كثيرًا ما حاول الاستعمار الفرنسي ترويج فكرة مفادها أن الجزائر قبل الاحتلال لم تكن إلا مستعمرة تابعة للعثمانيين لا حول ولا قوة لها، لكن بالرجوع قليلًا إلى الوراء والبحث في هذه المزاعم يتبين لنا أن الجزائر كانت دولة لها كيان مستقل ذات سيادة، وكانت تمتلك كل عناصر الدولة.
في هذا التقرير لـ”نون بوست” الذي نفتتح به ملف “الجزائر العثمانية”، نتحدث عن دولة الجزائر في الزمن العثماني، وكيف امتلكت مقومات الدولة المستقلة بمساعدة العثمانيين، عكس ما يروج له الفرنسيون الذين عملوا على تحريف الحقائق وتزييفها، ثمّ فُجِعوا من عدم تصديق الشعب الجزائري لها.
ليست مستعمرة
ما من دولة مهيمنة مستعمِرَة تدخل بلدًا ما بقوة السلاح، إلا واستحوذت على ثرواته وتحكمت في قراره السيادي وجعلته تابعًا لها يأتمر بأمرها، في هذه الحالة يمكن لنا أن نتحدث عن مستعمر ومستعمرة، فلنحاول أن نطبق هذه النقاط على حالة الجزائر في العهد العثماني.
هل دخل العثمانيون الجزائر بقوة السلاح ودون إرادتهم؟ الإجابة قطعًا لا، فقد دخلوها بعد أن استنجد بهم أهل الجزائر لتخليصهم من خطر الغزو الصليبي ورغبة الإسبان في السيطرة على بلادهم وكامل شمال إفريقيا بعد تمكنهم من بلاد الأندلس.
يعني أن العثمانيين، زمن انهيار حكم الدولة الزيانية وانقسامها على نفسها إلى إمارات صغيرة مفكَّكة متناحرة، جاؤوا إلى الجزائر مخلصين وداعمين وليسوا محتلين، فقد تم الاستنجاد بهم لقيادة حركة المقاومة الإسلامية لتحرير سواحل الجزائر وتقديم الدعم اللازم لمسلمي الأندلس، فهم القوة الوحيدة القادرة على قيادة مقاومة متماسكة وموحَّدة، تتصدى للتهديد الصليبي على البلاد.
من بين الاتفاقيات التي أبرمتها الجزائر كدولة “معاهدة الصداقة والسلام” مع الولايات المتحدة الأمريكية
تذكر كتب التاريخ أن الأخوين بربروس تلقيا رسالة استغاثة من أهالي قلعة بجاية الجزائرية أوردها خير الدين في مذكراته تقول نصًا: “إن كان ثمة مغيث فليكن منكم أيها المجاهدون الأبطال، لقد صرنا لا نستطيع أداء الصلاة أو تعليم أطفالنا القرآن الكريم لما نلقاه من ظلم الإسبان، فها نحن نضع أمرنا بين أيديكم، جعلكم الله سببًا لخلاصنا”.
بعد ذلك طلب وجهاء الجزائر على اختلاف مستوياتهم الدخول تحت راية الخلافة العثمانية، وذلك في رسالة إلى السلطان العثماني سليم الأول سنة 1519 بعد أن دخلت الشام ومصر والحجاز تحت راية العثمانيين، بحكم صعود هذه الإمبراطورية الإسلامية، التي التف حولها المسلمون في البقاع التي دخلت تحت نفوذها باعتبارها نظامًا إسلاميًا عامًا يندرجون تحت رايته.
هذه الرسالة موجودة في دار المحفوظات التاريخية بمدينة إسطنبول، وترجمها إلى العربية المؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي، في بحث بعنوان “أول رسالة من أهالي مدينة الجزائر إلى السلطان سليم الأول سنة 1519″، نشرته المجلة التاريخية المغربية التي كانت تصدر في تونس في العدد السادس، شهر يوليو/تموز 1976.
نمر إلى النقطة الثانية، هل استحوذ العثمانيون على ثروات الجزائر؟ كتب التاريخ تقول لا، ذلك أن العثمانيين لم يكونوا يستحوذون على الإنتاج، وكانت غايتهم القصوى مساعدة الجزائر ولا هم لهم في ثروات البلاد، بل بالعكس قدموا للأهالي العطايا حتى ينهضوا بالبلاد التي كانت تشهد أزمات كبرى نتيجة عوامل عدة.
