لم تكتفِ الحرب التي تشهدها اليمن منذ سنوات بتدمير البنية التحتية والاقتصاد الوطني للبلاد فحسب، إذ إنها تسبّبت في تفسّخ العلاقات الأسرية، وتوسيع دائرة العنف الأسري، وارتفاع معدل الجريمة بشكل ملحوظ.
ومع دخول الحرب في البلاد عامها السابع، تضاعفت معاناة المواطنين نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية، وانقطاع الرواتب الحكومية وانعدام فرص العمل، وذلك بدوره انعكس سلبًا على الاستقرار الأسري، وساهمَ بتوسيع ظاهرة العنف الأسري بشكل غير مسبوق بمختلف المحافظات اليمنية.
وخلال السنوات الماضية وما صاحبها من معارك في مدن ومناطق مختلفة في البلاد، ظهرت إلى السطح المئات من القصص والحكايات المرعبة لضحايا تعرّضوا للتعذيب والعنف الأسري، لم يكن اليمنيون يسمعون سابقًا بها، وكان حدوثها نادرًا قبل اندلاع الحرب في اليمن.
اتّساع دائرة العنف
في سياق متّصل انتشرت ظاهرة العنف الأسري بشكل لافت، وفي كل يوم هناك قصص وحكايات مؤلمة ومآسٍ حزينة لنساء وأطفال ضحايا للعنف الأسري، حيث يشير استطلاع حديث لـ”الباروميتر العربي” بأن اليمن من أكثر الدول العربية في انتشار ظاهرة العنف الأسري، الذي يشمل استخدام العنف من قبل أحد أفراد الأسرة تجاه آخر، إذ يعاني نحو 26% من الأسر في اليمن من العنف الأسري.
الشاب العشريني مجدي سعيد (25 عامًا) من ريف محافظة إب وسط اليمن، تعرّض للضرب والتعنيف بشكل عنيف من قبل ولده أصيب على إثرهما باضطراب نفسي أثّر على حياته وحرمه من مواصلة تعلمية الجامعي.
ويروي أحد أقارب مجدي تفاصيل حول تعرُّضه للإصابة بأمراض نفسية لـ”نون بوست”: “بعد أن تخرّج مجدي من الثانوية العامة كان والده يُقدم على تعنيفه بشكل وحشي، وكان يقوم بطرده ويمنعه من دخول البيت، وكان يحرمه من تناول الطعام والشراب طالبًا منه الخروج للبحث عن عمل رغم انعدام فرص العمل بفعل استمرار الحرب في اليمن للعام السابع على التوالي”.
ويضيف أن والد الشاب مجدي يعمل في التربية والتعليم بمحافظة إب، الخاضعة لسيطرة الحوثيين منذ خريف 2014، وراتبه الحكومي منقطع منذ العام 2016، إذ يعاني من ظروف معيشية بالغة الصعوبة على غرار مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين الذين يعيشون أوضاعًا قاسية، نتيجة استمرار انقطاع رواتبهم الحكومية في مناطق سيطرة الحوثيين.
لا يخرج من البيت إلا نادرًا ويسمع كافة جيرانه صوته المرتفع أثناء ممارسة العنف ضد أطفاله وزوجته.
ويلفت إلى أن حياة القتامة والبؤس الذي كان يعيش فيها والد الشاب مجدي، غيّرت حياته إلى الأسوأ وأثقلت كاهله وجعلته أكثر قساوة على أطفاله، لافتًا إلى أنه يتحسّر على حياة مجدي ويحاول معالجته، إلا أن ضيق ذات اليد يمنعه من ذلك.
تمامًا مثل مجدي، يتعرّض الطفل أسامة محمود (17 عامًا) للتعنيف والمعاملة القاسية من قبل والده في العاصمة اليمنية صنعاء، الواقعة تحت سيطرة الحوثيين منذ العام 2014.
يقول أحد جيرانه لـ”نون بوست” إن “والد الطفل أسامة كان قبل اندلاع الحرب في اليمن يعاني من مرض السكّري، لكنه بعد سنوات الحرب أصبح كما لو أنه مصاب بحالة نفسية، حيث لا يخرج من البيت إلا نادرًا ويسمع كافة جيرانه صوته المرتفع أثناء ممارسة العنف ضد أطفاله وزوجته”.
