستضعها في اختبار صعب إزاء الملف الحقوقي الذي بات يمثل خنجرًا في ظهر النظام الأردني الحاليّ الذي يجد نفسه مدفوعًا نحو إصلاحات عاجلة قبل فوات الأوان، فهل تنجح عمّان في الاختبار؟