سبق أن أكد رئيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر عبد الرزاق قسوم ردًا على تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بخصوص الوجود العثماني في الجزائر الذي وصفه بـ”الاستعمار”، أن “العثمانيين الذين جاؤوا إلى الجزائر لم يدخلوها محتلين مستعمرين، وإنما جاؤوا بدعوة من الجزائريين الذين طلبوا المساعدة من السلطان العثماني سليم الأول لدحر العدوان الصليبي الإسباني”.
ولفت قسوم إلى أن العثمانيين لم يقتلوا ولم يحاربوا الجزائريين ولم ينهبوا ثرواتهم، قائلًا “لم يفرضوا علينا لغتهم كما لم يحاربوا معتقداتنا ولا مذهبنا بدليل أن الجزائر كانت قبل قدومهم إلى الجزائر مالكية المذهب وبقيت كذلك بعد رحيلهم”.
هل تحكّم العثمانيون في قرار الجزائر السيادي، وجعلوها تابعة لهم؟ الإجابة أيضًا لا، فالكلمة الفصل بقيت لأهل الجزائر في أغلب الوقت، يختارون حكمهم، إلا في مرات قليلة كان الحاكم يعيّن من الأناضول، لدرء الفتن ومكافحة الفساد.
سؤال آخر: هل مارس العثمانيون القمع ضد أهل الجزائر وتحكموا في مصيرهم وصادروا رأيهم؟ الإجابة، وفق ما قرأنا في مراجع تاريخية عدة هي أيضًا لا، فقد كانت بين الطرفين علاقات متقدمة ومتطورة حتى أصبحنا نحكي عن كيان واحد لا فرق بين الجانبين، حتى في المرات التي تم ممارسة العنف فيها كانت بهدف حفظ النظام.
يعني هذا أننا لم نكن أمام مستعمرة، فحالة الجزائر والعثمانيين لم تنطبق عليها شروط المستعمر والمستعمرة، وهو ما يُفسر ترحيب أهل الجزائر بالعثمانيين منذ أول يوم وطئت قدمهم أرضهم، وما زال هذا الترحيب إلى الآن، فهم يكنون لهم الاحترام والتقدير لما قدّموه لهم.
يقول الباحث الجزائري غالم محمد في دراسة بعنوان “الجزائر في الفترة الحديثة”: “الجزائر ليست مستعمرة.. إن الدولة الجزائرية كيان مستقل وسيّد دون منازع، تستجيب للمواصفات المعتمدة في القانون الدولي”، ويضيف في نفس الدراسة “لقد نجح الأتراك في مد الجزء الأوسط من المغرب باستقلالية سياسية وجغرافية تميزها عن البلدان المجاورة”.
وقبل أيام، أكد وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة أن بلاده وتركيا “تمتلكان علاقات تاريخية عميقة”، مشيرًا إلى أن أنقرة أسهمت في التنمية بالجزائر، وهي تتطلع إلى مزيد من الاستثمارات التركية خلال الأيام القادمة، الأمر نفسه الذي أكّده الرئيس عبد المجيد تبون.
مقومات الدولة
عندما نتحدث عن دولة قائمة بذاتها، لا بد أن نجد بعض المقومات فيها، فالدولة تُعرّف بأنها منطقة جغرافية مُحددة من الأرض يسكنها وينظمها مجموعة من الأشخاص، وتحكمها حكومة شرعية منظمة، خالية من أي سيطرة خارجية، وذلك لممارسة سيادتها داخل منطقة اختصاصها.
من هذه المقومات، الإقليم والرقعة الجغرافية، أيضًا الشعب، والحكومة والسيادة، فهل تتوافر هذه المقومات في الجزائر زمن الوجود العثماني؟ نبدأ بالإقليم، خلال العهد العثماني كان للجزائر إقليم محدد المعالم في شماله غربًا وشرقًا، استدعى منهم الصمود أمام كل المحاولات التوسعية من الحفصيين شرقًا والسعديين/العلويين غربًا، أما الحدود الجنوبية فقد كانت مفتوحة، ذلك أنها منطقة غير مسكونة، وهو ما لا يؤثر على وحدتها الإقليمية.
أما شرط الحكومة والسلطة، فهو أيضًا متوافر، فقد أمد العثمانيون الجزائر بسلطة عمومية مركزية تمد سلطتها على كامل الإقليم الواحد، ولها نظام إداري يوحد البلاد، ونظام جبائي يجعلها مميزة عن البلدان المجاورة (تونس والمغرب).