ويضيف أن زوجته بفترة من الفترات اضطرت للخروج إلى الشارع لتوفير لقمة العيش لأفراد عائلتها، وتوفير تكاليف “القات” لزوجها خوفًا منه، وحاليًّا تعتمد على تموين المنظمات وتحاول العمل لتأمين الغذاء لأفراد عائلتها، على غرار مئات النساء العاملات في اليمن.
الحرب والمعيشة القاسية سبب رئيسي للعنف الأسري
مع انتشار ظاهرة العنف الأسري في اليمن بشكل لافت، ترى رئيسة مؤسسة قرار للإعلام والتنمية المستدامة، قبول العبسي، أن “الحرب في اليمن تسبّبت في ارتفاع نسبة الجريمة والعنف الأسري، خاصة العنف ضد النساء سواء من قبل أزواجهن أو أهلهن، إذ أصبحنا نسمع بها بشكل يومي”.
وتضيف العبسي لـ”نون بوست” أن “ظاهرة العنف الأسري ظاهرة دخيلة على المجتمع اليمني، لافتة إلى ارتفاع معدلات العنف الأسري بشكل لافت، خصوصًا إبّان تفشّي وباء كورونا في اليمن”.
ويقول الناشط في قضايا النوع الاجتماعي معتز الشرجبي: “إن الحرب في اليمن ساهمت بشكل كبير في توسيع دائرة العنف وارتفاع قضايا العنف الأسري في المجتمع اليمني، خصوصًا العنف ضد النساء أو العنف الموجَّه ضد الأطفال”.
ينعكس انضمام بعض الشباب إلى صفوف أحد أطراف النزاع في البلاد سلبًا على حياة أسرهم بعد عودتهم إلى منازلهم.
وأضاف الشرجبي في تصريح لـ”نون بوست” أن “التدهور الاقتصادي الشديد الحاصل في البلاد أدّى إلى ارتفاع مستوى الاضطرابات النفسية بين الذكور بشكل خاص، وذلك بدوره انعكس على مستوى الاستقرار الأسري بشكل عام”.
يوافقه في الرأي أستاذ علم الاجتماع بجامعة تعز الدكتور محمود البكاري، قائلًا لـ”نون بوست”: “إن الوضع المعيشي والاقتصادي المتردي للمواطنين نتيجة استمرار الحرب في البلاد، أحد الأسباب الرئيسية في انتشار ظاهرة العنف الأسري”.
ويلفت البكاري إلى وجود أسباب أخرى، من بينها سوء التوافق بين الزوج والزوجة، وذلك يعود إلى الزواج المبكّر الذي يكون من دون قناعة، أو إلى عملية التنشئة الاجتماعية، وأسباب أخرى تؤدّي إلى غياب الاستقرار النفسي والاجتماعي لأفراد الأسرة والمجتمع، كما أن العنف الأسري ظاهرة اجتماعية مدمِّرة لكيان الأسرة والمجتمع بشكل عام.
غياب القوانين
في ظل انتشار ظاهرة العنف الأسري في اليمن، فإن الكثير من النساء والأطفال فقدوا حياتهم أو تعرّضوا للإصابة بأمراض مزمنة نتيجة تعرضهم لتشوُّهات جسدية بفعل التعذيب والعنف من قبل أحد أقاربهم، وسط غياب تام للقانون الذي من شأنه تجريم ومحاسبة مرتكبي جرائم العنف ضد أهلهم في المجتمع.
ويرى معتز الشرجبي “أن من الأسباب التي أدّت إلى ارتفاع حالات العنف الأسري في المجتمع اليمني، غياب القوانين وعدم تفعيلها، لافتًا إلى أن القوانين اليمنية لا تجرّم العنف الأسري، خصوصًا العنف الممارَس ضد النساء”.
وحتى إن وُجد تجريم للعنف، إلا أن الشرجبي يقول لـ”نون بوست” إن النساء لا يقُمن بتقديم بلاغات إلى الجهات المعنية بسبب الخوف من العيب، وهي فكرة خاطئة يجب التخلُّص منها.
