ترجمة حفصة جودة
كان قدر المجدّرة معبأ وجاهز بالإضافة إلى جرة صغيرة من الزيتون وبعض الخبز، كان الشتاء قد حل في تلك القرية الجبلية الفلسطينية بالجليل وكانت عبلة حسين – 86 عامًا الآن – طفلةً في ذلك الوقت لم تتجاوز 7 أو 8 سنوات، استعدت عبلة وأسرتها للمشي قرابة الساعة حتى بستان الزيتون حيث سيقضون اليوم بأكمله، وهكذا كل يوم خلال موسم حصاد الزيتون الذي يستمر 3 أشهر.
كان الزيتون الذي زرعوه ممتلئًا بالزيت، تقول عبلة: “كان هناك الكثير من الزيت بداخله، وكان الزيت حلوًا للغاية حتى إنه ينزلق داخل حلقك”.
اشتهر زيت زيتون قرية الرامة بأنه الأفضل في البلاد وحتى المنطقة بأكملها، كما أنه جوهر هوية القرية، عند خروجه طازجًا من المعصرة يبدو كسائل ذهبي لامع، تذكرك نكهته بالأعشاب البرية وأوراق الهندباء التي تنمو حول أشجار الزيتون، يصف الناس هذا الزيت بأنه ناضج وناعم كالسمن.
بينما أصبح جنوب إسبانيا وجنوب شرق إيطاليا أكبر منطقتين لإنتاج زيت الزيون التجاري في العالم، فإن الأدلة تشير إلى أن الأراضي المحيطة ببحر الجليل – حيث تقع الرامة على منحدرات جبل حيدر – كانت يومًا ما أهم منطقة لإنتاج الزيتون، ويشير بحث حديث إلى أن المكان من أقدم الأماكن التي زرعت الزيتون أيضًا، إذ يعود تاريخها إلى 5000 قبل الميلاد.
اليوم يحيط نحو 2000 فدان من أشجار الزيتون التي يعود عمرها لقرون عديدة بقرية الرامة من جميع الاتجاهات، فتبدو كبحر أخضر بينما يبدو حفيف الأوراق كالموج، في مقالات الصحف والكتب وحتى الأشعار، يُوصف الزيتون بأنه “أفضل ما تقع عليه عيناك”، والقرية نفسها “ملكة زيت الزيتون الفلسطيني”.
يخزن يوسف حنا – الطاهي وصاحب مطعم “ماجدولينا” الشهير في طبرية – الزيتون الجديد في أوعية زجاجية بالمجمد حتى يقدمه لرواد المطعم بنكهته الطازجة على مدار العام، يقول حنا – 47 عامًا، من الرامة – إنه جرب زيوت الزيتون من جميع أنحاء العالم، وقد يكون بعضهم قريبًا من النكهة مثل تلك الزجاجة من جبل إتنا في صقلية، إلا أنه ما زال يفضل الصفائح التي يحصل عليها محليًا في الموسم.
يقول حنا: “كل شخص يعتقد أن زيته الأفضل في العالم، لكن زيت الزيتون من الرامة ناعم ولا يحرق، إنه مثل الفاكهة الناضجة، لاذع لكنه حلو”.
يشير مازن علي إلى المثل الشهير “القرد في عين أمه غزال”، ويعد السيد علي المؤسس المشارك لجمعية غير ربحية تهدف إلى الحفاظ على أشجار الزيتون في المنطقة، ورغم أنه من قرية دير حنا المجاورة، فإنه يعترف بأن زيتون الرامة استثنائي، فما الذي يجعل هذا الزيتون جيدًا للغاية، بل ممتازًا؟ هناك العديد من التفسيرات لذلك.