على عكس ما يروج له الفرنسيون وبعض المؤرخين الذين يسوقون لرؤيتها، كانت العلاقة بين العثمانيين والجزائريين يسودها الاحترام والتعاون المتبادل
في خصوص شرط الشعب، فقد كان متوافرًا كذلك، ففي تلك الفترة كان هناك سكان أصليون تتحدد صفتهم كمجموعة تنتمي للإقليم نفسه الذي يحدد بدوره مجالها، فهم يخضعون للسلطة نفسها والكيان نفسه، فبعد أن كانت تسميته مقصورة على عاصمته، مدينة الجزائر، أصبح معممًا على كل الإقليم الناشئ أي على بلاد الجزائر.
أيضًا كان للخزينة المالية الجزائرية استقلالية، فقد تم صك العملة باسم الجزائر، كما أن حكومة البلاد هي المسيطرة على سياسة البلاد التجارية الخارجية والداخلية، وهي المحدد للدول التي تتعامل معها في المسائل المالية والاقتصادية.
اعتراف دولي وإبرام اتفاقات
إلى جانب هذه المقومات السابق ذكرها، لا بد من الاعتراف الدولي حتى نقول إننا أمام دولة، فكم من مجموعة من الناس تسكن نفس الإقليم ولها سلطة واحدة تعلن عن دولة مستقلة لكن دون أن يعترف بها المجتمع الدولي، فنكون بذلك أمام دولة غير مكتملة الأركان.
في حالة الجزائر زمن الوجود العثماني، كان هناك اعتراف دولي ثابت بالجزائر، ويتأكد ذلك من خلال الاتفاقيات الدولية التي تبرمها الجزائر باسمها في السلم أو الحرب، وكثيرًا ما كانت تتعارض تلك الاتفاقات مع سياسة الإمبراطورية العثمانية بناء على تناقض المصلحتين.
العديد من المؤرخين يذكرون الجزائر في كتبهم “أيّالة الجزائر”، “الدولة البربرية”، “الدولة الجزائرية”، أي أنهم أجمعوا أننا أمام دولة مستقلة وليس كيان محتل كما تروج له الرواية الفرنسية الآن التي تشكك في وجود كيان مستقل قبل احتلالهم أرض الجزائر.
من بين الاتفاقات التي أبرمتها الجزائر كدولة “معاهدة الصداقة والسلام” مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي وجدت نفسها مجبرة عقب استقلالها عن المملكة البريطانية على توقيعها إثر فشلها في تكوين تحالف أوروبي أمريكي ضد الجزائر.
كما شكلت معاهدات الجزائر مع الدول الأوروبية أهم مظاهر السيادة والاستقلالية، وقد أبرمت الجزائر معاهدات مع دول أوروبية مرتبة على النحو التالي: معاهدات الجزائر مع شبه جزيرة إيبيريا، ثم معاهدات الجزائر مع فرنسا لتليها معاهدات الجزائر مع إنجلترا هذا بالإضافة إلى معاهدات الجزائر مع الإمارات الإيطالية والبلدان الشمالية.
في تلك الفترة، أبرمت الجزائر معاهدات سلام مع أغلب الدول الأوروبية باستثناء روسيا وألمانيا التي كانت تتخذ الجزائر اتجاهها موقف عدم الاكتراث والرفض لعقد الاتفاقيات وإقامة علاقات تضامن مع الخلافة والبعض الآخر نتيجة لاستمرار حالة الحرب.
أغلب هذه الاتفاقيات كانت تبرم بين الجزائر والدول الأوروبية دون الرجوع إلى الأستانة (العثمنيين)، كما كان حكام الجزائر يستقبلون الوفود الأجنبية (البعثات والسفراء)، ويتخذون أختامًا خاصة بالدولة الجزائرية.
كانت الجزائر أقوى دول المغرب الإسلامي بسبب كبر مساحتها وطول سواحلها وغناها الاقتصادي ووفرة تجارتها ورواجها مع الخارج، وكانت علاقاتها مع الخارج أوسع مدى، وكلمتها أكثر تأثيرًا في السلم والحرب، وهو ما أكسبها صفة الزعامة، واعترفت دول أوروبا بها، وأخذت تدفع لها الضرائب والهدايا، وتبرم معها معاهدات السلم، والصداقة تجنبًا لنقمتها وغضبها.
على عكس ما يروج له الفرنسيون وبعض المؤرخين الذين يسوقون لرؤيتها، كانت العلاقة بين العثمانيين والجزائريين يسودها الاحترام والتعاون المتبادل، كما أن العثمانيين ساعدوا الجزائريين على إرساء دولتهم الحديثة التي كان لها نفوذ ومكانة كبرى في البحر الأبيض المتوسط، سيتم التطرق إليها في عدد قادم من ملف الجزائر العثمانية.