ويلفت الشرجبي إلى وجود أسباب أخرى للعنف تتعلق بضعف الوازع الديني وعدم وعي الذكور في الأسر بكيفية التعامل مع الإناث بشكل عام، مضيفًا أن هناك أسبابًا أخرى متعلقة بالعادات والتقاليد والتنشئة الاجتماعية التي اعتادَ فيها الذكر على أنه هو القائد أو ما يُسمّى بـ”السلطة الذكورية”، خصوصًا في المناطق الريفية.
تأثير العيش في بيئة عنيفة
ينعكس انضمام بعض الشباب إلى صفوف أحد أطراف النزاع في البلاد سلبًا على حياة أسرهم بعد عودتهم إلى منازلهم، إذ إن البيئة العنيفة التي يعيشون فيها أثناء تواجدهم في جبهات القتال جعلتهم أكثر قساوة.
يقول معتز الشرجبي إن “فئة واسعة من الشباب انخرطوا مع أطراف النزاع في البلاد، وبالتالي أصبحوا أكثر عنفًا في حياتهم اليومية بسبب تواجدهم في بيئة عنيفة، خاصة الذين ذهبوا إلى جبهات القتال وعندما رجعو إلى أسرهم صاروا عنيفين وغير قادرين على التكيُّف مع أسرهم بشكل مثالي أو بشكل طبيعي”.
في بداية سبتمبر/ أيلول الماضي حاولت إحدى النساء في مدينة إب إحراق نفسها، وأشعلت النار في جسدها بسبب تعرُّضها للضرب والتعذيب من قبل زوجها، لكنها فشلت وتمَّ نقلها إلى مستشفى جبلة لتلقّي العلاج، ووفقًا لوسائل الإعلام المحلية فإن زوجها الذي كان يمارس العنف ضدها حاولَ أيضًا أخذ أولادها، وكان يذهب لزيارتها في المستشفى ليس بهدف الاطمئنان عليها بل لتهديدها بأخذ أطفالها.
ينهي الشرجبي حديثة مشدِّدًا على ضرورة القيام بحملة مناصرة للمطالبة بمضاعفة العقوبات ضد من يمارسون العنف الأسري في المجتمع اليمني.
وبحسب ما نقلته وسائل الإعلام المحلية في اليمن، فإن زوجها يعمل جنديًّا لدى سلطات حوثية غير معترف بها، كما أنه شارك في جبهات القتال.
تعتقد قبول العبسي أن “النمو الاقتصادي وتمكين النساء في اليمن من شأنهما أن يساهما في التخفيف من انتشار ظاهرة العنف، مشدِّدة على ضرورة توعية المجتمع لتغيير الصورة النمطية التي تقول إن من حق أولياء الأمر أو الزوج تربية زوجته أو أخته كما يشاء”.
ويرى الدكتور محمود البكاري أن “معالجة ظاهرة العنف الأسري تتطلب وضع حلول ومعرفة أسباب العنف، مشدِّدًا على ضرورة نشر الوعي الاجتماعي بين أوساط المجتمع بخطوره هذه الظاهرة”.
يوافقه معتز الشرجبي في الرأي قائلًا إن “رفع مستوى الوعي في المجتمع وتفعيل القوانين الخاصة بالعنف الأسري من شأنهما أن يساهما في التخفيف من ارتكاب جرائم العنف”، ناهيًا حديثة بالتشديد على ضرورة القيام بحملة مناصرة للمطالبة بمضاعفة العقوبات ضد من يمارسون العنف الأسري.
بالمحصلة.. تولّد الحرب أشكالًا عديدة للعنف، أقل ضجيجًا ولكنها لا تقل هتكًا وأثرًا، والعنف الأسري أحد تلك الأشكال، ويصعب القول إنه قبل أن تضع الحرب أوزارها سيكون ممكنًا المطالبة بتشريعات وقوانين للردع؛ في ظل الشتات الحكومي وتفسّخ السلطة وتمزق البلاد وفوضى السلاح، وربما كان الدور في هذه المرحلة على كاهل المجتمع المدني الذي وإن كان لا يملك السلطة، إلا أن لديه القدرة على شن حملات التوعية في كل حي من أحياء اليمن، وربما الوصول إلى كل بيت.