هناك العديد من العوامل كما يقول السيد علي، مثل ذبابة الزيتون، تلك الآفة التي تهاجم أشجار الزيتون من الشاطئ إلى الداخل، هذه الذبابة تجبر القرى الأخرى على حصاد الزيتون مبكرًا حتى لا يفسد المحصول، لكن الرامة بسبب موقعها المرتفع والداخلي نسبيًا تنتظر وقتًا أطول، ما يسمح للزيتون بالنضج فوق الأشجار، هذا ما يمنح الزيتون مرارةً محببةً مع الحفاظ على نعومته وفاكهيته، يضيف علي ضاحكًا “والآن يكفي ذلك وإلا سأغضب، فدير حنا لديه زيت زيتون جيد جدًا كذلك”.
تحدث موسى خلف – 82 عامًا، خبير التقييم العقاري المتقاعد وأحد أصحاب أكبر بساتين للزيتون في الرامة – عن جودة الزيتون السوري الذي ينمو هنا، وهو نوع قديم ينتج الكثير من الزيت، هناك أيضًا المناخال مناسب للزراعة وتربة غنية بالغذاء تحرثها الماشية دون معالجتها بالأسمدة أبدًا، وكذلك التهذيب الدقيق والرعاية طوال العام.
يُجمع الزيتون في ذروة نضجه، يقول السيد خلف: “ليس أخضر وليس أسود لكنه يحتوي على ظلال وبقع خضراء وأرجوانية سوداء”، ما زال الناس يحصدون الزيتون يدويًا في الرامة باستخدام عصا طويلة لإسقاط الزيتون الناضج، بعدها يعصرونه مباشرة وهو ما يجعل طعم الزيتون ناعمًا.
قبل حرب 1948 بين العرب و”إسرائيل” كانت بساتين الزيتون في الرامة تُنتج حتى 250 ألف لتر في العام غزير الإنتاج، كان الزيت يُباع في جميع أنحاء البلاد وفي لبنان وسوريا كذلك، لكن الإنتاج تراجع على مدى سبعة عقود منذ ذلك.
توثق نسب حسين – 34 عامًا، باحثة ومؤلفة ثقافية – مع ابنة أختها هذا التغيير في كتابها “الرامة: قصة غير مروية” الذي نُشر في 2020، تشرح حسين كيف تسبب مصادرة الأراضي من المزارعين الفلسطينيين وإغلاق الحدود مع سوريا ولبنان ونقص العمالة إلى الحد من الجدوى الاقتصادية لزراعة الزيتون، وتضيف “لا يمكن حقًا الفصل بين قصة الزيتون وقصتنا السياسية”.
اعتاد الناس العمل والذهاب إلى المدرسة في الرامة وما زالوا يعتمدون على زراعة الزيتون كمصدر للدخل مثلما تقول حسين، لكن منذ حرب 1948 وحتى 1966، فرض الجيش الإسرائلي أوامره بتقييد الحركة ومنع المزارعين من الوصول إلى بساتينهم.
أُهملت الأشجار وأصبح الإنتاج قليلًا وانخفضت الأسعار، واليوم تعتمد عائلات أقل على زراعة الزيتون عن الماضي، ولم يعد يعزز القرية اقتصاديًا، من الصعب حتى أن تعرف مقدار زيت الزيتون الذي تنتجه الرامة اليوم.
لكن الزيتون ما زال يُعصر حتى اليوم، وأغلبه للاستخدام الشخصي ولا غنى عنه، فهو جزء أساسي من الحياة في القرية، يُستخدم كطعام وعلاج، تقول عبلة: “يمكنك أن تدهن به صدرك إذا كانت مصابًا بالكحة، ويمكنك وضع قطرة دافئة منه في أذن طفلك إذا كانت تؤلمه، لا أفهم لماذا نستخدم حتى الدواء”.
يواصل السيد خلف وزوجته صفاء وأبناؤهم الحفاظ على بساتين الزيتون وقد بدأوا في استكشاف طرق جديدة لبيع الزيتون والزيت خارج البلاد، تقول خلف: “إننا نستخدمه في طبخ كل شيء، اليخنة والمجدّرة وكعك الينسون والملاتيت والمناقيش، لكن من يحتاج حقًا إلى وجبة؟ فأفضل وجبة في العالم هي قطعة من الخبز مغموسة في زيت الزيتون المعصور طازجًا”.
المصدر: نيويورك تايمز